باقر جاسم محمد : أنا الحرية: البنية والتأويل في (الكرسي)

أنا الحرية: البنية والتأويل في (الكرسي)
باقر جاسم محمد

أولاً. النص الأصل والنص المترجم والنقد:
في البدء، لا بد من الإشارة إلى المشكلة المنهجية المتمثلة في أننا، في قراءتنا هذه، لا نقرأ على نحو مباشر نص “الكرسي” الأصلي نفسه؛ إذ أن هذه القراءة إنما تنعقد على النص الذي ترجمه الأستاذ سامي إبراهيم داوود إلى العربية عن نص كتبه الشاعر الكوردي شيركو بيكه س باللغة الكوردية الكورمانجية أصلاً. وهذا الأمر يدعونا إلى التدبر في مسألة أهلية النص المترجم للنقد، وهي مسألة تتفرع إلى عدد من الأسئلة الأساسية. فهل الترجمة نقل للنص بأمانة وحياد أم أنها تنطوي على شيء من إعادة الكتابة للنص الأدبي؟ وما الخصائص النصية التي تميز النص الأصلي التي حافظ عليها النص المترجم؟ وما الذي تغير في النص المترجم؟ وكيف نحدد ما أضافه المترجم؟ ثم السؤال الأهم، وهو كيف يستطيع النقد أن يتخلص من شباك النص المترجم ليتحدث عن النص الأصلي؟ وهي أسئلة مهمة؛ ولكن الإجابة عليها تنصرف بهذه المقالة عن هدفها وتجعلها بحثاً في الترجمة. بيد أننا سنمس بعض هذه الأسئلة مساً رفيقاً حين تقتضي الضرورة ذلك.
في ترجمة النصوص الأدبية عموماً، وفي ترجمة الشعر خاصة، ترتقي الترجمة، أحياناً، إلى مستوى إبداعي يصح معه أن نتحدث عن المترجم بوصفه مبدعاً يعيد كتابة النص في اللغة الهدف، كما يقول أندريه لوفيفر(1). ولكن ذلك لا يعني تغييب صورة النص في لغته الأصلية تغييباً مطلقاً. ففي ترجمة الشعر تذهب أشياء كثيرة منها المزايا الصوتية اللصيقة بطبيعة اللغة الأصلية، وهي مما يسمى بـ language specific، و كذلك المزايا الإيقاعية للشعر في اللغة الأصلية التي يتعذر أن تنقل في الترجمة حتى وإن اتخـذت الترجمة صيغة الشعر في اللغة الهدف. فضلاً عن الإشارات والملاحظات التي قد يضيفها المترجم في حواشي النص، وعلى الرغم أهمية هذه الإشارات والملاحظات، فهي تتحول إلى عناصر دخيلة على النص الأصلي. أيعني ذلك أن نزهد بترجمة الشعر؟ وأن نقول باستحالة نشوء قراءة نقدية على النص الأصلي عبر النص المترجم؟
الجواب هو بالسلب للسؤالين معاً بشرط أن يكون الناقد القارئ ملماً بمثل هذه المشكلات، وعلى بينة من القضايا الأساسية في الترجمة، وأن يعرف ما يذهب وما يبقى في النص الأصلي. إذن، تبقى الصور الأدبية و المعاني الأصلية وبعض التجليات الفنية والبلاغية ويبقى الشكل الفني بوصفه شفرة أساسية من شفرات النص الأصلي. على أن ما يبقى سيتأثر أما سلباً أو أيجاباً بالصوغ الأدبي في اللغة الهدف. وقد أشار الأستاذ سامي إبراهيم داوود إلى شيء من ذلك حين قال في المقدمة “آن [أن] عقدت العزم على القيام بترجمة ديوان (( الكرسي)) للشاعر شيركو بيكه س، كنت مدركاً لأمرين أثنين، أولهما, هو الفرادة اللغوية التي ينفرد بها شعر بيكه س في حركة الشعر الكوردي المعاصر، حيث