إشارة :
سلمان داود محمّد – وببساطة شديدة جدا ولكن معقّدة – هو “عاهة إبليس” في المشهد الشعري الراهن ؛ العراقي – وحتى العربي لو هيّأ له الأخوة النقّاد “الأعدقاء” فرص الانتشار. وكمحاولة في إشاعة فهم بصمة روحه الشعرية المُميزة الفذّة التي طبعها على خارطة الشعر ، ارتأت أسرة موقع الناقد العراقي الاحتفاء به عبر هذا الملف الذي تدعو الأحبة الكتاب والقرّاء إلى إغنائه بالدراسات والمقالات والصور والوثائق.. تحية لسلمان داود محمد.
سلمان داود محمد :
الشعر جريمة شخصية ما زلت أمارسها بشرف …..
حاوره في بغداد : أحمد عبدالسادة
إضاءة
دائما اراه يرتب في روحه شرفة من الغيم ليطل منها على قصيدة جديدة ولهذا فهو دائما يصافح الحياة حتى في مصافحته للموت.. لانه يرتدي، باصرار هادئ، قفاز القصيدة. متابع فائق لتشكلات الواقع الثقافي والشعري العراقي والعربي.. محاور اكثر من ممتاز.. اذا كنت تتقن اثارة شهوة الكلمات المراهقة فانك تستطيع ان تصل معه الى عالم تسمع فيه الدقات القصية لقلب الكون.. تشعر بالألفة معه.. بالإحساس بانك تجلس مع جمهور من الشعراء الذين تلسعهم النسمات الشعرية الرشيقة كما يلسع ليمون الانوثة الساخن سواحل أجسادهم. انه الشاعر سلمان داود محمد.. من أجل استدراج خرائطه الضوئية الى بوصلة البوح.. كان لنا معه هذا الحوار:
* عندما أطلق (جان كوكتو) مقولته الشهيرة: (الشعر ضرورة.. آه لو أعرف لماذا..؟) أعتقد انه ترك وراء كلمة (لماذا) مفتاحاً طليقاً لفتح الكثير من أبواب الإجابة لماذا اذن الشعر ضرورة بالنسبة اليك؟
ـ لم يكن الشعر بالنسبة لي ـ ضرورة ـ تستدعي الإجابة على ـ لماذاها ـ تلك ربما لعدم صلاحية هذا التعريف (الضرورة) للإستعمال الجمالي في تخليق القصيدة وتمثلها، لاسيما وأن الشعر قبل التاريخ أو اقدم منه بحسب قول (برودسكي) فمن غير الشعري اذن أن نضع الأصل (الشعر) تحت لافتة الهامش (التاريخ) التي تعد الضرورة جزءاً من هذا الأخير.. أحيانا اصفق بهستيريا لـ(كازنتنزاكي) حين يقول: ( الحياة صرخة أما كتاباتي فهي تعقيب على هذه الصرخة) لكني سرعان ما أرتد الى صوابي لأكتشف أن الشعر يشبه الى حد كبير تلك الجرائم الكبرى المسجلة ضد مجهول ولم يكن الشاعر بطبيعة الحال ذلك (المعلوم) أو الملموس حد اليقين في مجاهيل الكتابة، فهذا الشاعر مثلاً ليس هو كما اتفق عليه وفقاً لنواميس السائد الرعاعي وتصنيفاته، بل ذلك الوعر، الشائك، الملتبس، والحزين فوق العادة ابان المكوث في المصهر الشعري مما جعله محض دالة تشير الى أن أحدهم قد ارتكب مخالفة تعاقب عليها الأديان والحكومات والتقاليد ويبقى القانون عندئذ بمنأى عن الإجهاز على ذلك الـ (أحدهم) الذي لا غنى عنه بوصفه طرفاً أساسياً في لائحة الخارجين على العدالة ولا فائدة ترتجى منه باعتباره مجهولاً يتشابه كثيراً مع (المستقبل) وما ينطوي عليه من غموضات.. اذن الشعر جريمة ما زلت ازاولها بشرف ويمكن لشرطة الآداب أن تلاحقني على وفق العنوان الآتي:
العراق حي الشهداء/ محلة: بلا/ زقاق: لا يفضي/ رقم الدار/ كاتيوشا على 7 …
* اذن كيف تتشكل لديك حياة القصيدة الجريمة.. كما أسميتها وهل (المشغل النقدي) بمثابة (المحكمة) المعنية بمقاضاة الشاعر ونصه..؟
– لا يمكن للشخص أن يتعاطى مع فعلين ويستجيب لهما في وقت واحد كما تشير فتوحات علماء النفس فعلى الرغم من انني على غير وداد مع هذه الفتوحات أقول: إن ما جاء به علم النفس في هذا الصدد لا يبتعد عن الصواب أحيانا إذ لا يمكنني أن اراقب بعقلانية أو بغيرها تحولات الدورة الحياتية للقصيدة ونشوئها وأنا منهمك بجحيم لا أحسد عليه في إذكاء نيران عداواتي بإزاء عالم لا يفرق بين (التفكيكية والأشلاء المتناثرة على شوارع البلاد.. ) أما بشأن (المشغل النقدي) في هذا المضمار فهو بمثابة (مخمن ضرائب) يطالبك وبقوة القوانين على أن تفي بديونك السابقة من سعادة لم تولد بعد أو هو بمثابة (حكومة انقاذ) تسعى بحنان لا يخلو من تنظير (ميليشياوي )في استعادة (عمودية) الإطمئنان السابق وحمايته من (نثرية) ما يجري الآن.. والإستثناءات في هذا الميدان (أقلية) تقطن في ما وراء الصف الخلفي من المشهد..
* بمناسبة (نثرية ما يجري الآن) بحسب تعبيرك ينبثق سؤال مفاده: الى أي مدى استطاعت قصيدة النثر أن تتسيد المشهد في خضم الشعرية السائدة الآن بوصفك العاكف منذ زمن على مزاولة هذا النوع الشعري في مجمل أعمالك؟
ـ في البدء ينبغي التعبير عن اعجابي المريب بمفردة (تتسيد) الواردة في سؤالك وعليه أقول للجان النزاهة واجتثاث (البعض ) والآخرين أن يطمئنوا اذ أن قصيدة النثر العراقية تنتمي (بالإكراه) لوزارة ليست سيادية فلا قلق هناك ولا هم يحزنون وأرغب عبر هذه المناسبة السعيدة أن انثر ارجوان البشرى على عتبات بحور شيخنا الجليل ومولانا النبيل (الفراهيدي) واتباعه الميامين كما وأبارك بضراوة أطاريح المراجع الأجنبية الكرام ومنها أجندة الأخت الفاضلة (سوزان برنار) الموسومة (قصيدة النثر من بودلير الى أيامنا) وما تبعها من خواجات التنظير (اليعربي) وذلك احتفاء ببراءتهم المطلقة من أفكار وأفاعيل هذه الفلول وأعني بها (شعراء قصيدة النثر الرافدينية) الذين خرجوا من بيت الطاعة بلا اذن وسيروا أساطيل زوارقهم الورقية على يابسة منداة بالدم على أمل العثور على غرقاهم في (شارع النهر.. مثلاً).. انهم أولاد معابر لا منابر وأبناء شوارع لا شعائر فلا خشية من طلقاء بسحنة زنوج من شدة ما تسكعوا تحت الشمس وابتعدوا بعقوق ممض عن (أبوية) بلاط اولي الأمر فيما مضى وعن (أمومة) المناطق الخضر فيما بعد، وهم في أحسن الأحوال يرعون ثيرانهم المجنحة في (درب التبانة) الذي لا كلأ فيه ولا ماء كما تقول العرب.. فما معنى كلمة (تتسيد) الآنفة الذكر اذن يا سيدي احمد بن عبد السادة؟ ربما نوايك الطيبة تشير الى أن قصيدة النثر العراقية استطاعت أن تستخلص الشعري من لا شعرية الكوارث أو هي الذخيرة المفضلة لدى روادها الوقحين في الذود عن تلال الخسران من اللصوص، فإذا كانت تعني هذا فساقول لك: طبعاً والى الأبد.. فضلاً عن كون (شعراء قصيدة النثر العراقية) ذلك (اليوسف) المفترى عليه وما تبقى مجرد أخوة نجباء وذئاب نجيبة تعمل على غرار مؤسسات (التمويل الذاتي).. والسلام.
