أسعد الجبوري : بريد السماء الافتراضي .. حوار مع الشاعر السوري محمود السيد

بريد السماء الافتراضي
حوار مع الشاعر السوري محمود السيد

على مدى رحلتنا في مجرى البرزخ الأسفنجي الضيق،كنا نستمع إلى موسيقى غرائبية ،كانت تنبعث من شقوق المصعد الذي كان حَلّقَ بنا من الأرض إلى أعالي السموات.لم نطرح سؤلاً على قائد المصعد الذرّي الذي كان يدقق بشاشة الكومبيوتر الخاص بأجهزة العربة الفضائية،إلا أنه قطع علينا حيرتنا قائلاً: هذه موسيقى الأرواح المحتشدّة بالفضاء الذي نخترقه الآن،وهي مزيجٌ من صراخ وابتهالات وأنين وبكاء ورقص على طبول عظمى من جلود المحتفلين في ساحات التيه الإلهي.
ابتسمنا ردّاً على الشرح،وقلنا له:المهم أن نصل ونجري الحوار مع الشاعر السوري محمود السيد.فقهقه قائد المصعد قائلاً:ها قد وصلنا.سأفتح الباب لتكونوا معه على الفور.وما هي إلا لحظات ،حتى كان الشاعر محمود السيد أمامنا مع طير (السورباك) الملون الشبيه بالبغاوات الأرضية.أخذنا بالأحضان ،ومن ثم انطلق بنا إلى بحيرة الرماد.جلسنا على الضفاف هناك وكان لنا معه السؤال الإبتدائي:
س:بعد رحيلك عن الأرض وأمراض الكوكب القديم ،كيف تبدو الإقامة هنا؟
ج/لم أجد استقراراً في هذي السموات بعد.فما زلتُ أتشكل ببطء في الوجود الثاني.ومع ذلك ،فأنا أطلق نظراتي بين الفينة والأخرى لشعوبي القديمة هنا.
س:هل هو الحنينُ الفائضُ لعذابات الأرض وذئاب غاباتها ؟
ج/بعد موتي ،وجدت روحي تدخلني في وحدة مُركّبة، تتناهبها مشاعرٌ بكيمياء لم اشعر بها في أعماقي من قبل.
س:ومع ذلك ،يبدو أن الموتَ لم يُفقدكَ هدوءك هنا،مثلما كنت على الأرض.ألا يبدو السؤال صحيحاً يا محمود السيد ؟
ج/كل من يقرأ وجهي يقول ذلك عني.ربما لأنني كنتُ وريثاً للصمت.
س:ومن أية جينات اكتسبت ذلك؟
ج/من نهر الشعر الهادئ ليس غير.
س:هل يحققُ الشعرُ التوازنَ ما بين باطن الشاعر وبين القارئ بواسطة السكون.ألا يعتبر ذلك مأخذاً على هذا الفن الذي وُجِدَ،ليُحَرّكَ السواكن ويقلبُ التربةَ رأساً على عقب من أجل نهوض الأزاهير من تحت الجلد؟
ج/أنا تحدثت عن سكون وجهي في المرآة،لا عن صمت الشاعر أو برودة تربة اللغة وما يكمنُ منها في البواطن المليئة بالفلزات الحارّة التي تشبه ما في بواطن البراكين.

محمود السيد (1935-2010)

س:بأي مقدار كان الشاعر محمود السيد باطنياً؟
ج/بقدر المسافة الفاصلة ما بين النهار والليل. في باطن الزمن بالضبط .
س:هل أنت خيطٌ من النهار، أم نقطة من الليل؟
ج/أنا أعتقدُ بأن الشعر ،وحينما يحتكُ بجذور اللغة،فهو يدمج الاثنين في بوتقة واحدة تُسمى الأبد.
س:وكنتَ تُمجدُ تلك اللحظة الخاصة باندماج النهار بالليل؟
ج/بالتأكيد.فبقدر ما يكون الشعر بعداً إنسانياً عميقاً،بقدر ما هو صرخة فيزيائية للاندماج بالأشياء المطلقة.
هوية الشاعر هويةُ وجود مفتوح ،لا مساحةً بالتجغرف الطوبوغرافي ،ولا انتماءً للهويات المغلقة .
س: أيهما وِلِدَ قبل الآخر،أنتَ قبل الشِعر ،أم كان هو قبلك؟
ج/ كان الشعرُ هو من سبقني إلى الطين لأكون،وأنا سبقتهُ إلى الرحم للتكوين فكان.
س:ولمَ سبقتهُ للرحم،فيما ذهبَ هو إلى الطين؟!
ج/فعلنا ذلك ،من اجل ولادة ((مُونادا دمشق)) .
س:وما هي تلك المونادا ؟
ج/هي امرأةٌ تحملُ اسم دمشق،في البدء كانت رحماً تراكم بين طبقاته التاريخُ لحماً فطيراً فطيناً،حتى نطق فيها الحجرُ، فكان فيضُ اللغة وصوتُ الأرجوان ؟
س: كأنك تتحدث عن خلق يوتوبي لخالق جماليات من طراز أولئك الذين لا يُسدّ لهم رّمقٌ في الثنائيات والأساطير،ولا كأنك تحكي عن مدينةٍ من شعوب وأسواق وأرصفة ومدافن ومقاهٍ وملاعب وأمراض وجوامع وشواطئ وحقول قمح وزيتون وتفاح ؟!
ج/ أجل. فمثلما التوقُ العاطفي يصنعُ معجزاتٍ بمنتهى بلاغة الحب،كذلك الشعرُ،فهو لا يصابُ بالتقصير أو بالقصور ،فيما لو أدخل مدافئ المجاز في غرف النصوص الشهوانية المرفقة بالتصاوير الجامعة ما بين الخيالي والواقعي،وصولاً إلى لا مركزية الشعر في نص من النصوص.
س:هل كان محمود السيد مغامراً .وكيف أتته الحكمةُ ليكون كذلك؟
ج/كنتُ عفيفاً بالقدر الكافي،فلم أبحث عن بطولةٍ شعرية،بقدر ما قررتُ التنزهَ ذات يوم خارج أسوار المدارس الشعرية وكهوفها وصفوفها وإدارة مديرها المفوض بالأوزان والقوافي والأطلال.
س:هل كنت ضائعاً ومتضايقاً من خطوط الشعر السوري -عمودياً وأفقياً – بشكل من الأشكال،فتحركت ،ورفعت الغطاء عن تلك البذرة (المونادية) لتخرج وتشرق على الشعر السوري آنذاك؟
ج/ربما. فقد كنت مستنفراً لخرق جدار الصوت الشعري بمشروع شخصي ،يعتني بالشعر ،ويجعل له خصوصية ما في الذاكرة العربية.
س:ألا تعتقد بأن مجموعتك (( مُونادا دمشق)) كانت طبقات وطبقات،تبدأ بالحرية وتنتهي بذلك الأثير الشهواني ،حيث يحاولُ الشاعرُ إعادة تعمير النص جنسياً حفاظاً على النوع؟
ج/لا ولادة ولا توليد يأتي من فراغ. دمشقُ رحمٌ تاريخي دافئ وما يزال خصباً،وتستمر فيه عمليات التكوّين جسمانياً ولغوياً وإيديولوجياً وغرامياً ،وحتى عسكرياً،حينما لبست المدينة الكاكي والمموه بمختلف التدرجات اللونية، وتخندقت الدباباتُ في ذلك الرحم مؤخراً.
س: هل عشتَ على الأرض منكسراً يا محمود السيد؟
ج/أجل.كنت وجيلي نسبحُ بأثقال الحديد على سطح طوفان من سفر تكوين خاص بنا نحن الشعراء.حيث يجلسُ بباب كلّ فمٍ ذلك الكرسيّ الضخمُ ،ليسدّ مجرى التنفس،ويمسكُ بلسان الصوت من الداخل.
س:ولمَ يتأثر النطقُ بالفم أو يتأخر عن الردّ؟
ج/لأن تلك الكراسيّ لا تعيقُ الأصوات وحسب،بل تحاول استضافتها كي لا تكون من الأصوات السلبية المناوئة لوجود السلطان في المقعد الدائم .
س:وماذا عن علاقتك كشاعر بالدين ؟
ج/أعتقد جازماً بأن للشعراء دياناتهم الخاصة.
س:بعيداً عن اللاهوت أم في ضفة أخرى منه ؟
ج/لم يكن التأثر الديني واضحاً بشعري.ومع ذلك، فمن المفيد أن تكون كينونة الشعر تتمة للمتاهة الوجودية.
س:من أية مواد تم لمحمود السيد بناء تجربته الشعرية؟
ج/من النيازك المتساقطة على خط استواء الروح،هذا بالإضافة إلى المفاتيح الأخرى .
س:تقصد المفاتيح التي توغلت في التصوف ؟
ج/ممكن أن تقول شيئاً من ذلك.فمثلما هناك من يحاول إثبات الله بالبراهين اللاهوتية،وجدت أنا نفسي منساقةً وراء التنسيق ما بين الشعر والغيب،للبرهنة على الربوبية الشعرية في ذات الشاعر المطلقة.
س:ألا تعتقد بأن الفلسفة قد فشلت بمشروع التقريب ما بين منتج المخيّلة ،وما بين التنبؤ الذي ارتبط بالشعراء كلازمة في أغلب الأحايين؟
ج/لا أعتقد بأن كل شاعر ينتمي إلى عالم ما يسمى بالرؤيويين.أغلبنا كان على محك الكتابة النظيفة.
س:ماذا تعني بالكتابة النظيفة يا محمود ؟
ج/أقصد بالكتابة النظيفة ،تلك الخالية من التناص والتناسخ والفوتوكبيات الجارحة لعين الشعر.
س: هل وجد الشاعر محمود السيد نفسهُ شاعراً متداخلاً بتراجيديا من نوع خاص؟
ج/في البدء ،كنت أمشي على رمال متحرك في صحارى اللغة.إلا أنني تدارك ذلك في (مُونادا دمشق)
لأقوم بتحويل تلك الرمال إلى أصوات ورموز ومبتكرات حديثة،سرعان ما وجدت الكلماتُ فيها وزناً ثقيلاً حقق ما يمكن تسمية بالنصر على الفراغ الشعري التقليدي المتحقق في مجموعتي (( مزامير ديك الجن)) والتي تلاها ((مُونادا دمشق)) عام 1978 حيث تمضي الكلمات في المجرى الأحادي لبناء عالم ثمين شبيه بما تُكونهُ الذاتُ لحظات الاستغراق بالتحولات العظيمة.
س:كم كانت حصة النساء في شعرك؟
ج/حصة مدينة (مصياف) من الهواء .فنساءُ الشمس حقول هناك ،وبلا أغلفة غبار .
ج/ماذا وراء عبارة نساء بلا غبار.هل تقصد بلا شهوات؟
ج/ إنه لأمر صعب أن يرتبط الشعر بالغبار الشهواني المتطاير فوق الرؤوس.
س:لمَ يحاول الشعراءُ الصاعدون على سلالّم التصوف التنكر لأهم أسس البناء الشعري الذي لا يمكن التأسيس عليه دون الحجر الشهواني؟!!
ج/لا يمكن أن تطلقَ يد الشهوة في الشعر دون رقابة .ولو فعل الشاعر ذلك،وأغمض عينيه،لكانت الكلمات حبالى على كل سطر من الشعر.
س:وهل كانت الصوفية بمثابة( كوندوم) واقي من الحمل ؟
ج/نعم.فالاستغراق الشهواني ،سيضحي بالعبد وبالمعبد من أجل تلك النشوة التي تحاول اكتساح الباطن والظاهر،وجعل التوق الغرامي بلا قيود.
س:وما الخوف من ذلك؟
ج/ التصوف رغبةٌ كاذبةٌ بالابتعاد عن الجنس .وما فكرة عدم التلاحم مع عوالم الشهوانيات تحت ذريعة تطهير النفس من النجاسة ،كما تكرسُ ذلك نصوصُ قادته من الأسلاف،إلا وهماً.
س: وماذا حاولت أنت في كتابك الشعري ((سهر الورد –تجليات السهروردي في الورد والدم- )) قوله؟
ج/أنا حاولتُ التظلل برمز السهروردي مناورة للطيران الحرّ في عالم الماورائيات بعيداً عن حلقات الدراويش ومدارسهم المخادعة.
س:وحققت فوزاً بذلك؟
ج/ نعم .لقد انفصلت عن حلقات الشعر السوري بشكل ما ،وربما غادرتُ غرفه الضيقة .
س:هل كان الشعرُ السوري ضيقاً عليك ؟
ج/أجل.كان قنينة (ريان) فارغةً من العرق،وكنا نجتمع بقاعها نحن الأغلبية العظمى من مختلف الأجيال،لنكتب بحبر مُنتهي الصلاحية وبرائحة بخور المشايخ.
س:بمعنى إن الشعر السوري كان صراخاً لتأويل الصحارى،والاندماج بطهارتها الجغرافية فقط؟
ج/أجل.وكان الاستغراق بالرموز والأساطير المستهلكة وطيون الإيديولوجيات بروائحها المقرفة،هي كل ما كان ذلك الشعر يملئ به حقائبه اللغوية .
س:لذلك أنت تصوفت عشقاً وانحرفت عن تلك السكك ؟
ج/بالضبط.
س: كتب أحدهم يقول عن تلك التجربة: ((فإن سهر الورد: تجليات السهروردي في الورد والدم هو نص صوفي إلى حد كبير، لاسيما أثناء اللحظات التي يتخذ فيها من مثنوية النور والظلام موضوعاً له، وكذلك في البرهة التي يناجي بها الغياب ويحثه على الحضور والاستقرار في الدخيلة الجوانية حصراً. والحقيقة أن هذا النص الصافي، والمكتوب بلغة شديدة العذوبة والسلاسة، هو أغنية برسم النور والعلو في آن واحد. فما هو دالٌّ في ذاته، أنه حين يميِّز بين اللغة والكلام، إنما يميِّز بين العالي والخفيض، وبين الأصيل والنفيل، أو بين ما هو حي وما هو ميت.)) ما رأي الشاعر محمود السيد بذلك؟
ج/لم يكن أمامي آنذاك إلا أن أقتحم اللغةَ باباً باباً ،للتوغل في المكامن العميقة،حيث اللذّة ترسمُ ظلالها النرجسية على أنفاس الشاعر،مانعة إياه من التحكم بتلك الحرائق المشتعلة برأسه دون هوادة.
س:هل اجتمعت بالسهروردي الذي سبق وان تقمصت شخصيته ،فكتبت عنه مجموعة (سهر الورد) ؟
ج/ ليس بعد.فعندما سألتُ عنه،قيل لي أن السهروردي لم يحظ بفرصة الصعود للسموات،لثقل روحه المثخنة بالجراح.
س:ولم ترَ أين يقيمُ قاتلوه؟
ج/أجل.عرفت إن الله رفض صعودهم إلى عناء السموات،فتركهم نهشاً لديدان المقابر.
س: هل يأسركَ الحنينُ لبلاد الشام يا محمود؟
ج/هي معي الآن هنا،ولكنني طالما أحنُ إلى نسختها الأصلية على الأرض هناك.فتلك الأرض تبثُ عطراً سحرياً يُسمى نجاة حكيم.
س:أهو اعترافٌ بحب قديم لا يطاله عدمٌ،ومن ثم التنصل من أية علاقة حب مع حريم الفردوس؟
ج/ أنا هادئ.ولم تمتلئ أوردتي لا بفلفل أحمر ولا بالبارود بعد.
س:هل تظن المرأة حوض الشعر أم سقفُ الغرفة ؟
ج/ عشتهُ نهراً يبتكرُ المعاني ،ويمضي ما بين السرير وما بين الأوراق دون قلق أو متاعب.
س: أهو حبٌ أم لغةٌ؟
ج/هو الدمجُ وهو الاندماج ما بين الاثنين لمثنوية الأبد.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| كريم عبدالله : كلّما ناديتكِ تجرّحتْ حنجرتي.

مُذ أول هجرة إليكِ وأنا أفقدُ دموعي زخّةً إثرَ زخّة أيتُها القصيدة الخديجة الباهتة المشاعر …

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

2 تعليقان

  1. هادي حكيم

    لك كل الشكر على هذه المناجاة مع أبو وضاح الذي نفتقده كل يوم، لقد بكر الرحيل، وترك الكثير من الكتابات الشرية والروحانية، سنحاول نشرها قريباً. لك مني كل الحب

  2. أيهم السيد

    تحيه لك ايها الرائع وإلى تلك النفس الباقية في قلوبنا تعيش و تتنفس معنا إلى الخالد محمود السيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *