
المعجزة
بعد أن هدأ القصف ، وأبعِد القناصون عن الحيّ ، تسلل مجموعة من الجنود بين الخرائب ، وراحوا يتجولون وأسلحتهم بين أيديهم .
وتوقفوا ينصتون ، حين خيل إليهم ، أنهم يسمعون بكاء طفل رضيع ، صادر من تحت أنقاض أحد البيوت القريبة ، التي هدمها القصف .
وأسرعوا نحو الأنقاض ، وراحوا ينبشون بأياديهم الملهوفة المشفقة حول مصدر الصوت ، وإذا طفل رضيع في حدود السنة ، يصرخ مستنجداً ، وقد غطاه الغبار من رأسه حتى قدميه .
انتشلوه برفق من بين الأنقاض ، ونزعوا عنه ملابسه الممزقة المغبرة ، وجاءه أحدهم برضاعة فيها شيئاً من الحليب ، من أين جاء بها ؟ لا أحد يعرف ، وراحوا ينظرون إليه مبتسمين فرحين ، وهو يرتشف الحليب بنهم ، وينظر إليهم الواحد بعد الآخر .
قال أحدهم : هذه معجزة .
تساءل جندي : والآن ، ماذا نفعل به .
أجاب أحدهم : الأفضل أن نأخذه إلى الميتم .
علق آخر : الميتم قصف ، وقتل الكثير ممن فيه ، والتحق الباقون بالمهجرين .
وران صمت ثقيل حائر ، والطفل مازال ينظر إليهم الواحد بعد الآخر ، فتقدم أحد الجنود ، وقال : لدي ثلاث بنات ، وطالما حلمت أن يكون لهن أخ .
وربت بحنان على رأس الطفل ، وقال : هذا أخوهم .
أم ايزيدية
سمعته يلهث ويئن ، وهي فوق ظهره بجسدها الثقيل المشلول ، خاطبته بصوتها الشائخ المعذب : كفى ، يا بنيّ ، دعني أمتْ هنا .
لم يردّ عليها ، وواصل طريقه بخطى ثقيلة متعثرة ، بين مئات النازحين من الأطفال والنساء والشيوخ ، فتابعت قائلة : أنتَ شاب ، والحياة لك أنتَ وليس لي ، أنزلني ، يا بنيّ ، ستموت من التعب .
ومرة أخرى لم يردّ عليها ، وهزتْ رأسها المتعب ، إنه عنيد كأبيه الراحل ، فها هو يحملها على ظهره منذ ساعات ، وسط الجموع الهاربة ، التي لاحقتها على الجبل ، قنابل الهاون ، وبنادق القناصة ، وكأن لم يكفهم المجازر التي ارتكبوها في القرى القريبة .
ومنذ الفجر ، جاءهم النذير من كلّ مكان : اهربوا ، اهربوا بسرعة ، إنهم قادمون .
وعلى عجل ، وتحت جنح ظلام أول الفجر ، لاذ الجميع بالهرب ، متجهين إلى الجبل ، وأسرع ابنها إليها ، وهي جثة حية ، متمددة في فراشها ، وحملها عنوة على ظهره ، فصاحت به : بنيّ ، لن تقوى على حملي ، دعني أمتْ هنا .
وقال لها ، دون أن يتوقف : الجميع يهربون إلى الجبل ، لن أهرب وأتركك هنا .
وتوقف لاهثاً عند أعلى مرتفع ، يطل على واد سحيق ، وأنزل أمه عن ظهره قرب شجرة وارفة ، وتهاوى على مقربة منها في ظل صخرة كبيرة ، وأغمض عينيه ، لابد أن يرتاح قليلاً ، إذا أراد أن يواصل الطرق ، وأمه فوق ظهره .
وانتبه بعد حين ، إلى أزيز طائرة تحوّم فوقهم ، وفتح عينيه المتعبتين ، وخفق قلبه بشدة ، أين أمه ؟ لقد وضعها بنفسه قرب الشجرة ، وهبّ من مكانه ، وأطلّ من أعلى المرتفع ، وأبصرها بعينيه الملتهبتين ، جثة مدماة هامدة في أسفل الوادي .
البيت ـ القبر
رغم احتجاج زوجته ، ونصائحها القلقة ، وبكائها الخائف ، أصرّ على السفر إلى الموصل ، إلى الجحيم ، الذي لا يهمد أواره .
قالت له من بين دموعها : ابق معنا هنا ، الأمور مازالت خطرة .
فقال : لقد توقف القتال .
قالت : أنت تتركنا للمجهول .
فقال : لابدّ أن أعرف مصير أمي .
لقد أصرت أمه ، بعنادها المعروف ، على أن تبقى في الموصل ، ولا تهاجر معه إلى دهوك ، رغم أن القتال كان قد اشتعل في الساحل الأيسر من المدينة .
ووصل إلى الموصل بشق الأنفس ، واستطاع أن يتسلل إلى الساحل الأيمن ، ويصل إلى بيتهم القديم ، في حيّ قريب من الجامع الكبير ، الذي لم توفر فيه الحرب بيتاً واحداً ، وحولته إلى ركام من الحجارة .
وعلى مقربة من حيهم ، رأى امرأة عجوز ، تسير متكئة على شيخوخته ، سلم عليها : مرحباً أم سالم .
توقفت المرأة العجوز ، وحدقت فيه ، وتمتمت : محمود ! بني ، ابن الغالية .
قال للمرأة العجوز : جئتُ أطمئن على أمي .
هزت المرأة العجوز رأسها ، فقال : أليست في البيت ؟
فقالت المرأة العجوز : الغريب أن بيتكم هو الوحيد الذي لم يتهدم .
ورغم أن الخبر كان مشجعاً ، إلا أنه لم يرتح لنبرة صوتها ، وتابعت المرأة العجوز قائلة بنبرة حزينة : تركت بيتها ، مع بداية القتال ، وذهبت إلى بيت والدها ، لتطمئن عليه وعلى والدتها ..
وسكتت العجوز ، فاستأنف طريقه نحو بيت جده ، فقالت المرأة العجوز : لا تذهب إلى بيت جدك ، يا بنيّ ، لقد سقط صاروخ فوقه ، وحوله إلى قبر لمن فيه .
الهرّ العجوز
أفاقتْ منقبضة الصدر ، رغم أنها لم تسمع ” ميو ” هرها العجوز ، وهي تسميه العجوز ، ربما لأنها هي نفسها عجوز ، وربما أيضاً لأنها لا تريده أن يكون ” هراً ” ، حتى في شباط .
وتحاملتْ على نفسها ، وخرجت من غرفتها ، التي يسودها الظلام تقريباً ، فالكهرباء مقطوعة ، وكذلك الماء ، ولو كان الأمر بيدهم لقطعوا الهواء أيضاً ، هذا ما تقوله بينها وبين نفسها ، فهي مثلها مثل غيرها ، من الرجال والنساء ، تخاف الجلد .
ودارت في فناء البيت ، الذي يغطيه غبار الحرب وسخام نيرانه ، التي لا تتوقف عن الاشتعال ، وتلفتت حولها ، لا أثر للهر العجوز ، اللعين ، يبدو أنه مازالت فيه بقايا ” الهر ” الذي كانه .
ونظرت إلى السلم المتآكل ، الذي يؤدي إلى السطح ، إنه عادة يجلس هنا في الأيام المشمسة ، لكن لا وجود له اليوم ، آه شباط على الأبواب ، ولابد أنه يتسكع الآن بين خرائب البيوت ، التي داستها عجلات الحرب ، يبحث عن هرة ساقطة .
وقفلت عائدة إلى غرفتها ، وهي تتمتم : سيعود إن عاجلاً أو آجلاً ، فلم يعد هناك لا هرّ ولا هرة في المدينة ، لقد قضت المجاعة عليهم جميعاً .
لم يعد الهرّ في ذلك اليوم ، ولا في اليوم الذي تلاه ، وإنما عاد بعد أسبوع تقريباً ، وبدل البيت ، الذي عاش فيه عمره كله ، رأى كومة من الحجارة ، وبحث عن المرأة العجوز ، وعثر عليها أخيرا ، فقد رأى يدها المسحوقة المدماة تبرز من تحت الأنقاض ، وحاول الوصول إليها ، لعله يوقظها ، لكن دون جدوى .
الطفل
تعثرتْ بعباءتها مرة أخرى ، وكادت تتهاوى على الأرض ، لو لم أسرع إليها ، عبر أمواج الناس المتلاطمة ، وأسندها بيديّ .
لكنها أبعدتْ يديّ عنها بغضب ، وحاولت أن تتماسك ، وتنهض من عثرتها ، وتواصل ركضها المجنون ، وسط جموع الراكضين ، وتصيح : ابتعد عني .. ابتعد .
لم أبتعد عنها ، وبقيتُ أهرول خلفها ، خوف أن تسقط على الأرض ، وتسحقها أقدام الهاربين من الهاونات ورصاصات القناصين ، وقلت لها : ارفعي عباءتك قليلاً ، وإلا تعثرتِ بها مرة أخرى .
وبدل أن ترفع عباءتها ، نزعتها بيدها المضطربة ، وألقت بها على الأرض ، بل ونزعت الشال الذي يغطي شعرها ، وطوحت به بعيداً ، فصحتُ بها : أيتها المجنونة ، ماذا تفعلين ؟
وتوقفتْ وسط تدفق الناس ، رجالاً ونساء وأطفالاً ، الذين يهربون من المسلحين ، محاولين الوصول إلى المواقع التي وصلت إليها القوات المسلحة .
وسرعان ما استدارتْ ، ثم راحتْ تسير ضد تيار الناس المتدفق كالسيل العرم ، وعيناها تشتعلان بنيران قلقة مجنونة ، وهي تتمتم : طفلي .. طفلي .. طفلي .
وجنّ جنوني ، هذه المخبولة سيقتلها المسلحون ، إذا رأوها تسير بلا وشاح وعباءة ، وهرعتُ إليها ، وطوقتها بذراعيّ ، فراحت تضربني بكلتا يديها المتشنجتين ، وهي تصيح بجنون : دعني .. لن أترك طفلي .. يجب أن أنقذه .. دعني .. دعني .
وتوقفت امرأة عجوز ، كانت تسير متوكئة على عصاها ، وقد اتشحت بالسواد من رأسها حتى أخمص قدميها ، ونظرت إلينا ، وقالت : يا ظالم ، دعها تذهب إلى طفلها ، وتنقذه من الموت .
فأجبتها ، وزوجتي تتواثب بين يديّ ، محاولة الانفلات مني : أيتها الجدة ، طفلنا قتل قبل أكثر من شهر ، وهو الآن مدفون تحت الأنقاض .
… يتبع