محمد علوان جبر : انقـــــــلاب

انقـــــــلاب
محمد علوان جبر
كان الوقت عصراٌ ، حينما أقتربت سيارات اللاندروفر العسكرية من البيت ، يوسف لم يعر السيارات انتباهه ، لانه كان يلعب البوكر بالصور ، اللعبة التي يحبها ويجيدها كثيرا ، حيث تتقافز امامه صور الممثلين والممثلات الذين يحبهم ، وشاهدهم في سينما السوق التي تتوسط الشارع الضاج دائما ، الصور تستدعي في مخيلته تلك الرحلات التي يقوم بها هو ومجموعة من اولاد بعمره الى السينما في ايام العيد ، الأيام التي يجفل حينما يتذكرها ، كل صورة تحمل رقما ، من يسحب الرقم الاكبر يفوز ، والرهان عادة المزيد من الصور ، رفع الصبي الذي يقابله صورة من امامه ، كشفها ببطء ، كان الرقم يشير الى (63) ، لم يقتنع صديقه بالرقم ، اراد أن يعيد اللعبة ، لم يوافق أحد على إعادة السحب ، أيقن أن فرصته بالفوز كبيرة ، قبل ان يمد يده ليرى ماتخبئه له الصورة المقلوبة من رقم ، لمح من بعيد سيارة لاندروفر عسكرية تقترب من مدخل الزقاق ، لم يعرها انتباها ، لأن إنتباهه كان مركزا على الصور، لم تصل يده الى الصور حتى لمح سيارة اخرى تدخل الزقاق الذي فيه بيتهم .
قبل ان يخرج من البيت قال له أبوه ، لاتذهب بعيدا ، لآن هناك إنقلابا .. سقطت كلمة انقلاب على عقله كما تسقط كلمة سوق او حمار او صور او سينما ، لكنه لم يعرف لها معنى محددا ، تركها تمر في عقله كالصور التي يتخيلها ويخمن ارقامها ، وهرع نحو اول الزقاق حيث اصحابه يلعبون لعبة الصور ، اشترى من دكان الحاج رسن مجموعة من الصور ، وبدأ يلعب معهم ، ونسي كلمة إنقلاب ، لكن سيارات اللاندروفر التي وقفت امام باب بيتهم جعلته يستعيد الكلمة التي سمعها من أبيه قبل أن يخرج ، وبدأ يفكر بالسينما التي تثيرها في عقله صور الممثلين وهم يشهرون مسدساتهم ويعجب من القبعات التي لاتسقط من رؤوسهم مهما ركضوا أو قاموا بحركات مفاجئة ، لم تفلح افكاره في طرد كلمة إنقلاب التي سمعها من أبيه ، لكنه لم يسبق له أن رأى أباه خائفا بهذا الشكل ، وهو يردد كلمة إنقلاب ، وتذكر تلك اللحظة التي طلب منه أبوه أن يرتدي ملابسه الجديدة ، وقاده خارج الزقاق الضيق ، خرجا منه نحو السوق الضاج ، في تلك اللحظة رأى انعكاس ضوء النهار الساطع على الساعة اليدوية في يد ابيه ، كانت ساعة بيضاء وبأطار بني ، وبدأ يركز على المؤشر الذي يدور بين الارقام … وقفا امام باب عريضة ، تنبعث منها اصوات غناء وضجيج ورأى طابورا يقف امام شباك صغير سأل اباه ماهذا ، يومها سمع لاول مرة كلمة “سينما ” من فم أبيه … قاده فيما بعد الى دكان صغيرة اشترى له منها حلوى وقنينة من شراب اصفر حلو المذاق رغم حدته ، وعده بأن يريه السينما فيما بعد ، يومها طلب ان يشتري له سينما ، استغرب ضحكة ابيه وهو يردد ماقاله عن رغبته بشراء سينما امام جارهم “جودة ” ، يومها ضحكا كثيرا .. فيما بعد عرف سبب هذا الضحك حينما رأى السينما أول مرة ، أدخله في يوم حار إلى صالة باردة وجلسا امام جدار أبيض تنبعث من أسفله أضواء ملونة زرقاء وحمراء وصفراء وخضراء … قال له أبوه .. لاتخف سيطفئون الاضواء وترى السينما بعينيك .. هاهي السينما أمامك .. رأى وسط الظلمة ، رجالا يركبون جيادا عالية بمهارة فائقة وهم يحملون مسدسات يشدونها وسط أحزمة مليئة بالطلقات المختلفة الاحجام والالوان ، مسدسات يحركونها ويخرجونها بمهارة . كم حاول ان يقلدهم فيما بعد، يركب خشبة قصيرة ، ويبدأ بالركض والدوران ، ويخرج خشبة صغيرة اخرى يثبتها في تكة لباسه .. جرب الامر ، لمرات حتى أحس انه يركب الحصان كما يفعل رجال السينما .. وكم تمنى وألح على أبيه أن يشتري له قبعة .. ومسدسا وحزاما دون جدوى ، لكن وجه ابيه اليوم يشبه وجه الرجل الخائف الذي رآه في السينما ، حينما حاصرته بنادق ومسدسات رجال عصابة كل واحد منهم يرتدي مسدسا او اثنين .. كان وجه ذلك الرجل يشبه وجه ابيه وهو يحذره … من أن إنقلابا يجري …
ــ ماذا كان يعني أبي بكلمة إنقلاب ..؟ مامعنى إنقلاب ، فكر فيما كان يهم بأن يمد يده ليرى الصورة ورقمها ، بقي منغمسا بالفكرة وهل لها علاقة باللاندروفر السوداء التي وقفت لصق باب بيتهم ، وشاهد من بعيد اثنين من العسكر وهما يحيطان أباه ويسحبانه نحو السيارة ، ترك الصور ، وبقي يفكر بالرقم الذي يمكن ان تحمله له الصور المركونة التي بقيت في مكانها ، ركض نحو السيارة التي انطلقت بسرعة ولحقتها السيارات الثلاث التي تحمل اللون نفسه ، بحث عن ابيه في السيارة لكن غطاء عسكريا محكما سد عليه زاوية النظر ، ولم يلمح الا من بعيد ظلا يشبه ظل ابيه ، ومن فتحة الباب الموارب قليلا رأى أمه وهي تبكي ..وبقي يفكر بالرقم .. ولان اللعبة كانت له .. فلم يقترب من امه ليسألها عما جرى .. ولم يجرؤ على العودة الى مكان الصور ليرى كم هو العدد الذي كانت تحمله الصورة ….ادار وجهه نحو الوجهة التي سلكتها السيارات ، وبعينين محتقنتين راقب تصاعد الغبار خلف السيارات ، ركض بسرعة ، سرعة هائلة ، تخيل نفسه الرجل الذي رأه في السينما راكبا حصانه وهو يمسك بمسدسه .. ويضرب بسرعة عجيبة رجالا يتساقطون ، كانه يرشهم بسائل يجمدهم .. رفع يده مصوبا مسدسه نحو السيارات ، لكنه عدل عن الامر خوفا من أن تصيب احدى رصاصاته أباه الذي تخيل انه يراه من فتحة سيارة اللاندروفر السوداء وهو يلوح له طالبا منه العودة الى البيت لان هناك … إنقلابا .. وفيما هو يركض فهم ان كلمة إنقلاب تعني ان تقف سيارات عسكرية امام باب بيتهم ويهبط منها رجال وهم يقودون أباه نحو السيارات .. وتذكر أن اللعبة كانت له وانه متأكد ان رقم الصورة التي يجب عليه ان يسحبها ستكون رقما عاليا ، رقما اكبر من تلك الثلاثة والستين التي سحبها احد الصبية …. واصل الركض ليفهم اكثر .. لكن أنفاسه بدأت تتقطع ..وخطواته تقل سرعتها .. حتى توقف وسط الطريق الذي اختفت فيه العجلات العسكرية التي لم تترك خلفها إلا خيطا من تراب تداخل مع ضجيج المدينة وصخبها …..

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| د. زهير ياسين شليبه : المهاجر .

كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما …

| عبدالقادر رالة : زّوجي .

    أبصرهُ مستلقياَ فوق الأريكة يُتابع أخبار المساء باهتمام…      إنه زّوجي، وحبيبي..     زّوجي …

تعليق واحد

  1. ِعلي الكندي

    محمد علوان كيان انساني تجذر عميقا في تربة هذا الوطن المبتلى بلعنة ازلية اسمها الحروب …
    محمد علوان يمثل ذاكرتنا الجمعية التي تَشرَبتْ وجعنا اللا منتهي منذ قرون حين يستذكر ذلك الكم الهائل من الرعب الذي اجتاحنا في تلك الليلة الرمضانية الباردة حد القسوة و الموت ..
    كانت ليلة مقمرة بسماء صافية تثير الاستغراب تماما حين رفعت بصري الى اعلى و انا اتابع جدتي في ازقة ( ابو سيفين / مركز بغداد آنذاك ) بحثا عن ( قابلة ) حيث اشتد الطلق بعمتي فكان لزاما علينا استدعاء القابلة منتصف تلك الليلة الغاشمة …
    محمد علوان كيان ثمين كما هو شأن كل مبدعة / مبدع سومري الانتماء ..
    كل التقدير و المودة لهذا اليراع الثمين ..
    علي الكندي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *