التقنيات السردية في رواية قنزه ونزه.
ولام كمال العطار.
الأفكار تتشابك، والاراء تتباين ، ازاء الاعمال الادبية التي تطالعنا منشورة كل يوم، برغم أن هذه القاعدة التي تقترب من النقد ، لاتنطبق على كل ما يكتب في مجال الادب ، سواء في مجال السرديات او الشعر ، لاننانحتاج الى فهم قرائي اسلوبي ، لتباين مستويات القراءة ، واتفاقات الذائقة القرائية مع ماهو موجود، لذلك تبدو عملية القراءة تابعة للحظات تلق خاصة بها ، قد لاتتفق ومضمن الرسالة واهدافها ومقاصدها ، وهذا الابتعاد او الاقتراب، يبدو واضحا في رواية قنزه ونزه للكاتب شوقي كريم حسن ، وهي سرد يقترب الى الملحمة اكثر مما يقترب الى السرد الروائي المعتاد ، اسلوب ولغة بعيدان عما هو مألوف ،، وثمة مرتكزات مختلفة عما نعرفه، اعتمدها الكاتب، في ملحمته قنزه ونزه ،، الروائي شوقي كريم حسن ، عودنا في اعماله كافة ، الى ان يصحبنا داخل عوالم متشابكة ومعقدة بعض الشيء ، تجعل المتلقي يعيش في متاهات ماتلبث ان تشعره بالعجز والخوف مع قلق من اجل الوصول الى ما يبغي السارد الوصول اليه، لكن السارد يمنح متلقيه خطوط ومسارات تأخذه بهدوء واضح الى مايفكر به ومايريد ايصاله من رسائل تثير الاضطراب والريبة ، مصحوب باسلوب متقن، يتوافر على قدر كبير من الشاعرية،
2ــ وفق الكاتب ، السارد في توزيع ادوار ابطاله بمسافات متساوية ، ولم يترك ثغرة تفسد هذا التلاحم والتركيز، والتكثيف الشديد في الحدث ، لقد استطاع السارد ، تصوير العلاقات الانسانية بين ابطاله رغم القهر الاجتماعي الذي يخيم على كامل حياتهم ويحاول تعطيل فعالياتهم الفكرية والاجتماعية والسياسية ، لايمكن ان تنتمي قنزه ونزه، الى الكتابة السيرية ، لانها تقدم حقائق تأريخة ، ورصدا لوقائع معرفوفة وموثقة ، لكن الروائي وضعها داخل فضاء سردي متخيل ، حيث تتداخل الأزمنة، وتتجدد الحياة ضمن ما يمكن ان نسميه المتغير السياسي الذي يأخذ الشخوص الى بوتقة المتغيرات الاخرى المفروضة علية ، وهي اقتصادية واجتماعية، خلخلت الافكار والعقائد والايدلوجيات، وفي محور اجيال كاملة تعاقبت منذ الحرب العراقية الايرانية التي اثرت تاثيرا واضحا وكبيرا في الاجيال التي عاشت محنتها، ولم يستطع ما تبقى من هذه الاجيال التخلص من ضغطها النفسي والاجتماعي، يعيش بطل الرواية الذي تعمدالكاتب شوقي كريم عدم ذكر اسمه ، في حالات من الرفض والسخط على كل ما يحيط به ويراه ويعيشه ، حيث جثث القتلى والنيران التي تحرق كل شيئ، ويظل يمثل دور الراصد الدقيق، لكل ما يحدث ، بل المدون الفطن لكل ما عاشهلحظة بلحظة، هذا الواقع المعاش تاريخا ، اصبح بالنسبة للمتلقي واقعا متخيلا اذ لايمكن معرفة مرارات الحرب الا من عاشها، ويقدم الروائي شخصية مساندة في الاستذكارات الاولى والتي ستصبح فاعلة فيما بعد ، هي شخصية نابليون، الحالم في ان يرث التاريخ لكنه مصاب بالعجز والاستسلام، تشكل هذه الشخصية وجها اخر للشخصية الرئيسية ، بل وهي التي تدفعه الى الهروب بحثا عن خلاص انساني ، سيشكل فيما بعد عبأ كبيرا على الشخصية المحورية، عمل الكاتب بذكاء ةحرفية عالية، على تحقيق هدفين مهمين ، ولهما الحفر في الذاكرة الاجتماعية الجمعية ، من اجل الوقوف على مجريات الحرب ، من خلال واحد من اهم مظاهرها، والثاني هو تصوير الحرب الداخلية التي تشتعل بها النفوس ، حيث يقدم الكاتب انموذجا لما لاقته الشخصية الرئيسية من انواع التعذيب داخل دهاليز المخابرات العراقية( أعترف لقد محوت او عدلت وابتهجت لفرح هذا الصبي الذي رمته الاقدار وسط طرق ما كان يستطيع الخلاص منها… مالذي فعلناه من اجله، لاشيء غير أننا كنا نحصي عليه انفاسه ونسميها اثاما!!
يقول الثاني ــ لاتحاول الغش معنا فكل شيء مسطور في كتاب مبين…. )) وبرغم كل هذا الانكسار الذي يحاول تدميره لكنه يعاود وبقوة حياته الاولى ، حيث احضان أمه جوري، التي كانت تمثل بالنسبة له تاريخا من الدفء والحنان والمودة، حياة وجدانية لايمكنه مفرقتها رغم ما مر من عصور وازمنة وتواريخ ، ان الام اشارة الى تاريخ نقي لايجب اهماله ، ولايجب ابعاده قسرا، حين يشعر بالضياع وضغط الغربة ، يدخل هذا المتحف الجمالي ، ليبدأ رويا اخر ، فيه من الاستذكارات والشجن ما يمنح اللحظات روحا حية ودقيقة التأثير، تبدأ رحلة الاستذكار ، او الاستدعاء ، من خلال اللغة العراقية البعيدة عن الملل والرتابة ، تنتقل الافكار من مكان الى اخر، ومن زمان الى زمان ابعد ، ومن صورة موحشة الى صور مبهجة تثير الضحك والسخرية في مرات عدة ، تبدأ المكاشفات مع الام ، والحبيبة ، والشوارع والازقة ، ثم وببطء مقصود يعود بالمتلقي الى خط الموت ، حيث رفيقه نابليون ، الذي لايقل جنونا عنه ، والذي يدفعه الى ركوب حصان جده الذي كان يجسد عليه شخصية العباس بن علي عليه السلام يوم الطف، ثمة ماض يتحرك هنا ، وأشارة دلالية واضحة ، اذ يعمد السارد الى تطهير شخصيته الولى من خلال استخدامه للتراث وعبور النهر الذي يمثل بعدا نفسيا بالنسبة لابناء بلاد الرافدين ، (( خوفك يلجم ذاكرتك ..لو تابعنا ياعزيزي الخائف اصول هذا الجواد العربي لوجدناها تعج بالحروب والقتالات.. منذ اول حصان هبط الارض مع اول جد مطرود من الجنة .. لااصدق أن الجد الاول خرج دونما حصان ولامة حرب وسيف، ما دامت المرأة قد رضيت برفقته حتى الساعة.. ذاكرة تالخيل حذرة وهي تشم روائح الموت من بعيد.. ولا اظن أن الموت يجد له مكانا في جسد حصان ))تبدو شخصية نابليون ، بسيطة، تعيش على الماضي واطلاله ، حتى انه يشبه نفسه بالحصان، يحفظ الاسرار ولايبوح بها الا لمن يفهم لغته، ومن خلال هذا التيه الداخلي الذي يترقب الموت ليرافقه في اية لحظة ، ينتقل البطل ، الى تيه مجهول لاملامح له ولاحدود ، هروب من موت باتجاه قسوة وقهر وضياع ، حيث تظل الشخصيات الرئيسية ، الام.جوري.. ميري الحبيبة الزوجة ، ترافقانه في هذا التيه اينما اتجه ، ثمة حضور طاغ ومؤثر لكنه غير فاعل بالنسبة له ،، وهناك شخصيات تكميلية مثل السواداني عثمان ووالد كاترين وسواهم.
3 ــ
يشكل الزمان داخل قنزه ونزه ، بعدا متحركا لايمكن الامساك به ، او عزله عن الازمنة المرافقة والمساندة ، حيث يتدخل الزمن الماضي بالحضار ، ليرسم انواع الصراعات التي تحدث باستمرار ، وقد اعتمدها الكاتب لتشكل بعدا دراميا يعتقد ان الرواية تحتاجه بشده ، يعود الزمن بالمتلقي الى حيث الكنيسة، التي تبهره بوجودها وقداسها الذي يمنحه كلما انكسر الكثير من الهدوء والطمأنينة ، حتى ان هذا الحضور اصبح يشكل الجزء الاهم من حضوره اليومي ، ينظر الى ملامح السيد المسيح ، وهدوء العذراء ، والتراتيل التي لايستطيع تجاوز تاثيرها ، ومن خلال هذا الطقس العبادي ، تدخل ميري حياته ، تشتعل الوجدانية الانسانية اولا والتي ماتلبث ان تتحول الى حب، ملتهب، لكنه صاف خال من كل الاغراض غير الصادقة (( خطوات سود تترك أثار وحولتها فوق جسد المرمر الابيض الحاس ببرودته وقدسيته ، أحاول التواري خلف الكراسي البعيدة، لكن الراهبة (ميري ) صاحبتي التي تبتسم لي دوما وهي تسلمني درهما بلون الفضة ةتشير الى بائع الفلافل القريب ، تأخذ بيدي لتجلسني عند زاوية الساعة )ويستمر شوقي كريم حسن ، بامساك مقود السرد محاولا ايصال المتلقي الى غاياته ، كاتب مثل شوقي كريم لايمكن ان يكتب دون قصد وحرفية ـ ياخذ متلقيه الى عوالم تجمع الضحية والجلاد، ناقلا تجارب الشخصية الحسية بكل تفاصيلها بجرأة كبيرة وعالية ، ومن خلال وصف حسي صريح ، خاصة من خلال علاقاته الجسدية مع كاترين ، والتي تعتبر عملية دلالات فكرية ونفسية . ومن خلال لغة سردية دقيقة وتتوافر على الكثير من الحدة والشاعرية ( خجلك هذا لسوف يوقعك في تهلكة الاتهام ، كيف لشاب مثلك أن ينظر الى امرأة تثير الأشتهاء مثلي.. لم تجرؤأ عيناك على الآستقرار.. حظك سيكون سيئا وخطواتك طير يبعدك عن غاياتك ومراميكماعليك أن تطير بعيدا عن عشي.. عشي دافيء يوفر لك مالم تعرفه من قبل .. اللهو يبدد الأضطراب الذي يرتسم فوق محياك.. تعال لأشفي روحك وانسج لك ليلا من اللذة التي ستظل مرافقة لك ما حييت !! )
4ـ
تشكل المرأة داخل قنزه ونزه عنصرا دراميا مهما ، يسهم في الكشف عن التوترات النفسية التي يعيشعا المجتمع ومن خلال المجتمع المرأة نفسها ، ثمة داخل الرواية عالمين متنافرين ، لايلتقيان ابدا ، ميري وجورية يشكلنان الطرف الاهم والانصع منه ، وكاترين وجانيت يشكلان البعد الثاني وهو بعد مادي خال من الروح والدهشة ، كل ما في داخل هذا الروح هو مبعث ضياع وانهزام ، وهذه المتضادات هي التي خلقت صراعا نفسيا حادا داخل شخصيى السارد ، ومايلبث الطرف الثاني ان يسلب هويته التاريخية ليمنحه هوية اخرة كانت فيما مضى تشكل مع وجوده الروح العدائية، يبدو ان شوقي كريم اراد ان يشير الى ان الشخصية المأزومة، غير القادرة على متابعة خلاصها بجدية ومعرفة هي التي تخلق الماساة وهي التي تبعث على الحزن والاسى معا ، فتظل طوال الوقت شخصية ممسوخة ، غير قادرة على صد المؤثر او الاحتجاج ، في القسم الاخير من الرواية ، وهو الاكثر جرأة وقسوة ، يعمد الكاتب الى مزج هذا العالم المضطرب غير المتوازن مع ذكريات وشخوص وبحوارات ساخره بمرارة، لم تيسطع الروائي الهروب من بشاعة الواقع وعجائبيته ، يعمد الروائي شوقي كريم عبركل رواياته الى مراجعة التاريخ ، والاشتغال بعمق على عنصري الزمان المؤثر والمكان المؤكد وبتراكمية سردية ، والتي يعتقد أنها تشكل المحور الاساس في لعبة السرد ، بالاضافة الى التناصات مع النصوص المقدسة ، والتاريخ القديم ، والفلسفة، والاستثمار الانساني للشعر، والسؤال الذي ظل يتابعني وأنا اقرأ قنزه ونزه ، هل قدم شوقي كريم ، رواية ببناءات متعارف عليها ، أم تراه تعمد اقصاء كل البناءات التقليدية، ليقدم ملحمة سردية، تعتمد كل انواع الفنون المسرحية والموسيقية والتشكيلية ،؟ ساترك الاجابة لان بعد ان اصبحت الرواية الملحمة بين يدي المتلقي وهو الاحق بالحكم عليها !!
ولام كمال العطار : التقنيات السردية في رواية قنزه ونزه (ملف/10)
تعليقات الفيسبوك