* أصبحت الحداثة أشبه بقبعة الساحر.. فهي تحتوي على تعريفات مختلفة. ما الحداثة بمنظورك الشخصي؟
ـ قبل الإدلاء بنظرتي الشخصية بشأن الحداثة ينبغي الإشارة الى الحداثات السائدة في راهنية الحياة العراقية ومنها مثلاً حداثة (الدرباشة) وحداثة الندابين وحداثة (الباي باي مؤقتاً حتى تهدأ الأمور) وحداثة (الحصول على الآخرة من الدول المجاورة) وحداثة ( القتل على التسمية والنشر على الهوية) وحداثة (فوت بيها وعالزلم خليها) وحداثة (الكونداليزات ذوات الدفع الرباعي) وسواها وهي استراتيجيات حية وعاكفة على (تزويج) التوتاليتارية من الكولونيالية بمباركة الطوائف والملل والأعراق وما تمخض عن هذه (الزيجة) من يتم الأوطان وازدهار الأحزان على حد معاً.. أما بوصلتي في هذا المضمار فانها تشير الى حداثة أخرى.. حداثة عراقية جلل انبثقت من بين الأنقاض مثل (مقاومة ظل جمالية) تعمل على رد الإعتبار لمهابة ذهن جريح واشهار الإستحقاق المعرفي بوجه لصوص الريادة الثقافية المنتشرة في الأرجاء.. هذه الحداثة ذات الهاجس الإنقلابي والتنويري الذي ينأى عن الموت ولا يشيخ، رأيتها ساطعة في أضنك الأحيان ومتفوقة على ما تتبجح به المخيلة وما تتشدق به المعجزات، انها الخطأ الأنور في انسكلوبيديا الظلام والجريمة الأبلغ في حشود من المساويء ما زالت تناصب العدمية المتفشية في راهن وجيز بأبدية المعنى وبسالته عبر مضامير من القصائد والسرديات والمعارف وهكذا الحال في ميادين الفنون والعلوم… والإحساس الشجري في إيواء عصفور.
* هل يعني هذا أن الشعر هو الإصابع المتبقية التي ستنشغل في تجميل الوجود ونحن في ضيافة العدم.. وهل يخلق هذا نوعاً من العزاء النفسي للشاعر في ظل الإحساس بفقدان النفس المستقبلي؟
ـ في كتابه (حدس اللحظة) يشير (باشلار) الى أن (الآن) هو اللحظة التي تقع بين عدمين: الماضي والمستقبل، وعليه فان الإحساس بفقدان المستقبل يعني بالضرورة الإحساس بفقدان العدم ـ فيا للسرور اذن بإزاء خسارة كهذه ـ واستناداً الى ما تقدم يمكن الجزم أن لا أهمية للقصيدة عندما تصبح أداة لتجميل عالم يرفل بالعدم ولا ضرورة لوجود الشاعر عندما يتخذ من الشعر عزاء نفسياً في التعاطي مع الفقدانات.. لنترك والى الأبد قداسة التسميات والتعريفات وتفصيلاتها في لحظة الشروع في جحيم الشعر وما بعده فكلما ينفلت النص وخالقه من تلك المعرقلات اللاشعرية تزداد مساحة التحرر الجمالي وتتعدد مستويات التأويل وهنا يكمن سر ازدهار الشعر العراقي منذ آدم وحتى آخر شهقة قبل رحيل العالم الذي اخذته العزة بالصواريخ العابرة للقارات….