أم كلثوم .. الهرم الرابع
في مطلع شهر شباط من عام 1975 غادرت أم كلثوم عالمنا، مخلّفة إرثها الإبداعي الذي لم يغادر قط حياتنا، إذ لا صوت علا على صوتها لغاية يومنا هذا. تغير الزمن، وتقلبت الأحوال وهي ما تزال مدرسة للأجيال، وملاذ العاشقين، صوتًا للحب وللثورة وللإيمان.
لم يأت نبأ موتها بغتة ليشق الصدر بسكينه الحاد. فأم كلثوم، التي حافظت إلى حد كبير على قوة صوتها حتى مع بلوغها السبعين من العمر، فقدت خلال سنواتها الأخيرة القليلة بعض قدراتها ولا شك حتى توقفت عن الغناء قبل رحيلها بعام تقريبا لتصارع المرض الفتّاك الذي حلّ بجسمها. كانت خيبة الأمل كبيرة عندما تجمع عشاقها في مساء الخميس الأخير لحفلها الشهري في القاهرة منتظرين ظهورها، حين أعلن من إذاعة القاهرة عن تعذر إقامة الحفل لانتكاس حالتها الصحية. سرى حزن باهر في قلوب مستمعيها. حالة من الفراغ الكبير داهمت الناس في صالة الحفل كما في البيوت والمقاهي من أقصى المغرب العربي إلى آخر نقطة في الخليج العربي. لكن إذاعة القاهرة واصلت آنذاك بث حفلات مسجلة لها كل أول خميس من الشهر. وبعد مرور سنة أو أكثر، أعلن نبأ وفاتها، وشُيعت تشييعًا جماهيرا ضخما ربما لم يحظ بمثله إلا الرئيس جمال عبد الناصر.
تغلغل في نفسي عشق أم كلثوم في مرحلة مبكرة جدا من عمري، وظل يرافقني مخزونا في رأسي وحنجرتي. كان صوتها ينساب في دارنا من جهاز الراديو ومن الغرامافون اليدوي وأسطواناته ذات الثماني والسبعين دورة. كان اسمها يدور بين الأهل واللقاءات الاجتماعية، والجدل يدور حول أغانيها وارتجالها وإبداعاتها الشهرية، فأتلقف الكلام بلا وعي حقيقي. مع مرحلة صباي كانت أم كلثوم قد تحولت إلى رمز مقدس لدي، وأحفظ أغانيها وأرددها، أول كتاب قرأته كاملا كان عنها، عشت معها أحملها في قلبي أينما أكون.
كانت حفلاتها الشهرية طقوسا اجتماعية مهمة لدى العراقيين والعرب عموما. الكل يتحلق حول الراديو في انتظار الحدث، والتوقعات ماذا ستغني في الموسم الجديد، وما الذي ستعيده. صوت المذيع ينساب من إذاعة القاهرة: ضبّطوا المؤشر؛ البث مشوش؛ البث جيد، كلها هموم وقلق آني يحيط بالتحضير لضمان الاستمتاع بالأمسية في الخميس الأول من كل شهر. بدءا، ينساب صوت المذيع واصفا الصالة وجمهورها، حتى يعلن عن دقات المسرح الثلاث إيذانا برفع الستارة وظهور كوكب الشرق جالسة وسط تختها، على يمينها محمد عبده صالح عازف القانون، وخلفها محمد القصبجي على العود. يسهب المذيع في وصف تختها الشرقي وترتيب العازفين، تفاصيل ثوبها الطويل ومشبكها الماسي الذي يزين فتحة الصدر، وقرطيها الماسيين المتدليين، ومنديلها الحريري الذي لا يفارق يدها.
باشرت بالاستماع إلى حفلاتها مع أول ظهور لها بعد أن تعافت من سرطان الغدة الدرقية، وكانت من أول من تلقى العلاج بالذرة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما جنبها خطورة التداخل الجراحي. يقول طبيبها الأمريكي إن رسائل التحذير التي تلقاها آنذاك وضعته في حالة نادرة من المسؤولية تجاه ما كان مقبلا عليه. كنت في مرحلة مبكرة من العمر لم يكن يُسمح لي بالسهر مع الكبار. مع ذلك كنت أسترق السمع وأصغي إلى الصوت الجبار.
رافقني صوتها بكل مراحل حياتي، أكتشف في كل مرحلة قدراته وأسراره تبعا لنمو مدركاتي وثقافتي الموسيقية. هي الصوت الشجي الذي مر بمراحل مختلفة، لكل مرحلة تجلياتها الجمالية المذهلة. وتبقى مرحلة الأربعينيات، والخمسينيات لديّ من أروع مراحلها، حين كانت تؤدي بطبقة السوبرانو، متمثلة بالأغنيات التي تجمع بينها وبين بيرم التونسي وزكريا أحمد والقصبجي ثم السنباطي.

عظمة أم كلثوم لا تتمثل بقدراتها الصوتية النادرة وحسن اختيارها للكلمات واللحن، وإنما في تجسيدها معاني الكلمات التي تلفظها بمخارجها السليمة. فقد تضفي قيمة بالغة على شعر ربما لا يكون وحده قادرا على التأثير في الآخر. هي تعطي الحزن قدرته على تحريك الشجن في الآخر:”حطيت على القلب إيدي/وانا بودع وحيدي/واقول يا عين اسعفيني/وبالدمع جودي” وتعطي الفرح مساحة تكاد تراها تتقافز فيها غبطة وفرحا، ومثل ذلك التعبير عن القلق والانتظار والصبر والغضب. أدت المدائح النبوية فجسّدت عظمة الإسلام وقيمه بهيبة ووقار نادرين. وغنت للوطن والثورة والنيل والأرض كما لم ينشد أحد قبلها أو بعدها: “أنا إن قدر الإله مماتي/لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي”، هكذا تخاطب مصر على لسان شاعرها حافظ إبراهيم.

حافظت أم كلثوم على وجودها بعد الغياب، وظل العالم يحتفي بها. بل وقفت شامخة في قلب باريس وصورتها تغطي واجهة مبنى معهد العالم العربي المطل على نهر السين، حين أقيم لها احتفال تكريمي في 2008
تحت عنوان الهرم الرابع.

مي مظفّر