ضجيج الرغبة… أو خيانة الخيانة ! للأديب والروائي: مصطفى لغتيري
قراءة: عمر الموريف

ضجيج الرغبة… أو خيانة الخيانة !
للأديب والروائي: مصطفى لغتيري
قراءة: عمر الموريف

ليست من عاداتي أن أعلق على عمل أدبي شدني إليه، وفرض علي الغوص بين ثنايا الحرف المعبر والمعنى المعميق، مهما بلغت درجة إعجابي بهذا العمل، ببساطة لأنني لست ناقدا ولا أفهم في أصول النقد على غرار أهل الصنعة والمحترفين، غير أن عشقي لبحر الأدب، ولرونق الكتابة التي بدأت فيها خجولا بإصدارات فتية، هي ما قد يشفع لي أن أكتب عن عمل إبداعي تتضح جاذبيته في قدرته على فرض القراءة الثانية والثالثة، لعلك تكتشف غاية الكاتب من وراء سطوره.
للصدف الخاصة تلك اللمسة الساحرة التي تجرنا أحيانا إلى خوض غمار مغامرة غير محسوبة العواقب، فحين تصفحي للعالم الأزرق إذا بالنظر يقع على تدوينة للأستاذ مصطفى لغتيري يشير فيها إلى تاريخ توقيع عمله الأدبي الجديد، ولكون أن الموعد صادف يوم عطلة وفي المعرض الدولي للكتاب المنظم بالدار البيضاء، حضرتني تلك الرغبة في حضور المعرض الذي لم تتح لي يوما فرصة حضوره كوني أسكن ما وراء ممرات الموت التي قتلت فينا كل أمل..بل كان الهدف هو لقاء الكاتب على أرض الواقع بعد أن تعرفت عليه في العالم الافتراضي، أو هي تلك المحاولة لإخراج العلاقة من شرنقتها الافتراضية إلى بساط الواقع، فكان اللقاء فعلا، وكنت محظوظا أن عثرت على نسخة من رواية ” ضجيج الرغبة” التي شرفني كاتبها بتوقيعه عليها، ومبتسما وهو يكتب الاسم قال بأنه ليس بغريب عنه، فأوضحت له أنني صديق على الفايسبوك.
تتكرر الصدفة، حينما أجد الرواية من أساسها تتحدث عن تحول علاقة خاصة من إطارها الافتراضي إلى العالم الواقعي، تلك العلاقة التي نسج خيوطها بطلي الرواية: هدى ومحسن.
هدى، المرأة الجميلة المتزوجة، لها بنت وبيت..محسن الشاب الثري الطموح، تقوده المشاعر من حيث لا يدري، وبينهما تحضر شخصيات أخرى: أحمد، يوسف، كرتستين، راشيل…حينما تبتعد بنظرك عن الكل، وترحل ساهيا بين مضمر الأحداث تعود وتنظر إلى الغلاف الأنيق، فتظهر لك تلك المدينة الاسمنتية المكتظة بالضجيج حتى ضاقت فيها مساحة التنفس، تعلوها غيمة داكنة كأنها حزن جاثم على صدر كئيب، في الأفق البعيد فرجة مشعة كأنها بصيص أمل في خضم يأس، أو كأنها لحظة أفول لبقايا النهار قبل حلول الدجى… حيث الظلمة تسكن الكيان، فتتحول من الفضاء الخارجي للعالم إلى أعماق الذات البشرية بكل تعقيداتها.
إلى ماذا كان يرمي الكاتب من وراء هذه الحكاية التي تجعل القارئ من أول وهلة يدرك أن سرا ما يكمن في تفاصيلها وخلفياتها؟ يكتشف بعد الصفحات العشر الأولى أن هذا النوع من العلاقات وإن كانت أمرا معاشا في مجتمعنا في الآونة الأخيرة، إلا أن لها نكهة خاصة تجعلك تصر على متابعة سلسلة الأحداث لاكتشاف الحلقة الأخيرة من هذه المشاهد المترابطة التي تجرك من قاع إلى قاع، وحين تصل إلى الصفحة الأخيرة يصدع السؤال في دواخلك بكل توتر: لماذا هكذا؟.
ولأن الأستاذ مصطفى لغتيري روائي، فلن ننتظر منه تلك الإجابة الصريحة المباشرة، فهو من موقعه إنما يمارس تلك الرسالة التي قال عنها الروائي النجيري وول سوسنكا: ” مهمة الروائي الحكي…وليس تقديم الأجوبة!”. لذا قد تختلف القراءات ووجهات النظر، لكن تبقى في نظري القراءة الصحيحة، هي تلك القراءة التي يستنبطها القارئ عن شغف وحب وتأثر مع الوقائع، فإن دأب فقهاء القانون على القول بأنه على مطبقي النص التشريعي أن يبحثوا دوما عن روح النص أكثر من البحث عن حرفيته، فإن ذات القول – ولا شك- ينطبق على العمل الأدبي الجميل لمصطفى لغتيري الذي علينا بدورنا أن نبحث عن روح نصوصه أكثر من التقيد بحرفيتها التي قد تخرجنا عن الهدف المرسوم لأي عمل إبداعي كيفما كان، فالكُتّاب لا يكتبون هكذا عبثا، إنما يكتبون لأجل غاية محددة..كيف يتم إكتشافها؟ تلك هي النقطة الفيصل.
