الطفلة الضالة
كدتُ اجن من الرعب ، بعد أن تهتُ عن أمي وأختيّ ، وسط مئات بل آلاف الناس المندفعين ، المتلاطمين كالأمواج ، وهم يفرون من جحيم القتال ، بحثاً عن مأوى آمن يلوذون به .
لابدّ أن أمي تبحثُ عني الآن ، كما أبحث أنا عنها ، ورحتُ أنصتُ ، وأنا أركض بين الجموع ، لعلي أسمع صوتها ، وهي تناديني باسمي .
ورغم أزيز الرصاص ، وأصوات الانفجارات ، وصراخ الأطفال والنساء ، تناهى إليّ صوتها ، نعم ، هذا صوتها ، إنني أميز صوتها الأشبه بالتغريد من بين آلاف الأصوات ، صحيح إنها لم تكن تغرد ، لكن هذا صوتها ، وهي تصيح باكية : ماما .. ماما .
وتلاشى ما حولي ، حتى أمي وأختاي ، وانطلتُ أشقّ أمواجالناس المتلاطمة ، نحو مصدر الصوت الباكي ، لابد أن أجدها مهما كان الثمن .
ورأيتها ، رأيتها تقف مرعوبة وسط تيار الناس المنفلت الهائج ، وهي تصيح : ماما .. ماما .
وتوقفت وسط التيار ، أنظر إليها ، نعم ، إنها هي بشعرها الذهبي ، وعيناها الخضراوان ، وبشرتها العسل ، رغم أن الأتربة كانت تغطيها تماماً ، من أعلى رأسها ، حتى أخمص قدميها .
اقتربتُ منها متردداً ، وتوقفتُ قبالتها صامتاً ، وما إن رأتني حتى هدأت ، ومسحت عينيها الدامعتان ، فقلتُ متردداً : ابتهاج ..
وشفتْ ملمحها ، وتمتمت : أنت ..
يبدو أنها لا تعرف اسمي ، رغم أن بيتنا وبيتم في الحيّ نفسه ، فاقتربت منها قليلاً ، وقلت : أنا .. حسن .واقتربت مني ، كأنها تلوذ بي من تلاطم الأمواج ، وقالت : أنا أعرفك .. أعرفك جيداً .
فقلتُ لها : أنا أيضاً أعرفكِ ، لقد رأيتكِ كثيرا .
وتلفتتْ حولها ، وقالت : لقد ضللتُ ، ولم أعد أعرف أين أمي وأبي وأخوتي .
لم أقل لها ، أنا أيضاً ضللتُ ، وإنما قلتُ أطمئنها : لا عليكِ ، سنجدهم .
وهنا سقط صاروخ على بناية في نهاية الشارع ، وأحدث دوياً هائلاً ، وصرخت ابتهاج مرتعبة ، وقد تزايد تلاطم أمواج الناس حولنا ، وتعالت صرخاتهم ، فمددتُ يدي ، وأمسكتُ بيدها ، وقلتُ لها : لا تخافي ، الانفجار بعيد ، تعالي نهرب مع الهاربين .
وانقادت لي مستسلمة ، ويدها في يدي ، واندفعنا مع الأمواج الصاخبة المذعورة ، وسمعتها تهتف بي : حسن ، أرجوك ، لا تدعني وحيدة .
وأجبتها دون أن أتوقف : لا تخافي ، لن أدعكِ مطلقاً ، مهما كانت الظروف .
رجل من الماضي
بعد انتهاء دوامها في المستشفى ، لم تستقل سيارتها ، وتذهب إلى البيت كالعادة ، وإنما اتصلتْ بزوجها في المستشفى الخاص ، وقالتْ له : لن أعود هذه الليلة .
وتساءل زوجها مندهشاً : لماذا !
فقالت باقتضاب ، وبصوت حاولت أن تكتم تأثره : هناك أمر طارىء .
وعند حوالي منتصف الليل ، جاءتها الممرضة ، التي كانت تسهر على ” الأمر الطارىء ” ، وقالت : دكتورة ، يبدو أن الجريح بدأ يفيق .
وأسرعت الطبيبة إلى غرفة الجريح ، وجلستْ إلى جانه ، ورأته يتململ متوجعاً ، وحين فتح عينيه المتعبتين ، ورآها تجلس إلى جانبه ، كفّ عن التوجع ، وتمتم مذهولاً : بتول !
فمالتْ عليه قليلاً ، وقالت : الطبيبة بتول ، يا أخ أحمد .
ولاحت ابتسامة شاحبة على شفتيه المتيبستين ، وقال : مرت سنين وسنين ..
وصمت لحظة ، ثم قال : كنتُ معلماً .. عندما تقدمتُ إليك أول مرة .
فقالت وكأنها تعتذر : أردتُ أن أكمل دراستي .
وتابع قائلاً ، وكأنه لم يسمع كلامها : وذهبتُ إلى الكلية العسكرية ، وبعد أن تخرجتُ ضابطاً ، تقدمتُ إليك مرة أخرى .
فقالت بصوتها الشبيه بالاعتذار : كنتُ وقتها طالبة في كلية الطب .
صمت ، وهو يئن ، صمت طويلاً ، ثم أغمض عينيه المنطفئتين ، وهو يتمتم : لي ابنة اسمها .. بتول .
وران الصمت ، صمت عميق وحزين ، وتقدمت الممرضة ، وسحبت الشرشف الأبيض فوق وجهه ، ونهضت الطبيبة بتول ، دامعة العينين ، والألم يعتصر قلبها ، فقد فاتها أن تقول له ، أن أصغر أبنائها اسمه .. أحمد .
الجرو الصغير
عرفتُ أنني تحت ركام البيت ، وأنني ـ ربما ـ مازلتُ حياً ، حين تناهى إليّ ، وكأن ذلك من آخر الدنيا ، نباح جروي الصغير : عو .. عو .. عو .
تُرى ماذا جرى ؟ لقد سمعتُ أزيز طائرة ، يرتفع بالتدريج ، بعد أن غادر أبواي البيت ، ليزورا جدتي في الحي المجاور .
وقالت لي ماما ، وهي تخرج من الغرفة : بنيّ ، ابقَ هنا حتى نعود .
وقبل أن يغلق بابا الباب عليّ ، قال لي : الجرو في الخارج ، لا تدعه يدخل إلى البيت .
آه من بابا ، لا أدري لماذا يكره الجرو ، من يدري ، لعل جرواً مجنوناً عضه ، وهو طفل صغير ، ولم ينسَ تلك العضة ، حتى بعد أن كبر ، وصار أباً .
أما هذه الجرو ، الذي ينبح الآن في الخارج ، فقد رأيته في يوم ممطر ، وكنتُ أسير مع أبي ، ويدي الصغيرة في يده الكبيرة الدافئة ، وهو نفس الجرو ، الذي قال لي أبي قبل قليل : لا تدعه يدخل البيت .
ونظر إليّ الجرو ، بعينيه الصغيرتين اللامعتين ، وكأنه يقول لي : خذني معك ، إنني وحيد .
وتوقفتُ ، وعيناي متعلقتان بعينيه ، فقال بابا : هيا ، تحرك ، أمك تنتظرنا الآن في البيت .
لم أتحرك من مكاني ، وإنما قلت : بابا ، دعنا نأخذ هذا الجرو المسكين .
وبدا الانزعاج على أبي ، إنه معادٍ للجراء ، وردّ بصوت حاسم : كلا .
فقلتُ له ، محاولاً إقناعه : المسكين ، إنه وحيد .
وثانية ردّ بابا : كلا .. كلا .
ونظرتُ إلى بابا ، وقلت : الله قال ..
وحدق أبي فيّ مندهشاً ، وتساءل : ماذا قال الله ؟
فأجبته بلهجة معلمة الدين في مدرستنا ، الست فاطمة : قال الله ، إذا رأيتم جرواً فخذوه .
ولا أدري لماذا ابتسم بابا ، لكنه جرني بشيء من الحزم ، وقال : الله لم يقل ذلك ، هيا .
وتبعتُ بابا مكرهاً ، وداخلني شيء من الفرح ، حين رأيت الجرو الصغير ، يهرول ورائي ، وماء المطر يقطر من فرائه السميك .
وارتفع نباح الجرو ، وهذه المرة لم يكن من آخر الدنيا ، وإنما من مكان قريب ، وتناهت إلى سمعي ، أصوات معاول ومجارف تعمل في الركام المحيط بي ، آه إنهم سيصلون إليّ ، وينقذونني إن عاجلاً أو آجلاً .
3 / 11 / 2017