مخطوطة آخر كتاب للراحل ناظم السعود: المدوّنة ألحادية عشرة ؛ اقباس من كتاباتي الصحفيّة (ملف/44)

أحمد ألجنديل :
تمنطق بالقناع واستغاث بمملكة الحيوان!

حتى أشهر قريبة كنت اعتقد أنني اعرف بما يكفي الزميل والقاص والروائي ” احمد الجنديل” كونه يعمل في مجالي القصة والرواية إضافة الى عمله الصحفي الدؤوب في إحدى الصحف البغدادية ، لكنني لا ازعم أنني تغورت في عالمه الأدبي وتفاعلت مع أبرز خصيصاته وقيمه الفنية والفكرية التي كان يكتب عنها ويدعو اليها وربما يعود التقصير إليّ لأنني ( ربما بسبب الجهل او زخم العمل ) قد حصرته – نفسيا – في المجال الصحفي ولم اقنع يومها بإخراجه الى مجاله الأدبي لسبب وحيد وهو أنني أميل الى عالم الصحافة بحكم النشأة والعمل أكثر من بقية المجالات .
وكان يمكن ان تطول فترة جهلي تلك – على الرغم من لقاءاتي المتعددة بالجنديل ان كانت في بيته ام في الندوات – لولا وقوعي في المرض الأخير لأكثر من عام ( من أواسط 2013 وحتى اليوم ) وهنا حصل تبدل كبير في رؤيتي ومتابعتي لعوالم زملائي وأحبتي في الأدب والصحافة وذلك لطول هذه المتابعة الخاصة وقربي أكثر مما يكتبونه ، ولا بد من القول ان ثمة عاملا مهما كان له أثره في استيعاب ما غمض علي وزيادة مساحة اللامعرفة هذه وقد تمثل هذا العامل ب ” الوقت ” الذي وجدته منسفحا أمامي ويتبدى بأشكال مختلفة طوال فترة مرضي وقد كان علي خلالها ان أصحح كثيرا من المفاهيم والاعتقادات الخاطئة التي سيّدتها سنوات العمل او أيام الانشغالات المربكة ولم اعد اعنى بها بعد ان أرقدني المرض على السرير وأصبحت – طوال عام ونصف- أتابع العالم من خلاله .
لقد انتبهت – وهذه من حسنات المرض – الى ان لزميلي احمد الجنديل قصصا وروايات كثيرة هي خارج السباقات الصحفية التي كنت أتابعها واجهل مداراته السردية بالرغم من انه أطلقها في كتب وأهدى بعضها اليّ ولكن قاتل الله نظرتي القديمة التي أبعدتني عنها طوال سنوات ، ولكنني فرح كثيرا لان الأسابيع الماضية قد فتحت لي مدار القراءة المتخصصة والزمن المسفوح بغية ان أعيد النظر وألوم نفسي على قراراتي السابقة واجلي العوالم الحقيقية التي غابت عني لهذا السبب او ذاك ،وأكثر ما أفادني في هذه التجربة هو أنني تعرفت الى كتابات احمد الجنديل في فن” القصة القصيرة جدا” الذي يظهر انه يكتبه منذ بواكيره محملا إياه جملة من أفكاره او يجعل من هذا الفن الخاص – والصعب – محلا لأيدلوجية خاصة .
لكن ابرز ما سيلحظه القارئ، بله الناقد والفاحص ، على هذه القصص ولا سيما ” القصيرة جدا ” منها ان القاص احمد الجنديل انتوى مسبقا على تغيير رؤاه وإضافة ساحة لم تكن في ذهن احد مطلقا واعني بذلك انه اختار الغابة ومخلوقاتها مهادا رئيسا لحركة شخوصه وصراعها معا ( ان كان ثمة صراع) ولا اشك أبدا ان الجنديل استبدل الغابة بأهوال مدينيه وان كانت الاثنتان تلتقيان في ذات المصير الكالح (!) بمعنى آخر فقد وجد الكاتب انه من الاوفق له ( وربما لنا ) ان يسحب سوءات المدينة وجرائرها بل ومضحكاتها الى ملعب نقيض أكثر وسعا وامض رمزا واجلب للامان ولا يتحقق هذا إلا في الغابة !.
واقر أمامكم أنني سأختلف تماما مع الذين قالوا ان الجنديل أراد من اختيار حيوانات الغابة أو ( حيونة القصة )ان يشكل رمزا لكل منها عوضا عن كائنات المدينة وارى ( مخالفا هذا القول ) ان احمد الجنديل لبس قناعا وتمنطق به قبل ان يدخل الغابة ليجوس معالمها ويصف مخلوقاتها ويحل الغابة غير ان المتمعن في النهايات يراها تتطابق مع النيات فقط !، وان قراءة أكثر من عشرة نماذج من هذه القصص المنشورة ترجح ان الجنديل سعى إلى أن تكون غابته مميزة وممهورة باسمه كخالق لها ويجرنا لنتذكر أجواء ” كليلة ودمنة “وترجمتها العربية في التراث !.
ولن نفاجأ لو وجدنا قصص الجنديل هذه تغص بأشكال من الحيوانات وتتزاحم حول مصائر معدة : الأسود / الثعالب / الحمير / الخنازير/ القطط / النسر / مالك الحزين/ الطاووس / البومة / البلابل / الثيران / السلحفاة / الأرنب .. الخ ولكن العجب سيكبر من قدرة القاص على تحشيد هكذا أسماء في مكان حيواني واحد وِلمَ يتم الحشد وما الغاية المرتجاة منه ؟! في ظني ان هذا هو سبب ارتداء القناع في القصة ( وهو يفرق عن القصيدة ) بل والتمنطق به في أحايين واجبة اخرى لو شاء قاص مجيد ( مثل الجنديل ) ان يقدم على الاختيار ويزيح عن بصره أسماء وعناوين كثيرة ، بمعنى ان القناع هنا يدفع الى الاختيار وتقليص المشهد المرئي من كائنات لا ضرورة لها واختصار عددها ان تطلب الموقف ومن الجلي ان الجنديل حين فضل” القناع السردي” فانه اقتنع بالاختيار حلا وحيدا للزحام المتواتر أمامه فلا بد من تقليل العدد وتخفيف الكثافة ولكن كيف؟ اين؟ متى؟ الأسئلة كثيرة ولكن الأجوبة قد تستلزم مراجعة أولية للفهم عبر النماذج .
لو جئنا للقصة الأولى ، وقد أطلق عليها القاص عنوان العلاج القاتل، نكون إزاء مشهد واضح البساطة إذ أن ملك الغابة قد اشتد عليه المرض ولم يعد بإمكانه ان يغادر عرينه فاقترح الثعلب على الحكماء (( إن قلع مخالب الأسد هو العلاج الوحيد لاسترداد عافيته وعودته إلى مركزه كملك للغابة)) وهذا ما حصل فقد شفي الملك من مرضه ولكن ((أنّ ظهره أصبح ملعباً للقطط الصغيرة!)) وليست هناك اية دعابة سوداء برغم من وضوح القص واقتراب القارئ من دائرة القصد بل أجد أن القاص قد لبس قناعا من كثرة ضيم المدينة الذي خزنه في نفسه فاستغاث بالغابة ومخلوقاتها لإيجاد علاج فعال لما هو خارج العلاج ! وهنا لا نتعثر برمز بل ان القاص قد لبس قناعا وبحث في الغابة عن نظير ينشده يكون مستجيبا لنياته هو قبل أي مرموز آخر ، ويتضح هذا في القصة الثانية التي أطلق عليها الاجتماع الطارئ وفيها تجتمع مملكة الطيور للبحث في تحديات المستقبل ولكن ما أشبه هذا الاجتماع ” الذي يجري في الغابة “بذاك الذي ينعقد في المدينة ولكن المدائح المتبادلة والنفاق المسموع تفضيان الى نتيجة متشابهة إذ ان الدماء تغطي صباح الاجتماع بالدماء والأشلاء وكأنه عنوان دموي واحد وتتضح براعة القاص قي انه يجعل ” من البلبل وعشيقته ” يفران معا من الاجتماع الدموي هذا !.
وتقترب القصة الثالثة ( التي اسماها المخاض ) من التنوير وإضاءة المغزى الداخلي بدفق من السرد الكاشف ( او الفاضح ) للقصد الخفي فنحن منذ البداية نقابل ” الثور العجوز ” وقد عثر على ابنه الكبير قتيلا وحتى حين يتساءل ابنه الصغير عمن قتل أخاه يصمت كاظما كأنه يعرف الإجابة ثم يقول: قتله حرّاس الغابة .. وما فعلوه كان هو الصواب !! ومن تفاصيل الحوار نعرف ان الحرس هم في خدمة ( مليكنا المعظم ) الذي لا يمكن ان يظلم لان (( الملوك تخرج من أرحام الحكمة والصدق ، وعندما يولد الملك ، يولد معه الخير..))! ومن خلال العبارة هذه تفتضح القصة كلها ويتبين ان الثور يناور ويكذب ويخفي الحقيقة عمن لا يعرفها وخصوصا الابن الصغير الذي بات الاب يخشى على حياته بعد ان تيقن من ضياع حياة ابنه البكر ، ولكننا عرفنا ان هذه الملهاة يكمن خلفها رأس الغابة او ” ملكنا المعظم ” وانه أرسل الحرس وجيش الجند لأجل التخويف و الاقتصاص من حيوات الثيران وبقية مخلوقات الغابة ما ان يخرجوا عن السنن التي وضعها، وطالما ان الرعية يتعايشون مع الجهل والخوف والارتعاب من قصاص ” الملك العظيم ” فلن يكون ثمة حق وعدل وأمان في دولة الاستبداد هذهّ حتى وان تعلل ( حكماء الغابة ) بحجج تامين السلام والأمن والاستقرار !.
وفي قصة حزينة أخرى ” قد تكون من أواخر ما كتبه الجندبل ” وأطلق عليها عنوانا موحشا (صرخة الموت) نكاد نتلمس الفحوى الذي أشار إليه في غير مكان ، وبرغم قتامه المشهد وروائح الموت التي تلوح من جنباته إلا أن السرد لم يكن حياديا :في لحظة الموت كان جنون الاعترافات يتوالى من ( الأسد العجوز ) حين حاصرته أشباح المنية تدفعه إلى الكشف عن الآثام الكبيرة التي اقترفها طيلة السنوات العجاف التي اعتلى فيها عرش الغابة فصارح شعبه انه سرق خيراته وانتهك أعراضه وسفك دماءه وعبث بمقدساته ، ولكنه إزاء هذه الاعترافات لم يجد من شعبه الا الصمت ثم قال احد ” الحمير ” من حوله : نعرف ذلك جيدا أيها القائد الشجاع !! ولما دنت النهاية أكثر من الأسد اعترف أمامهم بان ما فعله (كان لخدمة أعدائكم من أجل إلحاق الهزيمة بكم وتفويت فرص النجاح على من يأتي بعدكم ) وهاله ان الصمت قد ران من جديد على الشعب إلا صوت النعامة الذي اخترق الجموع قائلا ” هذا ما نعرفه أيها الأسد الشجاع ، فهل من جديد !! ؟” ثم دوت صرخة الملك في عتمة الذبالة لاعنا إياهم ولم تتسع لحظة الموت له حتى يبصق عليهم لكن هذه الإرادة عامت فوقها موجة التصفيق والهتاف بحياة جلالة الملك !!.
إن أية مراجعة ستخبرنا ان القاص احمد الجنديل قد رسم مشهدا فنتازيا وأجاد فيه برغم من انه لا يكاد يصدق بسهولة : فالاعترافات التي تجبر” الأسد العجوز” على الإقرار بها لحظة الموت لا تكون لها اية نتيجة عند الشعب الساكن، مع كونها خطيرة وتمسهم في الصميم ،والتهكم يصل مداه حين يصارحهم المحتضر بأنه سرق وانتهك وسفك وعبث وتعاون مع الأعداء ولكنه يفاجأ بموقف الصمت من الشعب بل ان المتحدث منهم يقول ببساطة أنهم يعرفون ذلك (!) فيتمنى الأسد لو انه أطلق عليهم بصقه كبيرة ولكن الموت يحول دون هذه الأمنية المحتبسة .. ولا اشك ان القاص قد حمل نصه رسالة عاجلة مؤداها أن شعبا كهذا يكون سببا للضياعات والخسارات برغم حالات التصفيق والهتافات التي أدمنها مع كل الحالات حتى لو كانت لحظة الموت وانهمار الاعترافات ولكن بلا مستمع حقيقي !.
نسيت ان أقول ان الجنديل ( في جده وعبثه هذا ) قد حاصرته موبقات وانكسارات متتالية فلم يحتملها فاضطر الى هجر عالم البشر في المدينة ليستغيث بعالم ثان ومن الواضح انه فضل عليها ارتداء القناع ومن ثم التوجه الى بيئة أخرى هي أكثر صحة ومنطقية في عالم ” الحيوان ” !.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *