بداية لا بد من الاقرار بأن تطويع الشاعر لمنطق التحولات عبر فعل القصيدة الداخلي قد اتسم بحسية تشير الى التوترات والانفعالات من خلال تدفقات تعبيرية سلسة وهادئة . كذلك فان إيقاعات قصائده نلمسها متناغمة مع مسارات حالاته الشعورية ، وهذا ما يجعلنا نتناص معه في نفوسنا . إضافة إلى أن التعددية الصورية المطلوبة في قصائده قد ضمنت الانسجام لأنغام الرؤيا وأنماط الاسقاطات .
ووفق ذلك نتساءل هل أفلح الشاعر طيب جبار من خلال فظاءات أدائية تحقيق صيغة بنائية تنسجم وحالة الذكرى والمسار وبما يجسد مخيلة الشاعر ؟
الجواب يشير إلى الاثبات وتبرره الأسباب التالية : –
1- إن الشاعر كان فعالاً في تحريك الحواس وبالتالي مقدرته على إضفاء مسحات إنسانية لا تخمد .
2- إن مبناه ومعناه قد ولدا من داخل تجربة تصادمت وتفاعلت وتنوعت فيها مستويات عديدة ومساحات دلالية .
3- وتأسيساًعلى ذلك ، فان قصائده هي آسرة للأحساس ، قريبة وصادقة في مساراتها وإنتقالاتها .
أن استذكارات الشاعر وإشتياقاته هي إنسيابيات لا حدود لها ، تبررها حدة إتساع دوائر المعاناة وفوران توازناتها في الأحاسيس : –
( ذات زمان … الدنيا كانت جميلة
الأرض … كانت عش الورد ،
أصيص اللآليء ،
سلة الفراشات ،
شرنقة للصمت .
السماء… كانت بستان الضوء ،
منديل وميض القمر ،
مزهرية النجوم ،
الظلام كان أبيض . )
ذات زمان … الظلام كان أبيض ص 13
ولهذا فان القلق الحياتي الذي لا يفصح كل اسراره ، وطريقة تدفق الأحاسيس من خلال ترشيحات أسفار الحياة اليومية وقيمها ، إضافة إلى مستويات من التعادليات التي تتواجهفيها الهموم إزاء الرؤى والنظرات إزاء الصرخات باتت كلها تنويعات نلمسها بيقين محسوس وإستخدام بارع في المبنى : –
( الآن ….
الريح تضرب عن الهبوب ،
لا تنزل من الأعالي .
الجدول غاضب ،
يتسلق الجبل .
البحر منزعج من بخاره ،
كاد أن يغرق .
النار تلعن الدخان ،
كادت أن تختنق
الصحراء تسرح الرمل
تضع دبدبة العجاج
تحت يد العاصفة
وتسحب بساط الرطوبة
من تحت أقدام النهر …. )
ذات زمان ص 16
إن موهبة الشاعر هي التي عمقت من حرية حركاته وصوره التعبيرية ، وساعدته على تمثيل بيئة رؤياه على أحسن تمثيل : –
( يوم أموت ،
كرة الشمس …
تتدحرج نحو سطح الأرض .
القمر …. ينكمش
النجوم … تهبط إلى الأرض ،
تحاصر المدينة من الجهات الأربع .. )
يوم أموت ص 26
و
( يوم أموت
الحجر … يفيق من النوم
ويسرد أحلاماً غريبة
لرمال شاطيء النهر … )
كذا ص 29
وكذلك
( يوم أموت ،
كرة الأرض …
تتوقف عن الدوران .
النهار يستمر
يتشابه …
الصبح ، الظهر ، المساء .
اليل بهدوء ودقة يلملم نفسه )
كذا ص 32
إذاً هو ينشد الكشف من الداخل العميق على صعيد الصورة الشعرية وما تحمله من علاقات وخيال وإيحاءات أشد عمقاً وتلاحماً ، ومثل هذا الاندماج والتداخل يجسد حالة التوحد : –
( – ( ( هواره برزه ))
أنت مرتع مجد دائماً
أنت شجرة الجمال والخضرة الدائمة
لفصولي الأربعة
( ( هواره برزه ))
يا موقد ناري
ومرتع راحتي ،
يا عصب جذور بقائي … )
قصيدة السليمانية ص 40-41
ونلاحظ في المجموعة نصوصًاشعرية متقابلة في المستوى التعبيري والدلالات والتي من شأنها أن تخضع القصائد في سياقها العام إلى عوالم حية وغنية عبر إيحاءات مقاربات الأضداد : –
( لا في الرض … ولا في السماء
لا في السفح … ولا في القمة
لا في الأسفل … ولا في السطح
أنت موضوع متشنج بين بين )
قصيدة مرثية الرماد ص 45- 46
إن دلالية صور الشاعر مكنته من الترابط الموضوعي وتحقيق تكامل القصيدة فنياً بما يعكس إجتلاء رؤياه عبر تلقائية وعفوية وترصين لأواصر الأرتباط بين الأحاسيس وعملية البناء : –
( نزحف نحو قلب الشمس ،
بعيداً عن الحزن والصخب
زاد سفرنا
لا يكون غير الفرح .
وكشجرة عائلة واحدة
جميعنا دون ضغينة
نمضي الحياة
في ضوء قنديل واحد )
قصيدة انشودة المستقبل ص 53
إن مجموعة الشاعر طيب جبار ، ذات زمان … الظلام كان أبيض ، تدل بكل يقين على عمل إبداعي متحقق له سماته البنائية وآفاقه الجمالية مثلما تحسسنا بعذوبة سردية وضربات تعكس مهارة وإمكانية الشاعر في تكنيكه .
———————————————————————————————-
+ ذات زمان … الظلام كان أبيض مجموعة شعرية بالكردية نقلها إلى العربية الشاعر والأديب الأستاذ عبدالله البرزنجي .
+ طيب جبار ، شاعر حداثوي سبعيني من الموجة الثانية في الشعر الكردي ، له ( مرثية الرماد ) بالكردية 2008 .