إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين.
(المقعد الثامن)
جابر خليفة جابر
دقائق معدودات تفصله عن موعد حركة القطار، وأمتار قلائل هي كل ما يفصل قاعة انتظار المسافرين عن القطار الرابض الآن على القضبان الفولاذية كأنه أنموذج عملاق لتمثال أسد بابل وقد مطته من نهايتيه قوى جبارة خفية لم تلاحظها إلا عينا صغيرة كانت تعبث بجدائلها وهي ترقب الأسد الممطوط وأنثاه دون أن تعير انتباها لأبيها الذي كان يحثها على الإسراع، وثمة حقائب بأشكال وأحجام مختلفة وتذاكر بأسعار متباينة لرحلة الساعة الثامنة لاحظت ما لاحظته الصغيرة ذات الجدائل فلم تبق بينها وبين قبضات أصحابها فواصل تذكر، راوده إحساس ما بأن تلك الدقائق الفاصلة طوفانات من الأوقات السائلة وفضيانات من الأزمة المتسربة في امتداداتها مع امتدادات القضبان السابحة في آفاق الليل المتدرجة السوداء، إحساس بالسيولة في كل شيء، في الزمان وفي المكان، عصير فواكه وسوائل مثلجة أخرى غادرت علبها وقنانيها لتذوب في دفء أطفال تنحى بهم آباؤهم جانبا كي يحتفظوا بنقودهم لمشروبات الليل وأقداح شاي مهيل عادت إلى أباريقها متلوية، لأن حامليها لم يرتشفوها كما تحب، بينما كانت عربات القطار وعجلاته المعدنية الباردة تتميع وتتهدل ذائبة كسلسلة طويلة من التلال الشمعية الملونة دون أن يفقدها الذوبان الاتصال مع نهاياتها البعيدة التي سالت وتلاشت أطرافها المرققة بفعل الذوبان في هواء تلك الليلة المشبع بالرطوبة وغاز المدافئ، وثمة كرات زئبقية بدأت بالانفصال عنه متدحرجة على الأرصفة المرمرية للمحطة، كرات من لحمه ودمه انفصلت عنه في ذات اللحظة التي عجز القطار وقاعة الانتظار ولغط المسافرين عن منعه من الاستحمام برشاش دوش منعش تناثر عليه من مكان ما وأصابه ـ ربما ـ بعدوى السيولة، لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يستقل فيها القطار، إنها السابعة أو الثامنة وربما العاشرة.. لا يتذكر ذلك جيدا ولكنه بسبب لا يدريه يميل إلى اعتبارها الثامنة ـ إلا إنها المرة الأولى التي يدفع فيها ثمن التذكرة كما إنها الأولى التي يراوده فيها هذا الإحساس الغريب بالسيولة.. ربما كان ذلك لاقتنائه ساعة دالي السائلة وربما لأنه دهش بحرارة مرتفعة جدا عندما رأى المحطة بأرديتها المزركشة وقطارها المتميع وروادها المتأنقين فقد اعتادت صناديق ذاكرته على اختزان صور لوجوه مغبرة، وظلال متورمة لأبعاد قطار المحطة الصحراوية الكئيبة تلك الأبعاد المنتفخة في الليل كساق جريح ملأتها الكنكرينات بالقيح والدم الفاسد، وكانت حرارة الدهشة هذه مرتفعة إلى درجة الانصهار فأذابته وما يحيط به وجعلت الدقائق الفاصلة ذائبة ومرتخية تماما وهي تتثنى أمامه سائحة في طريقها إلى التلاشي في مسارب الزمن لولا أن الأخيرة طالت.. بل أفرطت في الطول والارتخاء حتى انه لم يعد يرى نهاياتها التي ذابت أو احترقت بالنيران الأزلية التي سيمر بها القطار بعد حركته بدقائق. حاول الانسحاب متسللا إلى خارج حدود الزمن بتسقطه لفتات حديث جاد بين مسافرين… ((ـ لا عليك سوى أن ترخي قبضتك تاركا الورقة النقدية الملونة في كفه.
ـ أخشى أن ….
ـ لا تخش شيئا، كل ما تريده وكل ما كان ممنوعا سيكون من حقك إذا صرت جريئا وأرخيت قبضتك في كفه ..))
ولكن محاولته في الانسحاب خارج حدود الزمن السائل أصيبت بفشل تام لأن كرات أخرى من لحمه ودمه واصلت الانفصال عن جسده المرتفع الحرارة والذي ازداد سخونة واشتعالا لاستراقه النظر عبر تلك الأوراق والأسلاك الشائكة إلى مجموعة الصبية تشد وترخي قبضاتها لتوصل الفراغ المتوتر بينها وبين مجاميع الخوذ والهروات بالحجارة وإلى عيني الصبي كانتا تطاردان شحنة من البنزين المتوهج وكانت الشعلة هي الأخرى تلامس فوهة زجاجة تلوت في طريقها إلى عجلة الجيب المتبرجة بالسلاح، ويبدو أن الفراغ المطرز بالتوتر أثار إحساس زوج من طيور الحب الملونة فعدلا عن موجة من القبل تعانقا خلالها بمناقير لينة إلى موجات من النقر الحاد على قضبان القفص الذهبي مما أدى إلى حالة من الهرج والمرج سادت قاعة انتظار المسافرين فاستغلتها خوذ وبنادق عجلة الجيب في القفر خلف الغازات النتنة واعتقال عيني الصبي اثر الانقضاض عليهما بينما استفاد زوج طيور الحب من انهيار قضبان قفصهما نتيجة لحالة الهرج والمرج التي سببها الانقضاض على عيني الصبي واعتقالهما فانطلقا واستطاعت الأنثى أن تزرع الفضاء ببيوضها المخصبة قبل أن يسقطها الرصاص وقبل أن تتسابق وتتزاحم أزواج عديدة من الببغاوات على دخول القفص الذهبي وترميم قضبانه، بينما كانت الكرات الزئبقية تدور حوله وتشغله عما يحدث مكونة ما يشبه حلقة ذكر للصوفية سرعان ما تقاطرت وجوه كثيرة للدخول فيها والدوران رقصا ونشوة ضمن مدارها البيضوي الممغنط دون أن تتصادم مع الأجرام الأرضية الأخرى التي كانت تدور في ذات المدار واستمرت تهليلات الدراويش وشطحاتهم في دورانها حتى بدأت إيقاعات الهيوة والنوبات بالهبوط من الأعالي تدريجيا والعودة الى قواعد الانطلاق لتأخذ خطوات الراقصين بالانفراط والتسرب خارج حلقة الذكر مقطعة محيطها الدائري إلى خيوط مستقيمة من النمل الذي يدب الآن باتجاه واحد قاصدا أبواب العربات المشرعة مشدودا إلى صفير القطار الذي طوى الدقيقة الأخيرة وطوى ما تبقى من حلقة الذكر كما طوى المسافر مجموعة الصبية والفراغ المطرز بالتوتر ووضع المجلة في جيب سترته الأقرب إلى القلب ثم أسرع ضمن أحد خيوط النمل البشري باتجاه العربة الثامنة والتي لم يكد يخطو قليلا باتجاهها حتى فوجئ بسلمها الحديدي القصير وقد استطال ذائبا حتى قدميه وحمله إلى العربة كما تحمل أم وليدها ثم عاد السلم إلى صلابته المعدنية قصيرا وقاسيا وباردا ليصعده الآخرون الذين عقدت المفاجأة السنة بعض منهم ممن قيظ لهم سوء الحظ مشاهدة ما جرى بين المسافر وسلم العربة الثامنة وبترت من المنتصف ألسنة آخرين بينما انتزعت من الجذور مجموعة كثيرة أخرى من الألسن وثمة مقاول فقد أحد جيوبه المتخمة بالأوراق الملونة وآخر قيل انه شاعر فقد عددا من قصائده، وهو عند الباب الخارجي للعربة منشغلا بمنظر الخادم الأشقر الذي انحنى له وبالغ في انحنائه حتى ضببت أنفاسه الحارة مرآة نطاقه الملمع ثم اعتدل برشاقة بعد أن تجاوزه المسافر المندهش منعطفا يسارا إلى الباب الداخلي للعربة الثامنة الذي أفرد ذراعيه معانقا المسافر بلهفة وشوق ثم ضمهما بإيعاز من العين السحرية للباب وكان الخادمان الواقفان بمحاذاة جناحي الباب قد واصلا الانحناء بعيون تشع زرقة ليضيفا إلى دهشة المسافر المرتبك من مفاجآت هذه الرحلة أمواجا متلاحقة من الدهشة والمفاجآت وأعلن أحدهما راطنا بأدب جم أن القطار بدأ الرحلة توا وكانت الساعة عند الآخر تشير إلى الثامنة مساء وألطف هؤلاء، همس محدثا نفسه… لاشك أنهم استوردوا مع القطار ولكنه لم يشاهدهم في رحلاته السابقة على هذا القطار الذي تحرك الآن باتجاه معاكس لاتجاه سرب من الأسماك النهرية الطيبة المذاق وبينما كان سائقه مركزا أفكاره في قيادة القطار كانت سمكة كبيرة تتقدم السرب المسافر جنوبا مركزة حركتها التموجية في اجتياز ما يعترض طريق السرب من الأسلاك الشائكة والمعرقلات وأشباح القذائف غير المنفلقة.. (كم لهذه الرحلة من مفاجآت) قال المسافر ذلك لمقعده فور جلوسه، والتمثال الممطوط يحث عجلاته مبتعدا عن سرب الأسماك الذي كان هو الآخر يبتعد متجاوزا أكواما عديدة من العظام البشرية المتعانقة بمحبة رغم انتمائها لسلالات عرقية مختلفة، ونجحت كبيرة السرب في الوصول بسربها سالما الى المنطقة النهرية المضاءة بالنيران الأزلية في ذات الوقت الذي وصل فيه القطار سالما إلى المحطة الصحراوية المضاءة بنيران أزلية أخرى، واستطاع الأسد الممطوط وأنثاه أن يلملما نهايات الدقيقة الأخيرة التي ذابت في تلك النيران قبل احتراقها مما جعل المسافر يطمئن تماما لمقعده ويندفع ساردا عليه كل ما صادفه في هذه الرحلة من السيولة والغرابة وتحدث له متقززا عن الأبعاد المتورمة لقطار المحطة الصحراوية وعمن يزاحمون الحقائب في أسرتها وعمن يفترشون المقاعد والممرات بشخيرهم البارد وبدوره اطمأن المقعد الثامن لصاحبه وأفضى إليه بمعلوماته عن كل صغيرة وكبيرة في القطار وعما يكتنفه ورحلاته من غموض وأسرار، تحدثا عن كل شيء، وأفضى كل منهما للآخر بكل ما يعرف وتحاضنا وتعانقا بألفة رائعة وغريبة في آن ولم ينس المقعد الثامن أن يعتذر لصاحبه لأن ثمن التذكرة قد اقتطع منه خلافا للرحلات السابقة ولم ينس أيضا أن يحذره مشيرا إلى قدوم حاشية مقص قاطع التذاكر فتحسس المسافر بطاقته وهاله أنها سالت مع بقية أوراقه الشخصية ولم يبق منها أثر، بينما روي عن المقعد الثامن فيما بعد أن جموعا من القبضات الصغيرة الناعمة واصلت تطريز الفراغ بالتوتر وأن جنودا حاسري الرؤوس غادروا القطار عند منتصف تلك الرحلة تحيط بهم أردية زيتونية باردة.