د. حسين سرمك حسن :
تناص غنائي بين فيروز ومائدة نزهت
لفيروزالرائعة – مطربة الشعب العربي – أغنية شائعة في غاية الجمال هي “دق الهوى عالباب” من كلمات وألحان الأخوين رحباني . تقول كلماتها الجميلة والمحكمة تعبيريا عن انتظار الحبيبة لأحبائها الغائبين الذبن تنتظر إطلالتهم بلهفة :
دق الهوى عالباب قلنا حبايبنا
قلنا الحلو اللي غاب جايي يعاتبنا
قمنا فتحنا الباب والشوق ذوينا
ثاري الهوى كذاب بدو يداعبنا
تعب الشتي والنار غفيت بموقدنا
لا في حكي ولا قمار تنزل وتاخذنا
ودق الهوى عالباب قلنا الهوى كذاب
ولما فتحنا الباب طلوا حبايبنا
هناك خفّة جميلة في التوقع المقلق جزئيا، والذي ينتهي بمفارقة طريفة تتمثل في أن الخيبة الأولى التي لم تجد فيها العاشقة المنتظرة أحباءها ، وخدعها الهواء اللعوب بحركته ، قد تعوضّت في النهاية بمفاجأة لقاء الأحبة الذين أطلوا بعد غياب ولم يعد الهواء مخاتلا وكاذبا . عاد الهواء القلّب بريئا.
تأتي الآن أغنية أكثر روعة – بالنسبة لي كمتلقي عراقي – متناصة مع أغنية السيدة فيروز الساحرة، وتدور حول الموضوعة نفسها : إنتظار امرأة تتلاعب بها حركة الهواء بالباب . لم أستطع تحديد تاريخ إذاعة هذه الأغنية على الرغم من اتصالي بأحد المؤرخين العراقيين الموسيقيين المعروفين مثلما لم أستطع معرفة كاتب كلماتها أو ملحنها . وهذا فارق هائل مع أغنية فيروز. ففي العراق كل شيء ضائع ، ويمكن أن يضيع أي تاريخ في زحمة الإهمال اليومي. هناك حركة هائلة من المزاعم والانتفاخات ولكنها هواء في شبك. وهل توثيق تاريخ أغنية أهم من تاريخ مُضاع لبلاد بكاملها؟ . تبدأ السيدة مائدة – وصوتها من بين أجمل الأصوات النسوية العربية، ولكنه ضاع كما يضيع أي شيء ثمين في هذه البلاد – نداءها بصيحة عراقية جميلة جدا ومحببة تذكرنا بنداءات أمهاتنا النبيات عندما تُدق أبواب بيوتهن : منو .. منو بالباب ؟
منو .. منو بالباب ؟
وتشعر كأن المطربة تنشّف يديها ، وتسرع لفتح الباب ..
هذا النداء كلامي ومن دون موسيقى .. ثم تبدأ حركة الكمانات مجموعة وجارحة :
كلما اندﮒ الباب أﮒول إجو إجو الأحباب
أفتح وألاﮔـي الهوى والهوى كذاب
الآن يدخل صوت المجموعة بتوقيت مماثل لدخول المجموعة في أغنية فيروز – هل كان الملحن قاصدا ذلك ؟ – ثم يبدأ المقطع الأول بعتاب قاس مع الهواء لا يحمل أي درجة من رقة الخطاب الفيروزي .. وأعتقد أن هذا مرتبط بطبيعة الشخصية العراقية السادومازوخية : فيروز تخاطب الهواء اللعوب بصيغة ضمير الغائب الملطفة، أما مائدة، فتخاطبه وجها لوجه بصيغة ضمير المخاطب .. عتاب جارح وإدانة مهددة :
يا هوى لا تخدعني خبّرني علّي جايين
يعني تفتكرك يعني ليش تلعب عالحلوين
ثم تحاسبه على دقائق قلبها المحسوبة التي تُستنزف مع دقات الساعة المادّية، متواشجة ببداعة مع دقات الهواء المخاتل على الباب :
وكل دقيقة : تك .. تك
وﮔلبي يسوّي : تك .. تك
وتختم مائدة بالاستنجاد ، محولة الخطاب، وبزاوية مناقضة، من الهواء إلى قلبها ، وكأن المطربة العراقية يعزّ عليها أن تكون مقاديرها في المحصلة النهائية بين يدي قوة خارجية، مهما كان دورها الاستهلالي الجمالي، فتحتفظ بوقارها معزية معضلتها إلى صراعات الداخل وانخذالاتها .. إلى القلب المتهاون الضعيف والمستخذي :
وﮔلبي يسوّي : تك .. تك
دخلك ﮔلبي .. دخلك
فيعود صوت الكورس إلى الكوبليه الاستهلالي ، لتختم مائدة برجاء منخفض النبرة وكسير : أفتح وألاﮔـي الهوى .. والهوى …… إلخ
في المقطع الثاني يتحول الخطاب “التسووي” نسبيا، والذي سمعناه في المقطع الأول ، إلى خطاب إدانة أكثر حدّة، حيث تكشف الإمرأة المنتظرة للهواء – وفي العامية العراقية ، ويا للغرابة يتعادل ،دلاليا ، الهوى كهواء مع الهوى كغرام !! – تعلن الموجوعة بلا تردد الآن أنها تتقلب على نار الترقب الحارق من أجل قدوم الأحبة. ولكن العدو اللعوب – أي الهواء المتلاعب الذي يجد آلامها فرصة للغدر بتوقعاتها المشروعة، التي يكفي لتحققها، طرقة صادقة من يد “الهوى” الكذوب :
آني منتظرة على نار بلكي يجون أحبابي
آه.. يا هوى يا غدّار يكفي تدﮔلي على بابي
وتعود مائدة مراوحة على جمرات دقات الانتظار المديدة التي لا رجاء منها :
وكل دقيقة : تك .. تك
ﮔلبي يسوي : تك .. تك
دخلك ﮔلبي …… دخلك
وفي المقطع الختامي – وانعكاسا للسمات الحاكمة لبنية الشخصية العراقية منذ فجر التاريخ – والباحثون الغربيون استخدموا الرواية والأغنية وسيلة لتحليل الشخصية اليابانية في الحرب العالمية الثانية مثلا – نجد تعبيرا “صوتيا”عن سمة متأصلة في الشخصية العراقية، وهي الإنخذال بعد المواجهة .. والنكوص بعد المقاومة .. الإنطفاء السريع كاشتعال الحلفاء كما وصفه المفكر الراحل “علي الوردي” في محاضرته الأولى عام 1952 !! . تستخذي مائدة ولكن بانهمام آس باهر. إنه حل .. لكنه لجوء إلى لعبة لا رجاء منها سوى تخدير الذات .. لعبة ممثلة في الأحلام والهيمان في دنيا المخيلة .. وهي حركة ختامية تناقض جذريا الحركة الختامية في الأغنية الرحبانية المبهرة بصوت السيدة فيروز ، حيث يطل الأحبة رغما عن التوقع السلبي الذي فرضته تلاعبات الهواء الماكرة .. لقاء حميم بعد انتظار مزعزع .. وحرق أعصاب وجيز .. ولاحظ قصر أغنية فيروز – فعليا لا تتجاوز الدقيقتين – فهي مكونة من ثمانية أبيات فقط – وهذه من أعظم السمات الأسلوبية لفن الرحابنة التي تجاوزوا بها الأغنية الخانقة الطويلة والمكررة المقاطع – في حين أن أغنية مائدة نزهت مكونة من كوبليه من أربعة أبيات، وثلاثة مقاطع ألفت ستة عشر بيتا تطول لخمس دقائق وثلاث عشرة ثانية!! والمقطع الأخير من الأغنية الفيروزية يثبت مظلومية الهواء المسكين الذي التصقت به شبهة التلاعب ثم ظهر أنه مظلوم، فالطرقات على الباب الآسي، هي، الآن، طرقات أيدي الأحبة المترفة العائدين بلا مفاجئة فهم لا يعرفون ما الذي فعله الهواء المشاكس بأعصاب فيروز .. كذبة الهوى المحبطة سابقا أتت الآن بالبشارة .. أما في المقطع الأخير من أغنية مائدة نزهت فهو انفتاح على الألم والإنتظار حد ابيضاض عيني الأمل بإيقاع متوسل ومذل :
يا هوى بحق الفرحه أتركني أغمض عيني وأنام
خلّيني لوحدي سرحه بلكي تتحقق الأحلام
.. وتعود لعبة دقة الدقائق والساعات – طبعا ليس على طريقة ساعات فرجينيا وولف – لتتجدد في دائرة مغلقة مضنية لا رجاء فيها ولا أمل .. وتهمس مائدة منجرحة :
وكل دقيقة : تك .. تك
وﮔلبي يسوّي : تك .. تك
ثم رجاء التوسّل الذاتي المستحيل اللائذ :
دخلك …. ﮔلبي
وينبغي أن لا ننسى التجانس الذي صنعه الملحنان العبقريان بين الكلمة المنطوقة ، والآلات الموسيقية التي صممت كي تعبر عنها بجملة صوتية موسيقية تحيل الإنفعال إلى صوت !!. في أغنية فيروز هناك تحكم بالفضاء الصوتي المحدد للأغنية من قبل نغمات آلات هامسة وهادئة تشبه روح لبنان الوديعة التي قال عنها الراحل الماغوط : إذا قتلوا لبنان سوف أطلق النار على حنجرتي . في حين أن حزمة أصوات الكمانات الجهيرة والحادة تستولي على الفضاء اللحني لأغنية مائدة العراقية ، منذ البداية حتى النهاية، وبصورة لا يتسيد فيها سوى الحزن العراقي الحارق .. ونتذكر الحركة المقامية الحادة التي استهلها النداء المفارق والجريح بعنف والذي يلخصه، الآن، التساؤل الذي يبدو بسيطا، ولكنه مؤكد للخيبة التاريخية المتطاولة، حيث تصيح مائدة بنبرة مهادنة خفيضة :
-منو بالباب .. منو بالباب ؟؟
فلا يأتي الجواب..
غنت ألراحله مائده نزهت أغنيه مفقوده ( ربما ) أسمها أنتظار بحفله بألبث ألمباشر من تلفزيون بغداد
عام 1964 ( كما أظن ) وفي بعض كلماتها تقول ( كل يوم وأرجع أنتظر يمكن ياروحي تعود شنتظر أكثر من سنه وأنت كلت يومين ) موجوده في مكتبتي ألقديمه أحاول أن أجدها أنشاء ألله