كل من سبر أغوار الرواية سيحضره في البداية مصطلح ” الخيانة” بارزا لا يحتاج كثير تأويل، فالبطلة سيدة متزوجة ولها أسرة، ومع ذلك فضلت مسايرة النزوات الذاتية على حساب كل المعايير الأخلاقية، والبطل إنما هو شاب فر من ضيق المكان وسطوته ( المغرب) إلى فسحة آخر (فرنسا) الذي يترك للحرية الشخصية مجالا أرحب بعيدا عن رقابة المتطفلين، وبين كل هذا وذاك تضيع التيمة الأخلاقية في علاقة يفترض فيها أن تتسم بالعفة والاخلاص والتضحية.
لكن هل لنا أن نبحث عن تلك المبررات التي تسعفنا أن نسطر بين معقوفتين عبارة الخيانة المشروعة؟
هو تساءل ربما سيدفعنا إلى أن نقول بأن الكثير من العلاقات الانسانية التي يربطها ذلك الميثاق الرسمي الغليظ، ومع ذلك تعرف فتور الرابطة التي تنحل أمام أول موجة من المغريات،- سيدفعا- حينما ننقب في أعماقها وتفاصيلها المستورة فقف على حقيقة وجود خلل ما، هذا الخلل الذي لا نملك معه القدرة بالتصريح بأنه من ” الأسباب المبررة” التي تمحو آثار ” جريمة الخيانة”، لأن مناقشة هذه المبررات في العلن قد يجعلنا – ونحن في كامل تخوفنا- في مسار شرعنة هذا السلوك الذي يتنافى مع المجتمع وتوجهاته الدينية والثقافية، لنكون وجها لوجه أمام ما بسطه جون هارينغتون بقوله: ” الخيانة لا تزدهر، لأنها إذا ازدهرت فلن يجرأ أحد على تسمستها خيانة !”.
هنا تحضر لمسة الأديب مصطفى لغتيري في عمله الروائي “ضجيج الرغبة” حينما يسلط الضوء على هذه التفاصيل الدقيقة التي نناقشها سرا وراء الجدران المغلقة همسا، فبعد إلحاح الرغبات الغريزية التي جبل عليها الانسان، والتي قد تفسر انزلاق الكثير منا في لحظة ضعف أمام جبورتها، حتى لو بدا لنا من الزهاد المتدينين، تأتي تلك التساؤلات الخفية التي تدغدغك باستمرار وأنت تنتقل من فصل إلى فصل، فلا تنفك تسأل بصوت مسموع في دواخلك: لماذا؟ وما هو السبب؟ ومن كان السبب؟ ومن هو المسؤول عن هذه النتيجة التي وصل إليها الحدث النهائي في الرواية؟.
إن الرواية بما يعكسه عنوانها من إشارات ” جنسية جرئية” قد سلكت مسارا آخر مغاير، قد يجعل بعض القراء يفاجؤون بهذا التحول الذي فرضته النصوص التي عالجها الكاتب بكثير من الجرأة المحترمة التي حافظت على رزانتها، ونظافة أسلوبها، مما يدل على أن لكاتبها هدف آخر أكبر مما توحيه المعاني السطحية للمؤلف، فنقول وإياه في هذا الصدد: هل نتحمل نتائج نياتنا المضمرة؟ بمعنى أن نجازى بنصفنا الآخر الذي يشبهنا فنجده صورة لنا طبق الأصل بكل مساوئنا وضعفنا وعلاتنا؟ هل ينقلب موضع الفرد بين الجلاد والضحية بمجرد ما نتأمل أنفسنا في المرآة للحظات؟ وبأسلوب الرواية: أليست هدى هي أحمد نفسه بكامل خبثه ودهائه؟… ألم يكن أحمد يتوقع هذه النتائج وهو الذي قبل بزيجة حددت التقاليد والأعراف معالمها، فاختارها عن طواعية وهو يعلم تبعاتها، أقلها الشك في أن تحبك إمرأة لا تعرف عنك شيئا ولا تعرفها؟..إن هذا التداخل بين الشخصيتين هدى وزوجها أحمد الذي يبدو فيه هذا الطرف صورة معكوسة لآخر قد بينه الكاتب في غير موضع، سيما تلك التي استطاع فيها الزوج قراءة الأسرار الداخلية لزوجته، فعلم بخيانتها وهي لا تدري، فعلى لسان الزوج تأتي تلك الكلمات الحاسمة: ” لا تظنينني أبله…أنا أعرف علاقتك به، لقد لا حظت ارتباكك، وتصرفك خلال لقائنا به…” ص114. العلاقة الجدلية هنا ستتجلى في تلك النفسية الباردة التي طبعت أعصاب الرجل، لدرجة أننا نطرح سؤال الحيرة التالي: هل الرجل مولود فعلا في مجتمع محافظ تكون فيه الكرامة تاجا على الرؤوس، وتكون فيها المرأة نفسها هي تلك الكرامة؟ أين تلك الغيرة التي تجعل من رجل مثله يردد المثل المشهور عندنا ” الرجل يموت لأجل أولاده أو بلاده” وكله توتر وحماسة؟، ومن المعلوم أن لفظة ” الأولاد” تمتد لتعني الزوجة بالأساس، هنا هل يمكننا الحكم بوجود خيانة مسبقة؟.
الخيانة لها وجوه متعددة، قد تكون بمعناها التقليدي، وقد تتجسد في دلالات مجازية، فالرواية قد صورت خيانة الزوج في هذا الإطار ضمن ذلك الجشع الذي طبع نفسه، ودفعه إلى أن يجعل أم ابنته سلاحا للوصول إلى مطامعه الشخصية، فكيف لرجل أن تسطع على عينيه غشاوة المال ليتغاضى عن سلوك زوجته المشين، سيما حينما تسلم عربون العمل من محسن كأنه مقابل لتصرفاته غير النبيلة مع زوجته، ولم أجد أجمل من تعبير الكاتب نفسه وهو يصف هذه اللحظة بقوله: ” أحست هدى أن أحمد تناول للتو مهرها من محسن ” ص: 102. فهل يمكننا أن نقول بشيء من اليقين أننا أمام حالة عصيبة عنوانها: خيانة الخيانة؟.
لعل أن من أبرز المفارقات التي صورتها الرواية، ونحن نرسم أولى ملامح ما اصطلحنا عليه ب ” خيانة الخيانة” هي تلك المشاعر الحساسة التي انتابت البطلة وهي تكتشف ” خيانة” عشيقها لها، وهو العشيق ذاته الذي بسببه تخون أيضا!… فهل الكاتب يطرح أمامنا هذا التضاد أو الانفصام الذي تعرفه الشخصية البشرية من حين لآخر؟ كيف لامرأة في أوج ممارستها لفنون الخيانة أن ترفض هذه الخيانة نفسها، إمرأة تتجاوز كل الخطوط الحمراء، وتغامر بكل شيء تلمكه في سبيل إرضاء ميولاتها التي – ربما- حرمت منها مكرهة، فتثور في وجه العشيق الذي ” رأته من بعيد يلوح لها مبتهجا..لم تهتم بتحيته، فقط تابعت هرولتها نحوه..وصلت إليه…التفتت يمينا وشمالا..تأكدت أن لا أحد ينظر إليهما، فرفعت يدها وصفعته بكل ما تملك من قوة وغضب وقهر…” تسأله: ” من تلك العاهرة التي كانت معك في المرقص؟”..تحكم وتفصل في المقام: ” طبعا ليس لك رد…كلكم هكذا لا تستحقون الثقة ولا الحب”!!!. ص 116-117. هو نفسه ذاك التناقض الغريب الذي نعرفه في الكثير من تصرفاتنا اليومية، أن نرضى بالشيء ولا نرض به في ذات الآن، وبحيثيات الرواية المستترة ممارسة الخيانة ضد الخيانة.
صفوة القول، الراواية بأسلوبها الماتع الشيق، الذي يستحضر الكثير من الواقعية في حوار الشخصيات التي أنطقها الكاتب في الكثير من الأحيان بلغتها الأم، تجرنا إلى قاع عميق، وكل جزئية فيها تحتاج إل كثير تفصيل، وقد تسعفنا القراءات التالية إلى استحضار تيمات أخرى، قد تتضح معالمها أكثر إذا ما تتبعنا مسار الكاتب في مشواره الأدبي، لأن الأفكار والتوجهات إنما تنضج وتتطور عبر المراحل،والتي تشكل الكتابة أهم محطاتها.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| جمعة الجباري : قراءة الدلالات الشعرية عند الشاعر صلاح حمه امين في ديوانه “عقارب الساعة التاسعة”.

* صلاح الدين محمد أمين علي البرزنجي المعروف بالاسم الحركي صلاح حمه أمين،  شاعر وفنان …

| اسماعيل ابراهيم عبد : على هامش ذاكرة جمال جاسم امين في الحرب والثقافة – تحايثاً بموازاة عرضه .

الكاتب جمال جاسم أمين معروف بين المثقفين العراقيين باتساع نتاجه وتنوعه كمّاً وجودة , فضلاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *