رواية (للشمس وجه آخر)
واشكالية اثبات الذات الموضوعية..!
وجدان عبدالعزيز
شكلت رواية الكاتب تحسين علي كريدي (للشمس وجه آخر)1 لوحة من الرفض لواقع الدكتاتورية الصدامية بالتحديد، فألوان هذه اللوحة مسارات بطلها “وسام”، الذي عاش تفاصيل الحال في خارج العراق وداخله وصراعاته الذاتية، وهي رواية لامست الواقع كثيرا، ومما يعكس للذائقة أن الرواية الواقعية، تمثل الاتجاه الجمالي الاكثر ديمومة وانفتاحا على التجديد والتطور، لأنها تمتلك قابلية التطور داخل الفضاء السردي، ونحن ندرك أن هناك واقعية طبيعية واجتماعية ومن ثم واقعية اشتراكية، وصولا إلى الواقعية السحرية، ولا يعني هذا أن الكاتب تحسين علي كريدي قد التزم بهذه النواحي كما هي، إنما غلبت على روايته الواقعية النقدية الاحتجاجية الرافضة مع أن هناك فضاءات تخيلية في أشد الامكنة عتمة، والتي مر بها البطل، والكاتب نتيجة لغنى الواقع وتعدد أشكاله، وتمثيلا لحيوات وعوالم وحالات ومواقف شكلت جزءا هاما من الذاكرة الثقافية والوجدانية للقارئ، تاه في أتون الواقع العراقي في فتراته الأكثر حراجة وأزمات إنسانية كبيرة قلبت العلاقات واصابتها بالاختلال، ولذا كان الكاتب قلقا في توجيه روايته قصديا، كونه مطلوبا منه على المستوى المعرفي ان يقدم تفسيراً دائماً يتناسب مع.. ويغطي الأحداث والظروف المستجدة ويفسرها تفسيراً حقيقياً, لأن التفسير الحقيقي هو نقطة الانطلاق من أجل معالجة أية ظاهرة, وتعبئة القوى في المجتمع لحلها، لكن الكاتب هنا في حالة إبداعية متماهية مع أجواء الخيال، فهو محصور في زاوية الإشارة الخفية لقضايا الواقع.. إذن هو بصدد قول أشياء، والسكوت عن اشياء، قد يعرّيها من خلال الاشارة بكلام مقتصد وموجز، يقول غرامشي: (إن كل انسان هو انسان مثقف، ولكن ليس لكل انسان في المجتمع وظيفة المثقف)، اي بمعنى (إدراك وظيفة المثقف من خلال المكانة والوظيفة التي يؤديها داخل بيئته الاجتماعية وتحديد موقعه في هذه البيئة، حتى مع تعدد وتنوع المتبنيات الفكرية بين الإسلامي والماركسي والليبرالي، وغيرها من المسميات والمفاهيم، التي تضع النخب في خانة التناقض والتطرف لدرجة التراشق وتبادل الاتهامات، فهذا تكفيري وذاك ملحد وذاك يدعو لمحو الهوية ونسف التراث وتبني الغرب، وغيرها من الحالات، التي جعلت المثقفين سابحين في بركة إشكالية كبيرة)، هذه الاشكاليات عكستها رواية (للشمس وجه آخر)، وهنا انقل نص من الرواية يقول: (الشيء الذي لا يستطيع المرء تحمله، هو ان يكون حبيس ذاته، فضلا عن كونه قابعا في السجن اصلا.. تخلى “باسم” عن صدفته بفضل الكم الكبير من التعاطف والمؤازرة التي أبديناها له. حلمه بالخروج من السجن لم يتغير، لكني استشف من كلامه بانه هو الاخر يبحث عن طرق بديلة..)، هذه هي حالة التأزم التي عاشها الكاتب والبحث المستمر عن البديل في المعالجة…فعمد الى تقطيع احداث الرواية الى مشاهد بربط يمسك خيط المتابعة والتشويق، كي يكشف وجه الدكتاتورية التعسفية التسلطية من خلال البطل “وسام”، الذي عاش عالم فرنسا، هذا العالم الحر المختلف عن عالم العمارة المدينة الجنوبية العراقية، تحت حكم الدكتاتور وشتان بين باريس والعمارة في زمن احداث الرواية، فوسام يرجع للعراق بإلحاح من أمه ويتعرض لحالة انسانية يندفع بكله لها، لكن يتفاجأ بانعكاس اثارها المدمرة على نفسه بعديا، فالحدث وهو متوجه لعرس، حدث سيارة وفيها انسان ينزف دما، لكن التحقيق ينقلب ضد وسام، فيتعرض للسجن الذي لا يتخلص منه، الا بالهروب، فنص الرواية ينبئنا بما يلي : (الموضوع بسيط جدا، لولا تدخل القيادة)، كون الضحية خليل ثابت علوان قيادي في الحزب، لكن (اقسم لك بأن لا شيء مستحيل، بالمال تستطيع فعل أي شيء، الرشوة بالعراق نعمة من نعم الله)، فمن المؤكد إن هذا النص يمثل رفض آخر من خلال المقارنة بين واقعين، فـ(العيش في العراق أشبه مع أسد جائع، جنبا الى جنب، فيتوجب عليك تفاديه أو ترويضه)، وهنا كشف إن أجواء الرواية تعيش واقعين،
واقع العراق، وواقع باريس، ورغم أن الواقع بمفهومه وتفاصيل أحداثه ملتبس ومليء بالفراغ، وينشأ التعقيد من خلال العلاقات التي تتبادلها أحداثه في نسق اجتماعيّ ما، فتولد حالة من الفراغ الدلالي الذي يؤدي لتشعب المعنى، ويزيد التعقيد والفراغ أكثر حين يشتبك الحدث بالذات الإنسانية، التي هي أكثر التباسا، وهذا يميل بنا نحو التأمل وقراءة ما وراء الاحداث، تلك التي أحاطت بشخصية البطل “وسام” وتنقلاته بين العمارة وباريس وإيران، ناهيك عن ان رواية الكاتب تحسين علي كريدي جاءت بلغة منسابة ووصف على قدر الحاجة وحوار مقتصد، وبهذا نجح الكاتب في إيصال معانيه بقدر من الاقتصاد اللغوي غير المخل بتنكيك الرواية وبنائها، وحاول الكاتب عكس الجانب الإنساني، فـ(في الشخصية الإنسانية بُنى ومستويات شعورية وعقلية وعملية، خاضعة لتأثيرات قادمة من كل اتجاه: اجتماعية، اخلاقية، دينية، جسدية، ذاتية… وهي بالتالي محكومة بعناصر وتأثيرات ليست جميعا ملكا شخصيا، وانما هي في جانبها الموضوعي، ملكي مثل ماهي ملك كل انسان، اذ لا فردية حقيقية بالفعل، فهي قد تكون اللاوعي الجمعي القائم في حقيقة موضوعية الى حد بعيد، فالشخصية اذاً هي تركيب ديناميكي لمجموع تلك التأثيرات والعناصر والعوامل، ولابد ان يكون لها بالتالي الحضور نفسه والمشاركة ذاتها في الادب..)2 والحقيقة هذا الامر هو منطقة اشتغال الكاتب تحسين علي كريدي في روايته الآنفة الذكر…
هوامش :
1ـ رواية (للشمس وجه آخر) للكاتب تحسين كريدي/دار امل الجديدة/الطبعة الاولى2018م
2ـ كتاب (في الأدب الفلسفي) / الدكتور محمد شفيق شيّا / مؤسسة نوفل ـ بيروت ـ لبنان ط1لسنة 1980 ص81