مقابلة قديمة تعود إلى 1990 مع الشاعر الدنمركي الراحل إريك ستينوس¬ ¬1934-2009
الشعراء غير سعداء، هل انتهى عصر الشعر؟
إلتقيت بالشاعر الراحل إريك ستينوس عندما قدمت للدنمرك عام 1990 حيث حضرت حفل استقبال أقامه الشاعر منعم الفقير الذي تفضل مشكورا ترتيب اللقاء وترجمة القسم الدنمركي من الحوار الذي تم بالأنجليزية والدنمركية. وقد نشرت هذه المقابلة في صحيفة الأيام البحرينية لكني فقدتها، وأعيد نشرها هنا بعد أن عثرت عليها صدفةً فيأرشيفي، ليطلع عليها القراء. وقد التقيت بالشاعر إريك ستينوس أكثر من مرة وساهم بأمسية أدبية مع الشاعر الراحل الآخر بني أندرسن كرسناها لهما في مدينة روسكيلده وترجمتُ له بعض القصائد، وإلتقيته مرة في مظاهرة نظمها اليساريون الدنمركيون عام 1998 إن لم تخني الذاكرة أمام السفارة الأميركية إحتجاجاً ضد قصف العراق من قبل أميركا وبريطانيا وألقى كلمته وقصيدة “المنتصرون” لصديقه الشاعر السويدي ويرنر أسبرنستروم 1918- 1997، سلمني إياها وترجمتها فيما بعد ونشرتها في الصحافة العربية.
وترجمت له بعض القصائد وتواصلنا فيما بعد حيث كان يبعث لي بعض الرسائل بين الحين والآخر لكننا مع الأسف لم نستمر كثيرا بالذات بعد إحتلال العراق وسقوط النظام وإنشغالاتنا الكثيرة، إلا أن الإنطباعات الجميلة عنه كإنسان رائع وبمنتهى التواضع والإنسانية لا تزال باقية في قلب كل من إلتقى به. ,اقدم هنا للقراء قصيدتين للشاعر التي ضمها كتابي القديم مختارات من الشعر الدنماركي الصادر قبل عشرين سنة تقريباً.
وهذا نص المقابلة:
إرِك.. هكذا يَنطق اسمَه الدَنمركيون، شاعر شفاف ومرهف الحس، يتحدث عن الحياة بطريقة تختلف عن مواطنيه ”الباردي الأعصاب” كما يقولون هم عن أنفسهم، فهو يقلق على ”الصغيرة والكبيرة” كما يقال.
إريك شاعر معروف بمناهضته للحرب ومناصرته لحركة السلام، ولهذا الموقف أهمية كبيرة في البلدان الاسكندنافية التي حققت نجاحاً كبيراً وتقدماً منقطع النظير في تنظيم مجتمعاتها، والتي كانت تخشى فقدان كل شيء بسبب سباق التسلح وإمكانية حدوث الحرب.
ولإرِيك ستينوس نتاجات عديدة، وترجمَ بعض الأعمال الإبداعية لأدباء عرب مثل البياتي ودرويش وحبيبي وغيرهم.
لقد سافر إريك إلى الشرق عندما كان بحاراً في شبابه، فوقع في غرام الشاعرة الهندية ساره وتزوجها، وبقي ملازماً للتألق الحضاري والعشق الشعري لعالم الشرق.
قبل مدة ضمنا لقاء مع الشاعر إريك ستينوس بحضور الشاعر منعم الفقير، الذي ساهم به وتفضل مشكورا ليترجم الجزء الدنمركي من حوارنا الدافئ بالإنجليزية والدنمركية حول مختلف قضايا الأدب الدَنمركي، ارتأينا تقديمه إلى القارئ العربي كمساهمة للتعريف بهذ الأدب:

ويقف خلفهم الصديق الأستاذ بن حسناوي الناشط الثقافي في أمسية أدبية في مدينة روسكيلده.- 2000
– إريك ستينوس.. من يدخل إلى بيتك يلاحظ طابعه الشرقي.. اللوحات والصور وأشياء أخرى كثيرة تمت بصلة كبيرة للشرق.. ما مدى هذه العلاقة؟
– قال الشاعر مبتسماَ: أنا أحتفظ بنسخة من القرآن الكريم وارجع إليها من وقت إلى آخر للاستمتاع بقرائته.
وأستطيع أن أقول إني سعيد ومحظوظ في حياتي لأني حصلت على فرصة التطواف في مختلف أنحاء العالم، وتعرفت على أناس من مختلف البلدان. وأنا شخصياً أعتقد أن الرحلات واللقاءات بالآخرين لا تجعل المرء يغير آراءه أو طبيعته، لكنها توفر له الفرصة للتعرف على أفكار الآخرين ومنحدراتهم الحضارية.. وإن الناس الذين التقيت بهم يمثلون بطبيعة الحال حضارات مختلفة وخلفيات ثقافية متنوعة. وأنا أتوقف هنا لأقول إن كلمة ثقافة أو حضارة على الرغم من سعتها وشموليتها، إلا أنها خطيرة للغاية، وعلاقتي بالعالم العربي ذات طابع خاص.
وتوجد على الأرض ثقافات وأمم وشعوب مختلفة، وطبعاً عندما نريد أن نعرف شيئاً عن هذه الثقافات، علينا أن نكون قريبين منها، أي أن نكون قد عشنا في هذه البلدان أو أقمنا بها، أو زرناها، فنقترب منها ونسعى لنتعرف إليها عن قرب. أما قصتي مع الثقافة العربية، فتعود إلى زيارتي لعدد من البلدان العربية مثل لبنان وسوريا والأردن والعراق واليمن، وربما من الغريب أن هذه الزيارات كانت قد حدثت بمحض الصدفة وبدون تخطيط مسبق لها، ولكني أؤمن بفكرة هامة بالنسبة لي، تتجسد بعلاقتي الوطيدة بالبلدان العربية.
وبما أني زرتها فقد أصبحت جزءاً من عالمي وكياني.. ولهذا الجزء مسؤولياته علي، ومن أولويات هذه المسؤوليات تظهر أهمية الحرص والعناية بهذه العلاقة الخاصة التي تربطني بالحضارة العربية. وبما أن هذه العلاقة ذات طابع ثقافي وأدبي وحضاري، فقد أخذت أسعى إلى تعميقها وجسدت هذه الرغبة في عملية ترجمة أو نقل بعض الأعمال العربية. وأود أن أشير هنا إلى أني أدرك خطورة من لا يعرف اللغة العربية، وينقل من آدابها عن طريق لغات أخرى.. ولكني بدافع الواجب والشعور بالمسؤولية نقلت بعض النصوص العربية لأدباء عرب مثل البياتي ومحمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران واميل حبيبي وغيرهم.
وعندما يوجه إلي سؤال فيما إذا كنت قد تأثرت بالحضارة العربية، فسأردُّ بالإيجاب بدون شك.. فعندما تقرأ كتباً من ثقافات أخرى لابد وأنها ستؤثر في طريقة تفكيرك أو تنعكس على مادتك.

التقاليد الشعرية
هل هناك علاقة بينك وبين التقاليد الشعرية الدَنمركيه؟ وكيف تتجسد هذه العلاقة؟
أعتقد أنه من الجيد والصحي أن يكون الأديب على علاقة بالتقاليد الأدبية، ولكي يكون الأديب منفتحاً يجب أن تكون لديه علاقة بالتقاليد القومية الأدبية.
والعلاقة بين الشاعر والتقاليد الشعرية أمر حسن جداً، وينعكس على مستويات الكتابة وعلى شكل القصيدة، وموضوعات الشعر ذات العلاقة بالمضامين التقليدية مثل الخير والشر. وأعتقد أن التقليد ليس بمعنى أن تكون القصيدة مقفاة أو ذات إيقاع محدد، بل يتجسد في الموضوع المعالج في القصيدة. وأعتقد أن التقاليد الشعرية تتدخل في موضوع القصيدة.
– هل هذا يعني أنك تكتب الشعر ضمن التقاليد الشعرية الدَنمركيه؟ وكيف تعالج الموضوعات إذا كانت التقاليد تعيقك؟
– أنا أنظم الشعر ضمن دائرة التقاليد أو في حالة العلاقة مع التقاليد الشعرية، ولكني عندما أعمل لا أجد تعريفاً لحالة عملي.. هل أكتب ضمن التقليد أم لا.
ولكني في مجال العمل أكتشف أن هناك شيئاً آخر غير التقليد.. إلا أني في الوقت نفسه لا أقول بأنني خرجت على التقاليد الشعرية القديمة، فأنا أعيش التجربة وأكتشف من خلالها التقليدية، وأنا لا أدعي بأنني جئت بشيء مختلف، أو أنا مختلف عما هو تقليدي.
بابلو نيرودا مثلاً لم يكن يعتقد بوجود صيغة جاهزة تقليدية، المهم عنده أنه كان يكتب.
لقد قرأت هذه الفكرة منذ مدة طويلة وأنا لا أحتاج إلى العودة إليها لكي أكتب أو أفكر أو أختار الموضوعات الاجتماعية المختلفة، ولكني بعد أن أصبحت عجوزاً اكتشفت هذه المقولة في هذا العمر بالذات.. بشكل عام أنا أرفض الطرق الجاهزة في الكتابة.
وأحب القول هنا إن نيرودا كان سعيداً ومحظوظاً، ليس لأنه عاش حياة بلا آلام أو أحزان وعذابات، بل لأنه ولد في عصر مناسب وحضارة مناسبة، فكان يجد الطريق مفتوحاً أمامه عندما يغادر شيلي إلى اسبانيا أو الإتحاد السوفييتي أو يوغوسلافيا وغيرها من البلدان. وحياته الأدبية تقدم مثالاً رائعاً على فاعلية الشعر في الحياة، وهي ناتجة عن طبيعة الناس في استخدام الشعر في مختلف حياتهم اليومية، فمثلاً نجد قصائد نيرودا أصبحت ملصقات علقت في الشوارع، وعندما كان يلقي قصائده كان يجد آلاف الناس الذين يصغون إليه بانتباه، على عكس الحالة الشعرية في الدَنمرك، وكان المتلقون يتحمسون إلى سماع شعره وقصائده، وكانوا يحتاجون إلى شعره. ومن هنا أعتقد أن هذه هي التقاليد الصحيحة في الشعر.
في الدَنمرك يختلف الحال ونستطيع أن نقول إن الوضع الشعري سيء. إن العلاقة بين الشاعر والناس سلبية، فالناس يميلون إلى الحكايات والقصص الخفيفة ولا يحبذون الشعر، وعندما نسألهم عن الشعر يعودون إلى الوراء، إلى فترة بعيدة تصل إلى عشرينات القرن. ولو سألت دَنمركياً إن كان لديه هم أو رغبة للذهاب إلى المكتبة واستعادة مجموعة شعرية ليقرأها، فسيرد عليك بالسلب. ولكي نتأكد من صحة ذلك يكفي أن نراجع برامج التلفزيون التي تفتقر إلى القصائد الشعرية الملقاة لأن الدنمركيين لا يميلون إلى الشعر ويفضلون أموراً أخرى كثيرة عليه.
وقد سنحت لي الفرصة بأن ألقي قصائدي المترجمة إلى الاسبانية في شيلي، أو في الهند وغيرها من البلدان، وشعرت بحرارة اللقاءات مع المستمعين في هذه البلدان أكثر بكثير مما عليه الحال في بلادي الدَنمرك، رغم اختلاف اللغة والتقاليد.
الشعراء ليسوا سعداء
– ولكن هذه الحالة تعاني منها أغلب آداب أوروبا إذا ما استثنينا فرنسا، فالقراء في هذه البلدان يميلون إلى النتاجات الرومانتيكية . قد يكون هذا هو السبب في عزوف الدنمركيين عن الشعر المعاصر.
– هذا سبب ولكنه ليس الوحيد، هناك اختلاف بين الشاعر الذي يعيش ضمن التقاليد والشاعر الذي لا يوجد ضمن هذه التقاليد. لدينا شعراء دَنمركيون كثيرون وجيدون، ولكنهم يعيشون في حيز مغلق.
الدَنمركيون يهتمون بالموسيقى والنوادي والأغاني ولاعبي الكرة. وبالمناسبة إن لاعبي الكرة سعداء، أما الشعراء فليس لديهم مثل هذا الحظ. ويجب أن نتذكر بأن الشاعر ليس شاعراً فحسب، بل هو إنسان، وكل إنسان يحب أن يعيش ويحب ويكره، ولديه أطفال ومشاكل ويبحث عن مكان للعيش. الشاعر ليس إنساناً يكتب الشعر فقط، بل ويفكر بمختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية، ولهذا علينا نحن الشعراء الذين نعيش في هذا الحيز المغلق أن نسعى لاستخدام الحياة، يجب أن نعيش لكي نستخدم الحالة.
نحن الشعراء الدنمركيين تتلخص مشكلتنا في انحسار عدد المتلقين والمستمعين، وعندما لا تجد من يصغي إليك فمن العبث أن تتحدث بصوت عال ما دمت لا تجد من يستمع إليك. وهناك العديد من الذين لا يأخذون الشعر على محمل من الجد، وعلى الرغم من هذا الوضع التراجيدي، إلا أن للشعراء ابتسامتهم الصغيرة التي يطلون بها عندما يقرأون أشعارهم. وأود أن أورد مثالاً واقعياً، وهو حفل الاستقبال الذي أقيم بمناسبة إصدار كتاب “أسئلة العقل” للشاعر منعم الفقير، حيث قرأت بعض قصائدي. أنا كنت أعلم أن هناك عدداً كبيراً ممن لا يرغبون في سماع الشعر، ولكني لا أستطيع التخلص من هذه الحقيقة فأقرأ بصوت منخفض على الرغم من إيماني الكامل بقوتها وشحنة الألم فيها.

– لعل هذا الأمر يقودنا إلى الحديث عن أزمة الشعر. إن الحالات السياسية أدت إلى ظهور شعراء وتبوءهم مراكز الصدارة في آدابهم. وقد نتعجب اليوم عندما نجد مصطلحات سياسية واقتصادية في أشعار الخمسينات، ولكنها كانت من الأمور الطبيعية آنذاك، وفقد بعض هؤلاء الشعراء مكانتهم لمجرد تغير انتماءاتهم وولاءاتهم السياسية، أو لمجرد تغير الأحوال السياسية.
وقد أبدى الشاعر منعم الفقير رغبته في الحديث حول هذا الموضوع قائلاً:
أنا أعتقد، وبالاستناد إلى ما تفضل به الشاعر “إرِيك ستينوس” يمكن أن نطلق عليها “محنة الشعر”، وبرأيي أن الطرف الرئيس في المحنة ربما يكون الشاعر نفسه الذي ابتعد بشعره عن العالم اليومي ”لقطاع جمهوره”، فالحياة اليومية والعادية تجعل الناس عرضة لأحلام وآلام لا يدركها الشاعر نفسه، وعلى هذا النحو يضطر الناس لمعالجة حنينهم الدائم للشعر بالعودة إلى أزمنتهم القديمة، ومنها الرومانتيكية التي ستبقى على مر العصور ما دامت تسعى لإلغاء قاعدتها.
الحياة الدَنمركيه مثلاً تتميز بقدر كبير من البرمجة، المواعيد تنظيم استخدام الوقت واللقاءات، أحياناً لأمور ليست بحاجة إلى هذا القدر من التخطيط.. الخ، من الأمور المتقنة والموغلة بالجدية. وفي ظل وضع كهذا يشعر فريق كبير من الناس إلى أنواع أدبية تلبي حاجاتهم الروحية.
ومن المؤسف أن يعاني الشعر الدَنمركي من أزمة، لأنه يتميز بحيوية كبيرة وله معالجات وجودية متنوعة، ولكن المشكلة حسب اعتقادي ترجع إلى المكانة الاجتماعية له وإلى العلاقة السلبية مع الشاعر، وبدون شك أن هذا الأمر سينعكس على علاقة الشاعر بقطاع جمهوره.
– إرِيك ستينوس:
أعتقد أن أزمة الشعر تكمن في البحث عن لغة التفاهم، ففي المجتمعات الكبيرة لا توجد لغة واحدة ولا نستطيع أن نطالب بأن نتحدث بلغة واحدة باسم الكل وبدلاً من الجموع. كل مجال من مجالات الحياة له لغته الخاصة ومفرداته، وهناك مصطلحات خاصة بكل مهنة، حتى الأطفال لهم لغتهم الخاصة، وفي بعض الأحيان يصعب علينا أن نفهمها.
أنا أعتقد أن الشاعر أو الإنسان الذي يكتب شعراً يجب أن يكون معتنياً عندما يكتب، ويجب أن يكون حذراً للغاية، ونحن نحاول أن نكتب بمختلف الطرق لكي تكون إبداعاتنا مفهومة، وهذا أمر صعب. وأنا أطرح هنا مثالاً واضحاً، وهو أن ليس كل من يعرف اللغة الانجليزية يستطيع أن يفهم جريدة نيوز تايم مثلاً، بل عليه أن يقرأها يومياً ولمدة طويلة كي يصل إلى مستوى فهم الجريدة، فهم طرقها وأساليبها وأهدافها.. الخ. وأعتقد أن للشعر نفس المشكلة.
– نعود إلى موضوع التقاليد الشعرية، هل تهتم بالأوزان؟
– تتوزع قصائدي على مختلف مراحل حياتي. وانعكست طرقي المتنوعة في الكتابة في هذه النتاجات الشعرية. في البداية كتبت القصيدة التقليدية ذات الأوزان والقافية، وفي مراحل أخرى خرجت على هذه الطريقة إلى أسلوب آخر يعتمد على الرواية أو الحكاية، وتتميز القصيدة في هذه الحالة بخصائص القصة القصيرة أو الحكاية التي تدور حول حدث محدد ويتضمن أدواراً مختلفة.
وحاولت أن اكتب القصيدة القصيرة، ولكني كنت أجد نفسي منساباً إلى القصيدة الطويلة الملحمية. ثم كتبت قصائد رحلاتي مثل قصيدتي عن بغداد عندما زرتها عام 1956 وأنا في طريقي إلى الهند، وعنوان القصيدة ”بغداد”.
أما الآن فأنا أكتب الشعر ضمن الطريقتين، أي ضمن تقاليد الوزن والقافية وخارجها أيضاً.
– ألأدب الدَنمركي مثله كمثل الآداب الأخرى، مر بمختلف المراحل وتأثر أدباؤه بمختلف المدارس والاتجاهات الأدبية كالرومانتيكية والواقعية الانتقادية والواقعية الاشتراكية، والمدارس التجديدية وغيرها، فأين تضع نفسك في هذه المدارس الكثيرة؟
– أعتقد أن المدارس التي ذكرتها هي من مهمة الأساتذة، وقد تم تسميتها من قبل الأكاديميين. وباعتقادي أنهم عندما يطلقون التسمية على هذا الشعر أو ذاك فإن هذا يعني أن الشعر انتهى.
وقد أطلقت على قصائدي تسميات مختلفة مثل الواقعية والسريالية، وأنا شخصياً لا أفكر بمفاهيم المدرسة الأدبية ولا أهتم بما يمكن أن تسمى، فأنا أهتم بالحالة الشعرية، والأمر الذي يلفت انتباهي وأحبه هو أني بعد أن أنشر قصيدة أنتظر تعليقات النقاد في الصحف لأطلع على التسميات.
وأنا كنت سعيداً عندما وصفت بأني واقعي لأني لامست حياة عدد كبير من الناس واقتربت منهم وكتبت عنهم، وأكون سعيداً أيضاً إذا أطلقت صفة السريالية على بعض قصائدي إذا كانت قد وصلت إلى أعماق الناس أو ارتقت إلى أحلامهم وعبرت عن دواخل نفوسهم، لكن هذا الأمر لا يخلو من حذر وتوجس عندما تطلق التسميات على الكتابات عموماً، لأن هذا الأمر يتطلب معرفة من يطلق هذه التسميات، والمكان الذي يصرح به بمثل هذه التحديدات.

قصيدتان للشاعر الدنمركي الراحل إيريك ستينوس
ترجمة الدكتور زهير ياسين شليبه
قليلا من التشاؤم إلى المفكرين الجدد
ليس هناك خيارُ* لذلك: حتى لو حررتَ نفسك
من المُطارد الأخير، سوف نُطارَدُ
بردُ في الظهر، تحديقةُ إلينا في المستقبل.
من الصعبِ رؤيةُ الحل لذلك. **
هذا الوجهُ الُمخيف، هذا المخلب الذي هربوا
وهربنا منه، الفخ، الذي بعد أن رسمنا فيه طريدتنا الجميلة
نظمنا هذا الصمت الكبيرِ شعراً
تماماً _بالظبط _حالاً.
——
*خيار: في الأصل: bod عقوبة، غرامة، جزاء، كفّارة، مقابل. هذه القصيدة مترجمة من الدنماركية والإنجليزية، ولم اترجم كلمة bod إلى “عقوبة، غرامة، جزاء، مقابل” التي ترد مرتين في النص بل إلى “خيار” في المرة الأولى و”الحل” في الثانية أخذاً بنصيحة الشاعر إريك ستينوس.
** الحل: في الأصل: bod عقوبة، غرامة، جزاء، كفّارة، مقابل.
أيامٌ خاملةٌ
من المحتمل،
أن مُعظمَ البشرِ،
يتكونونَ من آلام الرأسِ،
الجوع، العطش والمعاناة،
آلامٌ مُقبلةُ ومنخفضةٌ
رؤيةُ سوداويةُ، متاعبٌ،
أيامُ خاملةٌ،
عُزفت السلالم الموسيقية
بدون أن تُحرك وتراً فيك
وفجأة، إنعدام الوزن،
قوة التأرجح والسؤال:
من أينَ يأتي العناد؟ والفرح؟
وهم يتكونون
من افواه شقائق نعمان البحر
والأسماك المرنة
التي تود الولوج والتداخل في بعضها بعضاً
وبغض النظر عن أحوال السطح الجوية
تخلق تياراتِها الخاصةَ بها
في القاع
تجلدُ العواصف،
تلتقي وتفترق،
تعيشُ حياةً باللحظات.
يبقى المذاق معها لمدةٍ طويلةٍ.
خلال موسم التكاثر
زمن الخسارة وزمن اليأس،
زمن الصدمة وزمن الظلام،
هذا الذوق،
طيب ومر.
ولكن من المحتمل
في العودة من رحلتها إلى مواطنها،
يجلبُ الآخر شيئاً ما معه
إصغ إليه بإهتمام،
حررهُ من الكبرياءات
كبسولة الفضاء، المحرك، المصفحة،
لا تلبس أزياء التنكر هذه،
كُن قوياً، كُن حساساً
إمتزج معه،
إنظر إليه وأحبه.