إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.
الماء في كل مكان
سعيد حاشوش
الى كولريدج
تسري الغيوم البيض في سماء غير منجومة ويهمي الضوء شاحبا في الفجوات الواسعة العطشى وعيناه ترنوان إلى أبيه الساهر طوال الليل على “الطوفة”.. إنه الصمت القروي يزداد حدة.. هي الريح التي جاءته بالريبة.. تارة تهب بأريج الدفلى وتارة بروائح غريبة خانقة.. بأي حق نترك الأسماك سجينة ، يرى إلى الدنيا.. في شربة ماء من جرة تتسع الحدود القريبة وتتكشف ظلال كانت معتمة وتتعرى الأشجار.. ما يولد في الظلمات تكشفه الأنوار.. تنزع أثوابه.. بين كل رجفة ريح وهمسة سعفة تتسع دائرة الدنيا، تكبر، بدائرة أرحب. ومنذ أيام عشرة وفي كل فجر.. بين لحظات الاغتسال بمياه “الشاخة” الحبلى ونداءات الأم المحمومة ــ دائما وأبدا ــ تحثه على اللحاق بأبيه الساهر منذ ليال عشر على “الطوفة”. وبهدوء.. بتأني يمشي القمر فوق الغيوم البيض في سماء منجومة.. وسماء القرية في هذا الفجر عالية.. تتيه فيها الطيور والغيوم والأصوات والروائح، سماء نيلية الزرقة تهمي ضوء شاحبا يتفتت على جذوع النخل ويخوض في بطون الجداول و”الشاخات” الواسعة.. وتنبجس بين الجذوع والسيقان السفلى العارية للأشجار أشباحا هلامية مرتجفة على تمايل لسان التنور الشبيه بلسان أفعى يلمض مشطورا فينهال الضوء ويكشف عن أشباح تتدلى في الفراغ ويحيل أكتاف الأرض المحروثة إلى مساكن جنّ ومردة، وقد تنفتح فجوة في قلب الظلمة، على مبعدة، في جوف “الشاخة” لحظتئذ تبرق رؤوس المويجات الهاربة من أصابع يديه تحت الأشنات، للماء رائحة مخزونة كرائحة مستنقع نتن.. بأي حق نجعل الأسماك سجينة ؟ وشعر بيده اليمنى تعلو وتهبط أمام عينيه ، كانت اليد خفيفة، بدون جهد أو وزن تعلو وتهبط.. ثم تأكد لديه بأنه يحاول طرد بقايا حلم لا يتذكر منه الآن سوى كائن له جسد صلصالي يضرب “الطوفة” بمسحاة ويفجر الماء ،يسحبه من يده ويرميه في السيل الهادر.. هذه اليد توجعه الآن.. ظلّ ينكثها مرات عديدة ليطرد الوهن.. الأم ــ دائما وأبدا ــ تشحذ قواه.
بحث عن أبيه.. انسابت عيناه على “الطوفة”.. وانسابت “الطوفة” مع عينيه حيث اختفيا معا في “شافي قصب” الخنازير. وبدون أن يعي خارت قواه لأول وهلة وهو يحمل بين يديه طاسة بناء تالفة مليئة بالجمرات.. أنعشته حرارة الموقد. وكمن أيقظوه من النوم عنوة تهادى على الدرب مغمض العينين يتعثر تارة بلحوسات الكلب تحت ساقيه وتارة يستعيد صدى لمسة باردة لغصون تحف به أو سعفة ماردة أو انتعاشات سرية لغرائز غامضة.
كالرماد يحيل الغبش الرؤية في الآماد البعيدة.. الأرض ندية وبليلة وناموسية الدنيا ما فتئت تكبر كلما تنفخها الريح ،هذه الريح ريح قريته المعتادة ،ريح تصول وتجول الليل كله في خلاءات القرية المشرعة والمياه المسودة من تفسخ أشنات القاع0 تأتيه الريح خفيفة من جهات أربع وتجذي الجمرات اللابدة بقبس أحمر، تتوهج بذرور نادرة ، فمن ذا الذي يغامرمعه في هذه الاستدارة من الدرب والعتمة السرية للنخيل ورائحة الدفلى والغيوم المنحدرة إلى الغرب..؟ الريح مالحة سبخة ولطخات الغيم بيض ورمادية مسرعة والسفينة الهلالية للقمر انداحت خلف غيمة والغبش الرمادي يغشي هامات النخل بخضرة قاتمة وكتل السماء الزرق غير المنجومة تسفح لونا أشهب يحيل أثداء الأرض المتكورة وأكتاف الجداول إلى أجساد بيض متوارية في بطن ناموسية. الأرض نوارة بأشعة خفية.. أرض ندية وبليلة وناموسية الدنيا حائلة اللون كناموسية كل الفلاحين ملطخة ــ دائما وأبدا ــ ببقع سرية شفافة ووردية لدماء براغيث لزجة ،تميد الأرض تحته عروسة محروثة بدون بذار ، معتكرة بظلال الأحجار الناتئة ، تغور قدماه في الأرض المعمورة.. تتعثر بالأحجار ورائحة الدفلى ونبتة “الشيخ اسم الله” دون أن ينقلب موقده الخافت الجمرات. يهوي غاطس الكوعين والركبتين في أحشاء الأرض الدافئة.. وبدون أن يدري كان قد احتضن الأحجار.. تضم الأرض كوعيه وركبتيه وتغطيه ناموسية الدنيا ببقع غيم نافرة.. شاركه الفجر وبضعة بلابل في فضّ بكارة أرض تخاف ملوحة أحجارها. وشعر بفيض من الرجال الذين يحاولون سجن المياه العذبة بين دفتي طوفتين كي يشربوا مياها مجة سجينة بالوعات المراحيض وجثث الأبقار والكلاب المسلولة، بل رفض الأب نفسه زراعة الأرض بالريحان والبربين هذا الربيع لأن المياه المالحة تميت هذه الخضار الرقيقة.. احتار وهو يتذكر قامة أبيه العملاقة ويديه المعروقتين وصرير حبال الدلو والمياه المزبدة منذ بدء الخليقة، وانتابته رعشة عناق عتيقة ووجهه يضاحك وجه الأرض ، الأجمل والأنعم من الأمهات والآباء، فيرتعش الفجر مبعدا ما بين جدرانه.. تتسع الدنيا أمامه واعتقد أنه رأى أباه في هذه اللحظة بين عدة كائنات متحركة حول النيران قرب سدة شط “العسّافية”.
كان الأب شبحا يغط وينبق في العتمة. تنساب الطوفة كأفعى بين كائنات الغبشة ملتفة بشال خفيف من العتمة وانسابت عيناه مع ذيل الأفعى التي لا تكف عن الانسياب حيث اختفيا معا في “شافي الخنازير”. واختفت مرة أخرى برائحة الدفلى وبالأسرار الغامضة لأكمات جذوع النخل وأزيز الصراصير ثم عم سكون موحش بددته صيحة منفردة لـ”هو اولاد هو”(1) وبدون أن يعي بحثت عيناه عن الأب الساهر منذ ليال على “الطوفة”. رآه يخطر على لسان أصفر من عباد شمس لنيران ما تني ترسل أعمدة من دخان ابيض تتمايل كالمردة فوق الرجال، تغري النيران الكائنات، كائنات القرية لا يسترها غير الظلمة والأدغال.. حين راقصت اللسان نسمة تتلوى بقامة دحداحة، ثمة من يخطر على النار.. وعندما أخذ اللسان يخبو ويخبو أمام عينيه شبّ فجأة ببريق أحمر، عندها تأكد أن اللهب أذكته قطرات نفط.
انقلب على ظهره.. ترنو عيناه للسماء وأنفه اصطاد روائح الغبشة والدنيا ضيقة ، منخفضة ، تحتشد بأصوات أعمامه وأخواله الرابضين على “الطوفة” . الصيحات الغامضة لـ”هوْ اولاد هْوْ” نداءات سرية لكائنات أخرى أكثر سرية, تتوه النداءات في سماوات ألقة بلورية محشورة في الفسح التي ينبري إليها القمر مبثوثا من بين الغيوم، منطلقا في الريح كمشحوف صياد مدبب القيدوم.. يتماوج والغيوم الرمادية.. يتوه.. تحجبه السحب.. وحين تربع القمر في كتلة السماء تحسس الألق متكسرا على هامات النخل والأوراق اللامعة للأشجار.. بلا ظلال يرتمي الضوء، واختنق برائحة الدفلى ,عرف أنه لوحده يضطجع الأرض في هذا الفجر. من قال إن الفيضان يفيض بالدمار ويخنق الضروع والأشجار ؟إنه منتصف الربيع حين تتساقط على الأرض ثمار النبق حين يشحب نبق السدر كالقمر، تبزل الأراضي التعبى، وتزع شتلات ..أنت أمي ايتها الأرض .
يرى إلى الدنيا.. بهدوء تسري الغيوم الرمادية في سماوات غير منجومة وفي شربة ماء من جرة تتسع الحدود وتنداح الظلمة وتتوغل في الغابات البعيدة. يتوسل السماء أن ترعد بغيوم سود، لكن من يسمع غمغمة الأفواه اللابدة ــ دائما وأبدا ــ في رحم النخيل تواهجت على حواسه البرودة والجوع وصيحات (هو اولاد هو) والدفلى. وساح صوته بين الأشجار.. “أنا جئت يا أبي”.. وأحكم لفّ الليف حول طاسة الموقد.. انتصب.. مشى متعثرا.. تفر العتمة من وطء قدميه وتنهار كتل طينية من على الضفاف حسبها سلاحف استجمت طوال الليل. ناداه الأب مخنوقا بالإنتظار، ثبت عيناه على الطوفة ,رآه كتمثال يكمن لفريسة على تعلية السدة.. هي الريح أثقلت صوت الأب بمعان لا تحكى ,ريح مستنيمة بأعماق الجداول، بعد هنيهة تأكد لديه أن زفير الجداول مشبع برائحة أسماك ميتة وبول ضفادع بذنب مبتور.. حاصرته الرائحة.. اتسعت خطواته وعندما وصل الطوفة، استنشق رائحة المدّ المخدرة، كانت عيناه تبحثان عن تمثال ما، بدا أمامه شاحبا، على تلك السدة، وخلف نخلة رآه مسددا سهام “فالته” الحديدية إلى نقطة ما وشعر برأفة عميقة لأبيه الذي يعمل بدون أجر لأيام عشرة، وكمن يبني أسوار سجنه، بعمل لا مجدي، لابد من زخة مطر لتصحيح مسار الكون، أو شهقة مدّة ماء لحظتئذ تصبح أوامر الشيخ المأفون مجرد كلمات تبتلعها البساتين.. أمن أجل ورود الدفلى التي زرعها الخدم في أرضه، تتسبخ بطن الأرض وتجف شريينها؟. واستفزه حارس “الدوبة”.. وجها لوجه.. كان الحارس يكلم نفسه.. “ما هذه المصيبة.. أنا حارس للدوبة وليس للطوفة “عندما انتبه للطفل المنتصب قبالته، هدهده بكلمات حانية.. الحق أباك هو جائع منذ البارحة، هل تسمع خرير ماء؟. مصيبة..
انتبه لوشيش ماء على مقربة منه، ثمة مياه تنساب بخرير مكتوم نحو منحدر قريب، كانت المياه تبقبق لدى اصطدامها بمياه أخرى، بقرقرة قبلات لا تنفك ولا تفتر, كصوت التحام، انصهار أو مداعبة عاشق لمعشوقته.. تجري المياه من ينبوع أسفل “سوف” الطين، وانتابته نشوة سرية. تراءى له الماء الآن كحيوان أميبي مدّ أرجله في كل الجداول والشاخات، تمتد الأرجل من شقوق الطين كالينابيع، تتقافز الضفادع الصغيرة بقفزات متساوقة، اعتلت شفتيه ابتسامة ماكرة، دار إلى أبيه المنتصب كتمثال طيني حيث الماء والبرد والطين، سمع أهازيج أطفال على الضفة الأخرى من الشط، السماء في الأعالي منذرة بغيوم متكتلة.. لا مفرّ، سينهمر المطر..
احتضن سرّه منتشيا، ترافقه وشوشات المياه الرائبة والمويجات المتلاشية من أعلى الطوفة، تندفع الموجات بطيئة، بحركة تبدو أزلية، تفرّ فيها أرواح الماء من العمق وتتمدد على اليابسة، تتلاشى الأرواح أسفل قدميه وتوشوش في أذنيه بكلمات سرية عن الماء والإنسان، عن الجوف الذي احتضن وأخرج كل شيء حيّ..عن أمنا الطبيعة.
يصحو من نشوته، يستوقفه النبع، يتأمل الثقب، أدرك أنّ كارثة على وشك أن تقع، لحظات زمنية تتوحد وتتكثف، تمرّ بسرعة، لا يمكنه السكوت ، صرخ: “هو اولاد هو.. هنبور(2)”.
عبر الشط التصق أطفال الماء صامتين، وانبثقت كائنات مختلفة من بطون الجداول والحقول، كائنات تتسلق جذوع النخل، الكلاب تنبح، صمت غريب أحال الحشد إلى فزاعات، صمت متفق عليه يطوّق المكان… تلتمع المياه المنبثقة بملامح كائنات فضية وقمرية، يكبر “الهنبور” وعندما رأى زعنفة شبوط تنصل كمدية صرخ بأعلى صوته.. الله أبوى وزايلته الدهشة حين رأى الأسماك تلبط حيث يعانق الماء نزيز الجداول والشاخات.
حين ارتسم على النافورة قوسا ضاربا للحمرة من شلة طين صفيقة، استدلّ الابن أنّ الشمس حطتْ نوارة على الأفق وتراءى له البزوغ خلل هامات النخل الباسقة وكانت من جهة الشرق تشفّ عن تسننات منجل ذهبي، كتل منفوخة جامدة، معلقة كضباب نوراني كثيف فيما تهتز جدائل النخل وتزهو مع الأب عدّة قامات عملاقة ومساحي تلمع كلما ارتفعت للأعلى ومن ذلك اللمعان عرف الابن أنّ أبانا الماء عانق الأرض هناك.
هذا الصباح تغشيه جلبة لا يمكن تحديد مصدرها، استيقاظ مباغت للكون من سبات شتوي، صرير كائنات الغضب الّلابدة من أنوار البشارة، نباح وخوار أبقار وهزيم رعد يقترب، في تلك اللحظة، لحظة متناهية الصغر، اعتقد أنه شمّ رائحة دفلى منسابة مع الريح، باغته حارس “الدوبة” بإطلاقة نارية سددها نحو مدار الشمس حيث تطلق النيران ــ دائما وأبدا ــ نحو الشرق. لم يكن للإطلاقة النذير دويّ مفزع، بل انّ الكلاب والكائنات المنبثقة من أحواش القرية هي التي يغيم لغطها على الأصقاع.. الآن..
من تلك الأحواش وكوى مثلثات الصرائف والأكواخ انبثقت ألسنة شائهة من دخان أبيض مما يدل على إطفاء المواقد بسكب الماء.. هو النفير غير المعلن كلما تندلع حرب.. مستعمرات أخرى للدخان تلون الأراضي المحصبة ببقاع سود من رماد الحلفاء المحترقة بضباب باهت سرعان ما يختفي بعلو هامات النخل. في الشرق ــ حطت الشمس كطابق مسفوف من خوص قرمزي، الريح عالية تكنس السمت من أسراب الطيور.. في وكدي أن أرمي طاسة الموقد وأغوص في المياه لأسدّ فم “الهنبور”لكني احجمت عن هذه الفكره .. كانت شمسنا هذا الصباح حمراء كمحّ بيضة خضيري مسلوقة وبغتة انزلقت قدمي وانسدحت على طين المنحدر واختفى “قوري الشاي” بلمح البصر وعندما رفعت عيني للسماء مستفهما، مغط مارد جثتي التي تشبثت نتوءاتها العظمية بالأحجار الخادعة اللينة، ليس ثمة نبع لمياه “الهنبور” ــ المياه تنبثق من كل مكان، المياه فوقي.. المياه تحتي، وحين غرستُ أصابع قدميّ ويديّ كالجذور في دياميس “أبو الجنيب” لحظتئذ تمكنت من تسلق الضفة، في الأعلى واجهني “حارس الدوبة” بوجه مسحوق من الخوف ، كالملسوع يركض تجاه كل الأمكنة. وحين برقت السماء بشلال ضوء بعيد، رأيت عين الشط تلمع، تلمع هذه العين السحرية وتناديني بالغوص في أعماقها، فيما بدأت الريح تنزل من أعلى بأعاصير كالناعور تدور.. أخذت الريح تكنس الدخان عن الصرائف والحقول، غامت الدنيا، وأكد “حارس الدوبة” أن الدنيا انقلبت حين تمايلت “دوبته” على سطح الماء كفيل خرافي ,أحشى بندقيته طلقة حمراء وحارب كتلة الغيم عبر الشط، في تلك اللحظة.. الريح كالمارد تعصف، تأتي من اتجاهات أربع.. تعتكر المياه، هي مياهه التي غيّرت معالمها بسورة غضب، تحاول هدم “الطوفة” بموجة إثر موجة، تناديني المياه للغوص في أعماقها، تريدني أن أتشكّل فيها لكن الناس وقفوا حائلا بيني وبين الماء ومن ثم تقاطروا.. هناك.. حيث أصبحوا كائنات متوحشة من طين مزرق، ثمة صمت هائل وعميق عمّ الأصقاع، ضاع نباح الكلاب واختفت ذيولها بين أفخاذها, أبي وكائناته البرية وحده يغط وينبق في شلال على سدة النهر ولابد أن يكون ذلك الشلال من صنع أبيه وتأكد لديه أن غريزة الصيد بالدسوت قد عاودته البارحة، كنت على وشك أن أتبع الحارس الذي يناديني ويصرخ كالمخبول: “الله يلعن الدفلى.. ورد القحاب.. لماذا ورطني بالطوفة. الريح بدأت تهجم من أسفل، تهجم تلك الريح ومعها نثيث الموج تنفخ دشداشتي المبللة كشراع أو فزّاعة طير، أميل تارة لليمين وتارة للشمال، تنزع الريح دشداشتي عن جسدي، ينتفخ ثوبي رغم فتوقه وبلمح البصر يلتفّ حول الرقبة، يحجب عن عينيّ الرؤية، أصابني الدوار وغاصت قدمي اليسرى في الماء وتحسست نفسي أغطس في أعماق مجهولة وكدت أختنق وكالمذعور تخبط يداي في جوف الماء والدنيا تتضاءل.. تختفي.. في الحقيقة أني استسلمت لمشيئة الماء وأخذت أغطس نحو الأعماق بدون مقاومة، ثمة حبل سريّ يجذبني للأعماق، عشرات الأيدي تسحبني للأعلى والموج أتحسسه الآن يرطمني بالضفة، لم أكن أعلم أني كنت أصرخ مستغيثا.. الناس هم الذين أكّدوا بأن صراخي هو الذي جلبهم تاركين السيل يحفر مجراه في منتصف السدة. عرفت وقتها أني غرقت، كان الماء يخطفني بلحظة لا تستعاد، كنت روحا هائمة.. انهال عليّ الحارس بكومة شتائم ثم جلدني بغصن من شجر التوت، كان الغصن يصفر في الهواء قبل أن يلسع جسدي العاري ، فمه يذرب السباب والهمهمات، فهمت منها أن غرقي دفع الناس للانشغال بي وإهمال المجرى، لا يمكن وقف الماء بعد الآن، اللعنة كلها انصبتْ فوق رأسي ورأس أبي.. احتضنتني الأم، لا أدري أي سرّ أتى بها، أخفتني بعباءتها من الريح والبلل، في تلك اللحظة تأكدت أن أفعوان الماء حطم قيوده وأنّ اللعنة حلّتْ ولابد أن تكون بحجم الدنيا وإلا ما ثغبت الأم ناشرة الفزع.. يخيّم صوتها المدرب في الجنائز ووفيات الأطفال على صراخ النسوة والبكاء المفاجئ لحارس الدوبة لائما الشيخ الذي جعله حارسا للطوفة أيضا. تسري الريح في سماء مدلهمة، تبدو الريح غيوم سود تنبعث من جوف الماء المظلم، هي ريح نشور الطلع نشور الماء حيث ينمو كل كائن.. يكبر.. سوداء كالماء والغيم تهس بقشور البوص.. تزمر تراتيل الفيض، تنزع الأثواب وتعري الأجساد، تكشف عن قامات طويلة ونحيفة.. قريتي لا تكشف عورتها إلا للشمس والرياح، كنت ملفوفا بالعباءة ورائحة الدفلى ونعيب الأطفال عبر الشط وإطلاقات الحارس المنصبة على مدار الشمس والبرد ورائحة الماء العذب والأجساد المنارات، وحين اشتدّت ضراوة مارد الريح رقصت هامات النخل رقصة “الهيوه” وجنّ عفريت الماء المحبوس وانطلق يمزق الطوفة، يمدّ أرجله الخرافية، حين رعدت السماء وأيقنت أن الشط أزاح الطوفة عن طريقه، شلّني الرعب وتكوّرت في جوف العباءة ككل القواقع والجرذان، بدت هيئات أهل القرية غريبة بتلك المساحي والأشجار الخرافية التبرعم، أرقبهم بعيني بومة، ثمة أصوات تنتهي عند أذني المشرعتين “زلنطخ.. زلنطخ.. طلع راسك وانطح” وأدركت أن أطفال الماء على الضفة الثانية قد ألّفوا جوقة شعبية، لعلهم رؤوني وأنا أُ’جلد، لحظتئذ أحكمت لفّ العباءة وانضممت للحشد مختبئا من نظرات الحارس الزائغة وعويل النسوة وصيحات “هو اولاد هو” المتبادلة بين الطوفة والأحواش. وحين تمكن الرجال من سحب جذع نخلة وسدّوا السيل، ران صمت سرعان ما انفجر بصراخ يائس للنسوة وإطلاقات الحارس، طوّح السيل بالجذع كقطعة فلين. تبرق الغيوم وتصول الريح ويلتمع السيل كسيف خرافي وتغسل الأجساد بالمطر، الماء فوقهم.. الماء تحتهم.. الماء في كل مكان، ولاح له الأب بقامة صلصالية غسلها الغيث من أردان الوحل وهو يقود الحشد مهرولا إلى دوبة النفط، خلفهم كان الحارس مخبولا ينادي في الفراغ: “دوبتي.. دوبتي” ويهوي الأب بمسحاته على حبال الجنب التي تشدّ الدوبة إلى جذوع النخل.. أي سرّ يكتنف هذا الكائن وأية قوة غامضة تجعله يقطع الحبال بشفرة المسحاة.. الآن.. يرى الدوبة تقترب كحيوان خرافي، يبدو الأب شامخا على قيدومها، تضيء الشمس جسده ويبرق وجهه مع الغيوم. الحارس وحده ظلّ يمرغ جسده بالطين مهمهما.. الدوبة دوبتي.. ويهطل المطر كالسحر.. غزيرا يثقب سطح الماء ويتصايح الرجال المجبولون على العمل. الدوبة تعترض الماء في حلق السيل لكن المياه المزبدة منذ بدء الخليقة تقصم الدوبة من الوسط فيما حاول الأب أن يخطو خطوة واسعة على الضفة لكنه يهوي منشطرا مع الأخشاب المتفسخة .عيناه تلتهمان السيل بحثا عن الأب التائه تحت الماء، ثمة من يشدني للخلف كي لا أصاحب أبي رحلته الغامضة.. الآن.. ضاعت رائحة الدفلى وحلّتْ رائحة النفط.. انتبهت.. تشدني الأم لصدرها المبلل وتصرخ مشيرة إلى جثة هامدة تغطس هابطة.. لأول مرة أرى عينيه ناصعتين.. متوهجتين تحت سطح الماء المضطرب والمشوش بقطرات المطر.. كان ينظر لوجهي.. يناديني بالغوص معه في رحلة كونية تتجانس مع الماء لبزل الأراضي التعبى وتخصيب جسد أمنا الأرض العظيمة الرؤوم.
• هو اولاد هو: مناداة ريفية متفق عليها للإستغاثة.
• هـنـبــور: الماء الذي ينبجس من تحت السدود.