يضاعف ذلك، امتناع قصائده عن الترجمة، أي تعقيد درجة الحساسية في نقل المحتوى الثقافي…”(2) ومن الواضح أن المترجم يقرُّ هنا بالصعوبة التي تكاد تصبح استحالة في نقل ما سماه شعر شيركو بيكه س لهذه الفرادة اللغوية، و هي من أول الأشياء المفقودة في النص المترجم؛ ذلك أننا إنما نقرأ نصاً بالعربية هو خلاصة فهم المترجم للنص الأصلي وتفسيره له، والنص المترجم هو تعبير عن قدرات الصوغ اللغوية بالعربية التي يمتلكها السيد المترجم وإن ظل َّ الشكل الفني ذا صلة واضحة بالمؤلف الأصلي شيركو بيكه س. وأعني بالشكل الفني ذلك المسعى التجريبي في الانتقال بين مجموعة من الأجناس: من الشعر الغنائي إلى السرد القصصي، ثم إلى الكتابة السردية ذات الطابع الصحفي، فضلاً عن المماهاة مع الشكل العام للكتابة في النصوص المسرحية. وبهذا يمكن لنا أن نتجاوز بعضاً من الظواهر الكتابية للنص المترجم لأننا سنسعى إلى التركيز على التشكلات الأصلية للنص التي لا تتأثر كثيراً بالترجمة.

ثانياً. النص ومشكلة التجنيس:
إن بنية التداخل بين الأجناس الأدبية لا تمثل لعبة شكلية لدى شيركو بيكه س. وإنما هي في الجوهر من الرؤيا الشاملة للعالم التي يجسدها المؤلف. ولسوف يكشف التحليل كيف أن عملية الانتقال من جنس أدبي إلى آخر كانت تجري بسلاسة وتعبر عن وحدة الرؤيا بالرغم من تعدد وجوه وأشكال التعبير الفني. إن البحث في الأسباب التي أدت إلى تشكل الأجناس الأدبية من شعر وسرد قصصي ومسرحي ومقالة يقع في باب نظرية الأجناس الأدبية، تلك النظرية التي تقوم على استخلاص سمات فنية من أعمال بعينها وتقوم بتعميمها وجعلها أساسية في كل جنس أدبي. لكن التجربة الأدبية تكشف عن أن وجود الجنس الأدبي الخالص هو الاستثناء وليس القاعدة. ويكشف البحث في الخيارات الأجناسية عن أن لكل نوع أدبي طاقة تعبيرية معينة تجعله أكثر قدرة على التعبير عن جوانب معينة من التجربة البشرية ولخدمة أهداف محددة. فالشعر، مثلاً, يعبر عن الاحتدام الروحي والميتافيزيقي العميق بوصفه تجربة ذاتية داخلية يتولى الخيال الكشف عن أبعادها التي قد لا يستطيع العقل إدراكها. ويعبر السرد القصصي عن جوانب التجربة الإنسانية في أبعادها الاجتماعية والفكرية. أما النص المسرحي فإنه يستثمر التشخيص للقوى المتصارعة، أو الشخصيات، في المجتمع ويضعها في سياق درامي تؤدي نهاياته إلى الإيحاء بدلالات فكرية وسياسية واجتماعية ونفسية معينة. وإذا ما كانت رؤيا المؤلف، وهنا أستخدم مصطلح المؤلف بمعنى يتجاوز معنى كلمة شاعر لأنه يشير إلى معنى المنشئ والمبدع، فهو مصطلح يعبر عن التجربة البشرية في شمولها وتعقيدها وتعدد مظاهرها وتجلياتها إذ قد لا يتسع الجنس الشعري للإحاطة برؤياه. وهذا مما يفرض عليه استثمار الأجناس الأدبية المجاورة دون أن يحصر نصه في خانة نوع أدبي بعينه. ولعل هذا الأمر يجعلنا نرفض كلام المترجم عن ترجمة ” ديوان (( الكرسي)) للشاعر شيركو بيكه س…” لأن مفهوم الديوان، الذي يعني مجموعة من القصائد، بعيد كل البعد عن هذا النص حتى وإن عددناه نصاً شعرياً. وكذلك لن نقبل توصيف دار المدى للنص بوصفه شعراً لأننا هنا لسنا إزاء نص أدبي ذي نسب إجناسي واضح المعالم، وإنما نحن في مواجهة نص أدبي يستفيد من جملة أجناس أدبية. ولا يستطيع مثل هذا الصنيع الأدبي الإبداعي سوى من كانت رؤياه تضيق بحدود الجنس الأدبي الواحد سواء أكان شعراً أم سرداً قصصياً أم نصاً مسرحياً. ولنتذكر هنا مقولة محمد بن عبد الجبار النـِّـفري المعروفة ” كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة” التي قد نقرأها على النحو الآتي “كلما اتسعت الرؤيا ضاق الجنس الأدبي”. ولعل من المناسب أيضاً أن نقرر هنا بأننا لا نعلم يقيناً إن كان هذا النص الأدبي المعنون بالكرسي هو شعر انفتح على السرد القصصي والنص المسرحي أم انه سرد قصصي انفتح على الشعر والنص المسرحي أم أنه نص مسرحي انفتح على الشعر والسرد القصصي لأننا ببساطة إزاء فضاء نصي متعدد المرجعيات الأجناسية أو متعدد الآباء. و لن ينفعنا في شيء أن نعلم بأن منشئ النص شاعر. فالنص يحتوي على جملة من الأجناس الأدبية، وهو ما يمكن تسميته بجامع الأجناس الأدبية أو ’archigenre ‘. و هو مصطلح ذو مفهوم مختلف عن مصطلح جامع النص، أو architext، الذي أطلقه جيرار جينيت للتعبير عن التناص سواء أكان ذلك عبر الثيمات أو الأنماط البشرية أو الأشكال الفنية.
وإذ يمثل الجنس الأدبي شفرة شكلانية مهمة تسهم في توجيه القراءة فإن تلقي النص ذي التمظهرات الأجناسية المتعددة يشبه إيلاج عدة مفاتيح في ثقب واحد. أو يشبه فتح خزانة بأكثر من مفتاح واحد في الوقت نفسه مما يشي بصعوبة المقاربة النقدية لمثل هذا النص. وعلى أية حال فإن النص، كما يقول جيرار جينيت “ليس من المفروض فيه أن يعرَّف، ومن ثم، أن يعلن عن نوعه الخاص؛ فالرواية لا تحدد ذاتها بوضوح على أنها رواية ولا القصيدة على أنها قصيدة، بل، ولربما، وبطريقة أكثر حصرا ً(لأن النوع ليس سوى مظهر لجامع النص) فإن البيت الشعري ذاته لا يعين نفسه على أنه بيت شعري، ولا النثر على أنه نثر ولا الحكي على أنه حكي… في النهاية؛ فإن تحديد قانون أو معيار النوعية لنص ما ليس من شأن النص وإنما من شأن القارئ، من شأن النقد والجمهور؛ فهذه العناصر وحدها هي من يستطيع، وبجدارة، الطعن في القانون المزعوم للتوازي النصي.”(3) ولسوف يكون علينا أن نتعامل بجدية و حذر مع تلك الإشارات مثل العنوان الفرعي، و نصه: “نص مفتوح. الشعر. القص. النثر. المسرح” , و ذلك باعتبارها موجهات تحف بالنص وتمثل النص الموازي أو paratext، فهي جزء من البعد التداولي للنص الأدبي الذي يقع على عتبة النص أو حافته الأولى، مما يخولنا أن نتحرى عن التشكلات النصية المعبرة عن تجسيد هذا التوصيف، وعن الدلالات الفكرية لمثل هذه التشكلات وصولاً إلى تحديد الأثر الجمالي لها.
والحقيقة أن استثمار أجناس أدبية معينة في صوغ نص واحد قد لا ينتسب بالضرورة إلى أي من الأجناس هو أمر عرفته التجربة الأدبية العربية. فقد كتب توفيق الحكيم نصا ً هو “بنك القلق” الذي يجمع بين المسرحية والرواية وأسماه ” مسرواية”. وعموماً، نرى بأن الصوغ الأدبي يتشكل انطلاقاً من مفهوم مركزي مستمد من الرؤيا المهيمنة على النص. وتكون الصيغ البلاغية والإحالات المعرفية والخيارات الشكلية الموضعية، فضلا ً الانتماء الأجناسي، منسجمة مع تلك الرؤيا ومفهومها المركزي ومعبرة عن صورة الذات إزاء صورة الآخر. ويذهب دأنييل- هنري باجو إلى أن “كل أدب يركز على أسس هويته، حتى عبر التخيّل، ينشر صور الآخر أو الآخرين، من أجل أن يشكل نفسه، ويتحدث عنها.”(4) و هذا الأمر ينطبق على نص ” الكرسي” بامتياز. فهو نص يتجاوز منطق و مواصفات الجنس الأدبي، أو genre، إلى ما يمكن أن يسمى جامع الأجناس الأدبية كما أوضحنا سابقاً.
ثالثاً. استراتيجيات بناء النص:
ترى، ما هي أهم الاستراتيجيات التي اعتمدها المؤلف في بناء نصه؟ قد يكون واضحاً أن المؤلف اعتمد على استراتيجية محو الحدود بين الأجناس الأدبية. وهو ما صرح به النص الموازي حيث يقول:” نص مفتوح. الشعر. القص. النثر. المسرح”. ولكي يؤكد الطبيعة العابرة للأجناس، يبدأ النص بمقطع من الشعر الغنائي حيث نقرأ:
أنا كاتب النص،
عتيق في المدينة،
مجنونٌ كالريح،
حافٍ
رثٌ
حائرٌ.
هنا تقدم الذات الباثة للرسالة نفسها إلينا بكلمات قليلة. ويستمر هذا (العتيق في المدينة) في تأمل ذاته في المقطعين الثاني والثالث عبر صور شعرية تؤكد حضور حرية المخيلة وسعتها. فهو قد يستحيل شعراً في حانة أو خطيئة هائمة، وقد تكون وحدته عقعقاً نحيلاً يضع يد ألمه على حنك الذكرى ويدخن الضباب سيجارة تلو الأخرى. وبدءاً من المقطع الرابع نقرأ:
يشرع الكرسي بالحديث
و دخاني بلسان رماده
يدوِّن على الباب و الجدار
على الأرض
أو على جسد عابر ٍ ما
كل ما سأقوله.
ويتداخل حديث الكرسي بما ستقوله “أنا كاتب النص” التي تتحول هنا إلى ذات ماثلة في كل تجليات النص كما سنوضح لاحقاً. فنحن إذن سنكون بإزاء حديث الكرسي مدوناً على لسان كاتب النص. وهذا يعطي ما يأتي من النص سمة موضوعية أكثر، وذلك زعما ً بأن أقوال الذات الباثة للرسالة النصية ليست سوى تدوين لحديث الكرسي. وتحدث هنا النقلة الأولى نحو السرد، فنقرأ:
هو ….
كرسي هرم قصير
ضامر الكتفين
محبوب بجبينه العريض

لكن هذا الوسرد لا يخلو من النزعة الشعرية الغنائية تماماً، مثل قوله في المقطع السادس:

كأنه غيمة صغيرة معذبة في (( سه يوان))
دكنة تحيط عينية
إن أصغيت لصدره
أحسست صوت روحه
يختضُّ في جسده
أبدا ً…
كأنما النار تؤرجحه.
في هذه المقاطع، وفي بقية متن النص، يتجسد التداخل بين الأجناس شعراً وسرداً ونصاً مسرحياً، والأخير يختلف عن المسرح لأن النص أحد مقومات المسرح كما نعلم. إذن فإن النية المعلنة في النص الموازي قد تحققت. ولكن مهمة النقد تتجاوز حدود ما مصرح به إلى البحث في ما لم يصرح به. أعني العلاقة بين استراتيجية محو الحدود بين الأجناس وبين الاستراتيجيات الأخرى. في الحقيقة فإن النص قد اعتمد استراتيجيات متعددة، ومنها استراتيجية أنسنة الأشياء والكائنات الأخرى، أو ما يسمى بالتشخيص بالإنجليزية personification of things، وفي الوقت نفسه تجري عملية تشييء الإنسان أو objectivization of human being.
إذن، أيحق لنا أن نصف ذلك الصنيع بأنه محو للحدود بين الإنسان بوصفه جنساً وبقية الأشياء والكائنات بوصفها أنواعاً أو أجناساً مغايرة؟ ثم، ألا يمثل ذلك تطابقاً بين محو الحدود بين الأجناس الأدبية ومحو الحدود بين الإنسان والأشياء بوصفها استراتيجيات بناء النص؟
إن النص، إذ يحقق هذا البعد العميق من التوافق بين استراتيجيات البناء الذي توحي به أسئلتنا أعلاه، فإنه يقترح أن تكون قراءته ضرباً من الكشف عن البنيات المولدة للتجربة الأدبية و ارتباطها بالرؤيا الشاملة و المهيمنة في النص. ولسوف يكون ذلك أحد أهدافنا في هذه القراءة.
يكتسب عنوان النص أهمية بالغة في الأدب الحديث. إنه إشارة أولى تستثير المتلقي وتجعله في حالة توقع بعينها. وترتبط حالة التوقع هذه مع قراءة متن النص بعلاقة الترقب والانتظار لما تسفر عنه القراءة من تحقق أو عدم تحقق ما توقعه القارئ؛ من هنا يكون العنوان عاملاً جوهرياً مؤثراً في صيرورة القراءة اللاحقة. فكيف إذن نفهم هذا العنوان المؤلف من كلمة واحدة معرَّفة هي ” الكرسي”؟ قد يذكرنا العنوان بخبرتنا مع الكرسي أو الكراسي. و قد يشير إلى جزء من الأثاث الذي نمارس عليه فعل الراحة بعد جهد. ولكن الأمر الأهم هو أنه يذكرنا بآية من القران الكريم تحمل الاسم نفسه. و هي من الآيات القلائل التي لها اسم مخصوص في القرآن. فهل يسوغ النص لنا الالتفات إلى مثل هذه الإشارة؟
بداية، يحفل النص بذكر كراسٍ كثيرة ٍ. فهناك، كما رأينا، الكرسي البطل. وهو كرسي عادي، ولكنه كائن نصي مؤنسن ويلعب دور الشخصية الأهم في النص على الرغم من وجود كراس أخر. وقد مرَّ هذا الكرسي بتجربة مريرة، لذلك فهو كرسي حائر؛ إنه كرسي من سلالة شجرة الجوز. ويتكفل النص، عبر الذات الباثة للرسالة النصية بسرد هذه التجربة المريرة متنقلاً بين الأجناس الأدبية؛ فتتردد عبارة “يحكى أن” ثلاث مرات. وحين تسرد علينا حكايته نقرأ:
لا يتذمر أو يتطلَّب،
لا يغضب أو يثرثر،
فقط أمر واحد
ينغص على قلبه.
هنا..
لا تعرفه النساء
ولا يأتين َّ لاحتضانه يوماً
لا صديقات لديه بين النساء.
في هذا الوصف للكرسي تتداخل مرة أخرى سمات ” الكرسي” الشيء التي يرد ذكرها في السطرين الأول والثاني. و لكن بقية المقطع تعبر عن هواجس وسمات بشرية منسوبة للكرسي. وعلى وفق هذا المنطق، لن يكون غريباً أن يجري حوار بين كرسينا العتيد من جهة وكرسي آخر من أهالي سنندج وأريكة عثمانية من جهة أخرى. ففي الصفحة 20 نقرأ:
في ليلة لكاثية صامتة
سرد الكرسي بحزن:
لا أتذكر أيامي الغضة
و لا رضاعتي.

أو نقرأ في الصفحة 21:
كنت في صباي نحيلاً
ثمت اثنتان من الذكريات، كأضغاث أحلام
ظلَّـتا في عمق مرايا مخيلتي
إذن، فإن البطل هو الكرسي الذي قد ينشئ حواراً بينه و بين فراشة مهتاجة! أو قد يسرد علينا ما قاله والده عن أخويه في الرضاعة من شجرة التين اللذين قتلت أحدهما طائرة في جاسه نه. ذلك أنه ينقل عن أبيه عن جده كما يفعل البشر. ولذلك يحق لنا أن نعده قناعاً تختفي خلفه الذات الباثة للرسالة النصية. فنقرأ على لسان الكرسي قوله:
ما تصيره مصيرك،
مصيرك، ما يصنعونه منك؟
أتذكر مرة
نورساً، توجه إليَّ مصادفة
ببنطال وشعر أصفر
صحفي شاطئٍّ
كان ينوي عمل ريبورتاج عن حياة الشجر
يرسله إلى جريدة اسمها (( عيون المحيط))
كلما رأى شجرة، سألها:
– بعد حياتك هذه، ستبعثين لإلهك النجار، ما تحبين أن تكونينه؟

قالت إحداها: أريد أن أكون معرض كتب
والأخرى: خزانة لغرفة فتاة
والأخرى: خزانة أوانٍ
هكذا إذن ينتقل النص إلى السرد و الحوار، فيجري نورس، و هو من جنس الطير، ببنطال وشعر أصفر حديثا ً صحفياً، وهذه سمات وأفعال تناسب البشر، مع الشجر، وهو من جنس النبات، عما ترغب أن تكون، وهي رغبات عاقلين من البشر ايضاً، وذلك انسجاماً مع منطق استراتيجية محو الحدود بين الأجناس والكائنات المتوافقة مع استراتيجية محو الحدود بين الأجناس الأدبية. و لعل المقطع الآتي يظهر تداخل الرغبات المنسوبة للكرسي مع رغبات إيروسية دفينة لدى الذات الباثة للرسالة النصية فنقرأ على صفحة 46:
كنت أشعر بأن أخشابي ستخضر
كانت تهن عيوني
و أجمل الأحلام أرى.
كنت عذق شجرة جوز
لا تعلم ما الذي يحدث لك
إن بركت العروسُ عليك..؟
يدها على يدك فخذها على فخذك.
وساقها ملتصق بساقك
لا أحد …. إلا وذاب بالكامل
جذلا ً يحلق مع العروس نحو الغـَيم
في قبة السماء.

ثم في صفحة 47 نقرأ:
حينما أرادت أن تنهض
بإصبع خدش رفيع
أمسكت ُ ثوبها بقوة
فجلست مجبرة
لم أتركها إلى أن
ارتويت منها .
إذن، يرمز هذا الصنيع السردي المتخيل والمنسوب للكرسي إلى اشتهاءآت الذات النصية نفسها التي قد تروى لنا أحداثاً مرَّ بها الكرسي فتتداخل مع أحداث وفضائع شهدتها منطقة كوردستان مما يجعل الرسالة ذات طبيعة ذاتية إيروسية من جهة وسياسية اجتماعية من جهة أخرى.
ويبدأ جنس النص المسرحي (وليس المسرح) في الصفحة 65، فنقرأ:
“(على خشبة المسرح. منتصف الليل. غرفة – كرسي وطاولة خشبية. باتجاه الجمهور).
الكرسي: تأخر الوقت، لكني سأنتظر
بعد قليل سيعود جيوار
ثملاً بالنبيذ والهموم
يمسك بجناحي، ويبعدني عن الطاولة قليلاً.
في الواقع، لا أنسجم مع هذه الطاولة
:انني عبدها. علي أن أتبعها أينما ذهبتْ.
على كل حال، عندما جلس جيوار عليَّ.
حينها كتب آخر مشهد للمسرحية.
( يأتي جيوار إلى الغرفة. مدندنا ً بكلمات أغنية حزينة،
يمسك الكرسي ويبعده قليلا ً عن الطاولة. بضع ثوان من صمت وتأمل).”
ويلاحظ هنا أن الصراعات الاجتماعية الممثلة بالخلاف بين نوزاد وزوجه روناك سيحسم بأن تقرر روناك مغادرة المنزل كما فعلت نورا بطلة مسرحية “بيت الدمية” للكاتب النرويجي هنريك أيسن. ولسوف يحضر المشهد السياسي والاجتماعي في خلفية الحوار بين روناك و نوزاد:
روناك: …
نعم سأذهب. إلى بيت أختي نرمين
في الجبل. في قرية ((هلدن ))
نوزاد: هم لا يجدون ما يأكلونه…
( روناك مقاطعة حديثه): لا يهم. فلأمت من الجوع
لكن أكون حرة… حرة.
نوزاد: امرأة و جبل و قصف الطائرات؟!
روناك: نعم. امرأة و جبل. وليس هذا فحسب
بل امرأة وثورة…
وهذا آخر كلام لدي.
إن هذا الحضور المؤقت للقضايا الاجتماعية والسياسية سيستمر في المشهد المسرحي. وسوف يتسع المشهد لحوارات بين الكرسي البطل وبقية الكراسي والأرائك. هناك أيضاً استذكارات على لسان الكرسي تستحضر أسماء شعراء كورد ومن بينهم عبد الله كوران ونالي ومولوي وشيركو بيكه س نفسه. ومرة أخرى آليات، تحضر الكتابة المسرحية فنقرأ عبارة مثل: ( كرسي المقدمة يلتفت نحو الأريكة) ثم يٍسأل ” كيف كانت اسطنبول..؟” مما يؤكد التداخل الأجناسي ويعمق من تأثيره في المتلقي الذي ستتخلق لديه أسئلة حول دلالات هذا التداخل.
رابعاً. النص و وظائف الخاتمة:
تحظى خاتمة النص الأدبي بأهمية موازية لأهمية الاستهلال فيه. لكن وظائف الأخير (الاستهلال) لا تتطابق مع وظائف الأول (الخاتمة). فالاستهلال يوطئ لمتن النص، ويثير شهية التأويل بما يتركه من فراغات، في حين تقوم الخاتمة بتكثيف المادة النصية، وتركيز المعطيات النصية الشكلية والدلالية في شتى تمظهراتها. واستناداً إلى هذا الفهم لوظائف الخاتمة، سنقوم بقراءة المقطع الختامي لاستجلاء صلته بمتن النص وكيفية أدائه لتلك الوظائف. نقرأ في المقطع الختامي:
ممعناً [ النظر] في نقطة سوداء،
للحظات استحالت سنونواً حبيساً،
آنئذ رفعتُ رأسي،
حلق السنونو عالياً
أبصرت في سطح سماء ناصعة،
غيمة في سيماء كرسي،
نفسه، الكرسي
وُضع قرب عرش الله،
منتظراً
أن تقعد عليه.. أخيراً
الحرية.
و لنا الملاحظات الآتية على الخاتمة أو المقطع الختامي:
أ‌. إنه يستعيد البنية الفنية لتداخل الأجناس. ويذكرنا هذا بما سميناه بجامع الأجناس الأدبية. وبذلك تكون النهاية مرتبطة بالبداية وبكل التحولات الشكلانية التي مرت بنا في النص. وقد يصفها البعض بالحكاية الشعرية استجابة لرأي يؤكد أسبقية الشعر التراتبية بالنسبة لبقية الأجناس الأدبية. ولكن ذلك الرأي يغفل أن الاستعانة بتلك الأجناس الأخرى إنما كان نتيجة رؤيا تتجاوز قدرات نوع أو جنس أدبي بعينه على التعبير عن التجربة التي جسدها النص.
ب‌. إنه يؤكد صحة ما توقعناه من وجود علاقة بين العنوان وآية الكرسي التي تشير إلى العرش الإلهي. فهذا الكرسي ( وهو الذي كان غيمة في سيماء كرسي)، الذي وُضع قرب “عرش الله”، سيكون نتاج التجربة البشرية التي تصبو إلى ما يمكن أن يكون حلماً بالخلاص من خلال جلوس الحرية، وهي من المجردات، على الكرسي العتيد بعد أن جلس عليه أشخاص من العظماء والشرفاء والشعراء وآخرون من السفلة والأوباش، ووضعت عليه أشياء وأشياء. إذن فإن جلوس الحرية على كرسينا هذا يؤشر انتقال دلالة الكرسي الشيء، المرئي والملموس إلى دلالة تجريدية. ولعل معنى تجاور الكرسي مع عرش الله أو قربه منه إنما هو الأمل بأن تكون الحرية في جوهرها الإنساني وبالترابط مع الإيمان بكل ما ينطوي عليه من أبعاد ميتافيزيقية ونفسية واجتماعية هما الضامنان لكينونة بشرية أقل إيغالا ً في الخطأ و الخطيئة.
ت‌. والآن، إذا ما ربطنا أول كلمة طالعناها في النص، وهي كلمة “أنا” مع آخر كلمة فيه، وهي كلمة ” الحرية”، فإننا سنكون جملة مفتاحية اتخذناها عنوانا ً لمقالتنا هذه، وهي “أنا الحرية” التي تعد رؤيا مهيمنة في عموم النص. وهنا نرى بأن استراتيجيات محو الحدود الأجناسية ومحو الحدود بين الإنسان والكائنات، التي تعدُّ خروجاً على المألوف والسائد، إنما تمثل فعلاً من أفعال الحرية، ولذلك يجوز لنا القول أن البنيات المكونة للنص قد تولدت عن الرؤيا السائدة فيه من جهة، وقامت بتدعيم هذه الرؤيا من جهة ثانية.
ث‌. وفي التأويل النهائي، يجسد النص الوحدة الكلية لحركة عناصر ثلاثة هي: الذات بأبعادها النفسية والروحية، والمجتمع بما ينطوي عليه من صراع و ظلم، والمطلق بوصفه حاجة ميتافيزيقية أصيلة في النفس البشرية، فضلاً عن التطلع إلى الخلاص الكلي عبر رؤيا تقترب من النيرﭭانا. وكان ثمة تناغم كلي بين التقنيات الشكلية وهذه المعاني والدلالات، فكان الشعر هو السائد في التعبير عن الذات بينما كان السرد والنص المسرحي هما السائدان في التعبير عن الحياة الاجتماعية بأبعادها الموضوعية و الصراعية.
أليس كذلك؟

الملاحظات و الهوامش:

1. أنظر كتاب:
André Lefevere (1992) Translation, Rewriting,  the Manipulation of Literary Fame, London and New York, Routledge. The Introduction. pp. 2-4
2. أنظر ” سيرة لا بد منها لهذه الترجمة” وهي مقدمة كتاب ” الكرسي” لشيركو بيكه س. ص. 5. الصادر عن دار المدى.
3. دأنييل-هنري باجو ” الأدب العام و المقارن” ترجمة د. غسـان السـيد. منشورات اتحاد الكتاب العرب, دمشق. 1997. ص. 105.

4. جيرار جينيت ” أطراس” اختيار و ترجمة المختار حسني. الأنترنيت.
تاريخ الدخول 20/10/2007.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| مهند النابلسي : سينما ارتجالية وشهرة مجانية وشخصيات سطحية:وصف دقيق لتحفة ترفو”الليلة الأمريكية”-1973/الفيلم الفائز باوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام:1974 .

*يلعب Truffaut نفسه دور مخرج سينمائي يُدعى Ferrand ، الذي يكافح ضد كل الصعاب لمحاولة …

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *