الجسد في مسرح صامويل بيكيت
بقلم: بيير شابريه
ترجمة: د. هناء خليف غني

الجسد في مسرح صامويل بيكيت
بقلم: بيير شابريه
ترجمة: د. هناء خليف غني
للجسد حضور طاغ في مجمل الأنواع المسرحية المستندة في عروضها الى الممثلين، وهذا لا يعني غيابه في الأنواع الاخرى، وانما يعني إن حضوره وفاعليته يتخذان اشكالاً مميزة اخرى. في المسرح المستند الى حضور الممثل- واليه ينتمي الأغلب الأعم من المسرحيات- يخضع جسد الممثل لتأثيرات جملة من العوامل السايكولوجية لجهة تجسيده انماطاً شخصية مختلفة وتعبيره عن حالات نفسية متنوعة. ويؤلف الجسد، في هذا السياق، وسيلة خاضعةً كليةً لطبيعة الحبكة القصصية والتوصيف السايكولوجي للشخصية، الأمر الذي يعني اقصاءً للجسد بوصفه جسداً وتجاهلاً متعمداً لمقاربته والتعامل معه في ذاته ولذاته. إنه، بكلمات اُخرى، أداة يستعملها القائمون على انتاج النص المسرحي من مؤلفين ومخرجين ومنتجين لاسناد الحدث المسرحي وتجسيده وبعث الحياة فيه.
وبخلاف ما ذكر في المقدمة الموجزة فب أعلاه، يحظى الجسد في مسرح بيكيت باقصى درجات الانتباه والعناية، فهو يتعامل معه بجدية فائقة ويقاربه برهبة ووقار يماثل مقاربته لعناصر العرض المسرحي الاخرى مثل اللغة، والفضاء المسرحي، والديكور، والضوء وغيرها. الجسد، في عالم بيكيت المسرحي، مادة خام حقيقية قابلة للتعديل والتغيير والتحول وحتى التشويه. والعبارة “مادة خام” ينبغي مقاربتها حرفياً، فبينما يمثل جسد الممثل بعامة كياناً محدد الملامح لا يتغير بصرف النظر عن الادوات المُساندة التي تسهم في تشكيل الدور الذي يؤديه مثل الملابس والمكياج والإكسسوار- يخضع الجسد في هذا المسرح لتحولات جذرية عدة، اذ يتم تشكيله وحتى انتهاكه باسلوب يماثل في طبيعته انتهاك الرسامين والنحاتين لموادهم الخام ابتغاء الاستكشاف المُنظم للعلاقات المحتملة بين الجسد والحركة، والجسد والفضاء المسرحي، والجسد والضوء، والجسد والكلمات.
في مسرح بيكيت، ليس ثمة حد لتمثيلات الجسد الذي يُحرم من الحركة احياناً فيبدو ساكناً كالتمثال، وربما يتوارى عن الانظار أو يتشظى امام جمهور النظارة. شخصية (وني) في مسرحية (الايام السعيدة) أحدى الأمثلة الدالة على براعة المؤلف في التعامل مع الجسد، اذ تدفن (وني) تدريجياً، الى منطقة الخصر ثم الى الرقبة. قبل ظهور (ولي)- زوج (وني)- في نهاية المسرحية، لا يرى المشاهد منه سوى اجزاء من جسمه من مثل اليد أو مؤخرة الرأس، اذ يعمد بيكيت الى تجزئة وجوده الجسدي على خشبة المسرح. وكذا الحال في مسرحية (المسرحية) التي يكتفي فيها بيكيت بعرض رؤوس الشخصيات الثلاث من دون تسليط مقدار كاف من الضوء عليها لتختفي وجوهها الى حد يستحيل معها تمييزها عن الجرار التي ثُبِتت فيها. وفي حين تُسلط الاضواء على وجه احد الشخصيات لاستجوابه، يغرق الوجهان الآخران في ظلام دامس، وهكذا دواليك. وفي مسرحية (ليس انا)، يجن جنون الفم الذي يفقد سيطرته على الكلمات التي يتفوه بها، كلمات تبدو وكأنها تخرج قسراً من فتحة الفم الذي يطلقها.
في مسرح بيكت يُخفى الجسد احياناً واحياناً اخرى يُكشف عنه؛ وفي هذه الحالة يُعد فعل الكشف احد عناصر الفعل المسرحي الجوهرية. في مفتتح مسرحية (لعبة النهاية)، يضطر (كلوف)، الذي لا يستطيع الجلوس، الى ابعاد الملاءات عن وجه (هام)، الأعمى الذي لا يستطيع الوقوف، وعن صندوقي القمامة. وعملية الكشف هذه تجري في مرحلتين، فحتى مع رفع الملاءات عن صندوقي القمامة حيث يعيش والدا (هام) (ناغ) و (نل) المعاقان -فقد كلاهما ساقيه-، لا يتمكن المشاهدون من رؤيتهما. وابتغاء الظهور بشحمهما ولحمهما أمام المشاهدين، يتعين على (ناغ) و (نل) التخلص من اغطية صناديق القمامة لا الاكتفاء برفع الملاءات فحسب. وزيادة على ذلك، لا يظهر جسد (هام) كاملاً للمشاهدين، بل يكتفي بيكت بتقديم خطوطه العامة، ويعمد الى تغطية وجهه بمنديل يمثل امتداداً لجسمه ونوعاً من الاغطية تحجبه عن انظار المشاهدين. قد يظهر الجسد وقد يختفي كما في حالة (ناغ) و (نل) أو الوجوه الثلاثة في (المسرحية) أو حتى (ولي) في الفصل الثاني من (الايام السعيدة). الجسد في مسرح بيكت يختلف اختلافاً بيناً عما هو سائد في السرد المسرحي التقليدي، اذ لا يظهر كاملاً ابداً ويلحظ في هذا السياق اكتفاء المؤلف في أكثرية مسرحياته بتقديم اجزاء منه فحسب.
في الحقيقةً، لا يعاني الجسد في مسرح بيكت الاجتزاء، والانمحاء، والاحتجاز، والالغاء، وطمس الملامح فحسب، بل يُحرم في اشد تمظهراته النموذجية، من خاصية الحركة. وهذه الخاصية ليست من الامور المُسلم بها في مسرح بيكت وهو لا يدعها تمر مرور الكرام دون مساءلة متعمقة وتوظيف بارع، فهو لا يدركها او يستكشفها الا في ضوء علاقتها بصعوبة الحركة أو ربما استحالتها. تمر اجساد الشخصيات في مسرح بيكت في العادة بسلسلة من حالات الانفعال والعوز، فهي اما متخفية لا يمكن مشاهدتها او عاجزة عن الحركة أو النظر، فهام في (لعبة النهاية) اعمى وكراب في (الشريط الاخير لكراب) يعاني قصر النظر وليس لديه نظارات. وبرغم ذلك، تمثل حالتا العوز والعجز نوعاً من القوة تمنح الاجساد وجودها وفاعليتها الدرامية وحقيقتها كأداة فاعلة في العرض المسرحي. ليس ثمة، في الواقع، وجود فعلي للجسد الصحيح والمُعافى والوسيم الذي يتمتع بخصائص الجمال المتعارف عليها في المسرح التقليدي. مسرح بيكت هومرآة للحياة حيث لا يتفعل وجود الجسد ولا يتعمق تأثيره الا في حالة شعوره بالألم وتكبده المعاناة. الا ان ذلك لا يعني النظر الى هذا المسرح بوصفه معرضاً لمجموعة من المُعاقين والعاجزين، فهذه نظرة قاصرة برأيي ولا ريب، بل الافضل التعاطي معه بوصفه محاولة جادة ومتعمدة لتسليط الضوء على الجسد والتفكر ملياً بموقعه ومكانته وابعاده المتجددة وحضوره في المسرح وفي الحياة بعامة. ان بيكيت بعنايته الفائقة هذه في تصوير مظاهر الاعاقة والعجز والالم في مسرحياته انما يضرب عصفورين بحجر واحد، فهو بفعله هذا لا يكتفي بتجسيد الالآم والاعاقات الجسدية والميتاجسدية التي يعانيها الانسان/الشخصية امام المشاهد فحسب، بل يعمد الى توظيف نواحي القصور والعلل هذه ليتلمس طريقه في متاهات العرض المسرحي ويشيد فضاءً مسرحياً مغموراً بحضور الجسد الطاغي. وبيكيت يفعل ذلك على نحو مُنظم وقاس- كما يقول انتوان ارتو-رائد مسرح القسوة- ابتغاء خلق فضاء مسرحي مهووس بالجسد وتمثيلاته.
ثمة جانب آخر ينبغي الحديث عنه في مسرح بيكيت يتصل بـ (اللاحركة). إذ يغدو الجمود أو الشلل الحركي، في هذا المسرح، كياناً مشهدياً مؤثراً دالاً على القوة والتوتر الدرامي الهائلين على الرغم من حدوث ذلك عبر مغايرة الجمود بتفاهة الحركات وعقمها وعبثيتها. في مقدمته لاحدى مجموعاته المسرحية، ذكر الشاعر والمؤلف المسرحي الايرلندي (وليم بتلر ييتس)، ((حينما أتعقب مسار رغباتي رجوعاً الى منابعها الاصلية، اجد رغبتين مهيمنتين: رغبة ملحة في أن تحافظ الكلمات على بهائها ورونقها وحيويتها، ورغبةً اخرى توازيها في القوة تتصل باستعمال كلمات حيوية ومميزة ومعبرة. كان يوماً مميزاً حقاً ذلك الذي تمكنت فيه في الابقاء على المشاهدين متسمرين في مقاعدهم طوال مدة عرض الفصل الاول من مسرحية (بئر القديسين) على الرغم من استمرار الشخصيتين الرئيسة في المسرحية في الجلوس جنباً الى جنب في ظل صليب حجري منذ بداية الفصل حتى نهايته)). وفي موقع اخر، بينَ (ييتس) فائدة حبس الممثلين في مسرحياته في براميل لتخليصهم من الحركات والايماءات الجسدية الزائدة. ولمقولات ييتس هذه، كما يتضح، دلالات تنبؤية قيمة لمسرح بيكيت تجسدت في مظاهر الشلل الحركي المتعددة وتوظيف الجِرار في مسرحية (المسرحية) وصناديق القمامة في (لعبة النهاية).
ومن نافلة القول أن للشلل الحركي خصائص ينفرد بها في مسرح بيكت أهمها قدرته على اكتساب قدر أعلى من التوتر الدرامي بفضل تمحور العرض المسرحي حول تمظهرات العوق الجسدي وتداعياته كما في مسرحية (شريط كراب الاخير)، فالصمم الجزئي الذي يعانيه كراب يعمق حدة التوتر في حاسة السمع لاضطراره الى تكثيف جهوده للاصغاء الى كل ما يقوله الصوت الآتي من الشريط المسجل. لهذا، يظهر كراب بوضعية جسدية مميزة ملتصقاً بجهاز المسجل ماسكاً به بقوة جسد في اعلى حالات توتره وجموده الحركي بطريقة تجسد العلاقة الجسدية والاحشائية العميقة التي تربطه بالجهاز. هذه العلاقة تحيل جهاز المسجل الى جسد آخر حاضر بقوة في الفعل المسرحي ينبغي الانتباه لوجوده.
وكما هو معروف، يؤلف الصراع جوهر العمل الدرامي، وهو العنصر الوحيد بين عناصر التوتر الدرامي الذي لا يمكن اختزاله او الاستغناء عنه. ويكتسب هذا التوتر زخماً وعمقاً اضافيين في مسرح بيكت لأنه لا يتخذ من الصراع النفسي منطلقاً وانما يتخذ له طابعاً جسدياً خاصاً. يرغب (كلوف)، مثلاً، في ترك (هام) جسدياً ليعود الى مطبخه. وإضافةً إلى ذلك، تُعرض الحركات الجسدية في مسرح بيكت بصيغ المقاومة التي تدخل في صراع معها، فـ (كلوف)، وهو الشخصية الوحيدة القادرة على الحركة في (لعبة النهاية)، يعاني صعوبة في اداء أاحد اشكال الحركات، اذ لم يعد بمقدوره الجلوس وهو يمشي بطريقة مثيرة للفضول، بطريقة متخشبة ومتمايلة. يتزامن كل ذلك مع ولع بيكت في توظيف تقنية المغايرة في عروضه المسرحية ، فالحركة توجد جنباً الى جنب مع الجمود الحركي، إذ ينهمك (كلوف)، في سبيل المثال لا الحصر، جملة من الحركات السريعة والصعبة التي تُعرض بإزاء حالة الجمود الحركي المميزة لـ (هام) والعجوزين (ناغ) و(نل) المحبوسين في صندوقي القمامة. ويخدم غياب الحركة، مسرحياً، غرض تسليط الضوء، عبر تقنية المغايرة، على الحركات التي يؤديها (كلوف)، ولأنه الوحيد القادر عملياً على الحركة، تكتسب الايماءات والحركات الصغيرة التي يؤديها اهمية استثنائية تحيل أقل الحركات شأناً وأهمية الى حدث هام في فضاء العرض المسرحي. وعليه، يمكن القول إن القدرة على الحركة والجمود الحركي يعملان على نحو دينامي ومتبادل لتعزيز الاثر الدرامي لكل منهما.
وعلى نحو مماثل للتوتر الجوهري بين الصمت والكلمات، ثمة توتر دينامي لا يستهان به بين الحركة والجمود الحركي. فالكلمات تنطلق من الصمت واليه تعود وكذا الحركة تنطلق من الجمود الحركي وتعود إليه. وهكذا تمثل الحركات والايماءات الواقعة ضمن دائرة الشلل الحركي انتصاراً عليه وتكتسب قيمة مضاعفة تحديداً في حالة التوتر الذي تظهره في علاقتها بالجمود الحركي. يقول (كلوف): ((سأكون هناك، في المخبأ القديم، وحدي ضد الصمت و…(يتردد)… ضد السكون. لو قدر لي الاحتفاظ بسكوني فحسب، والجلوس بهدوء، سينتهي أمر الصمت والحركة عندئذ، سينتهي كل شي)). وعلى الرغم من عمق الرغبة في تفسير هذا التوتر ميتافيزيقياً، ينبغي تذكر حقيقة أن عملية عرض العناصر المسرحية بصيغ جسدية محددة تؤلف أحد أهم الخصائص الجوهرية في مسرح بيكت، فالممثل البيكيتي، خلافاً لزملائه في المسارح الاخرى، يتحمل اعباءً اضافية تلزمه اداء الحد الادنى من الحركات او ما يُعرف مسرحياً بالاختزال الحركي وكذلك اظهار التوتر والتركيز العاليين في الايماءات والحركات التي يشترط فيها الانطلاق من الجمود الحركي ومن ثم العودة اليه، وبوساطة هذا الجمود الحركي ذاته تتوقف الحركة أو تُعلق على نحو متواصل كما في سلسلة الاحلام في (شريط كراب الاخير). إذ يدخل (كراب) في حالة الحلم لحظة استذكاره امرأة، فيكف عن الاصغاء ويقطع التيار الكهربائي عن جهاز المسجل ويتحرك من مكانه صارخاً بالتياع ويتشتت انتباهه ومن ثم يعود الى حالة السكون الحركي الاولى التي كان بها ليواصل حلمه. تقع المساحة التي تشغلها الحركة في سلسلة الاحداث هذه بين لحظات من الجمود الحركي الذي يعزز أهمية الوضعيات الجسدية التي يؤديها الممثل الذي يبدو كثير الشبة بالتمثال في سكونه الحركي. ولذا، ليس مستغرباً اهتمام المشاهد في مسرح بيكت بموسيقية وايقاعية الحركات والايماءات التي يؤديها الممثل/الجسد لأنها تحل محل الاحداث الفعلية في السرد المسرحي التقليدي. وتبعاً لذلك، يغدو الجسد البيكتي، بالآمه وعلله واعاقاته، جسداً طبيعياً مألوفاً وجسداً موسيقياً مُعبر في آن معاً.
لقد ادى اختيار وضعية الجمود الحركي وتقييد الحركات في الفضاء المسرحي في (الايام السعيدة) وكذلك الايماءات في (المسرحية) الى اختزال الممثل والفعل المسرحي الى مجرد كلمات. وهذا الاختيار لم يكن اعتباطياً بل متعمداً وواعياً لأنه يمنح بيكت الفرصة لاستكشاف العلاقات المحتملة بين الكلمات والجسد، واحدى العلاقات المحتملة هذه هي- وياللمفارقة- غياب العلاقة، فالبانتومايم الصامت الذي تُفتتح به مسرحية (لعبة النهاية) وتنتهي، والحركات الجسدية الصامتة والمتنوعة التي تتخلل مسار الاحداث في مسرحيات بيكت من مثل الاحتضان الصامت لجهاز المسجل في (شريط كراب الاخير)، واللعب بالقبعات في (في انتظار غودو)، واختفاء (كراب) المتكرر في المخزن اعلى خشبة المسرح جميعها أمثلة دالة على امكانية مسرحة الجسد وتقديمه لوحده دون الاستعانة بالكلمات. تغدو الايماءات، في بعض الأحيان، نسقاً من حركات محدودة لا خيار أمام الممثل سوى تمثيلها مثل عرض (وني) محتويات محفظتها في (الايام السعيدة). إنها تتحول الى ادوات تناغم موسيقية وايقاعية مساندة للكلمات أو ربما معادلة لها. وحتى مع اختزال خشبة المسرح، ظاهرياً، الى محض كلمات كما في (المسرحية) او الفصل الثاني من (الايام السعيدة) يبقى اهتمام بيكت متمحوراً على كل ما له صلة مباشرة بالجسد، فالحركات الصغيرة التي تؤديها (وني) مثل الابتسام او إخراج لسانها او النظر جانباً تكتسب أهمية وقيمة درامية عالية بفضل حالة الجمود الحركي التي توضع بإزاءها.والعلاقة بين الجسد والكلمات في مسرح بيكت تكتسب ابعاداً متجددة ومذهلة تحديداً عندما يُختزل الجسد باكمله في الفم- العضو المسؤول عن النطق بالكلمات.
ثمة، في الحقيقة، منطق صارم ومغزى لا يمكن الاستهانة بهما في متوالية التقدم من الشلل الحركي لـ (هام) في (لعبة النهاية) الى الطمر التدريجي لجسد (وني) في (الايام السعيدة) الى الاكتفاء بعرض الرؤوس في الجِرار الثلاث في (المسرحية) الى هيمنة الفم في (ليس انا) و(نفس). يضطلع التلاشي الجسدي في هذه العمال حيث يبدو الفم وكأنه التهم باقي اجزاء الجسد في (ليس انا) فضلاً عن الجمود الحركي التام…يضطلع بدور هام في شد انتباه المشاهدين إلى الحركات والاعضاء ذات الصلة بنطق الكلمات. ومرةً تلو الاخرى، تشهد مسرحيات بيكت توكيداً فائقاً على الديالكتيك المتواصل بين الحركة والسكون، والاختفاء والظهور فيما يبدو انه الظروف الدرامية الاشد قسوة وسوداوية لأن الجمود الحركي في مسرح بيكت يتميز في المعتاد بفاعليته وديناميته واحالاته البارعة، وهو بمغايرته المستمرة بالقدرة على الحركة يعيننا على تخيل الجسد الاخر المُضمر في المشهد المسرحي حتى في حركات الكلمات المنطوقة. وبقول مختلف، تتلخص الغاية التي يرمي بيكت إلى تحقيقها في القاء الضوء على الكلمات التي يترجمها الجسد وينطق بها لا اختزال خشبة المسرح الى كلمات فحسب. إن مسرح بيكت هو مسرح المكونات الاساسية والاصول الاولى. إنه مسرح الكلمات والاجساد: الكلمات في الجسد والكلمات التي يطلقها الجسد ويعبر عنها. وعليه، يتميز الشلل الحركي المميز للمسرح البيكيتي بطابعه الفارق، فهو في طمسه للخصائص التقليدية المنسوبة للجسد يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك استحالة اختزال الجسد ويذكرنا أن الجسد كان وما يزال اداة للكشف والتأمل. وبيكيت في سعيه جذب الانتباه الى الكلمات يخلق فضاءً جسدياً معبراً حتى في حالة اختزال الجسد/المُمثل الى حدوده القصوى بتوظيفه عضو جسدي واحد هو الفم الذي يتحول بفضل الاضاءة الى عضو جسدي دينامي لا حد لقدراته التعبيرية. المسرح البيكتي، بكلمة واحدة، هو مسرح الاساسيات، مسرح شديد الخصوصية يُختزل فيه الجسد والكلمات وتستعيد فيه الايماءة والكلمة وظيفتهما التعبيرية الأساسية.
إن الغاية من هذا الاختزال الحركي المتواصل في مسرح بيكت هي جذب انتباه المشاهد الى احد اجزاء الجسد او احد جوانب لغة الجسد لا الجسد بأكمله. وبيكيت، بهذا المعنى، احشائي وتشريحي لجهة تقطيعه وتشريحه المُمنهج للغة الجسد. ويُعد الاهتمام بالحدود الخارجية للجسد او أسلوب المشية تحديداً المبدأ الثابت والسمة الاهم في مسرح بيكت الذي تعج مسرحياته بامثلة لا حصر لها كما في تضخيم وقع خطوات (كلوف) على الارض وعرض وضعيات جسدية معينة كما في حالتي (لاكي) في (في انتظار غودو) و(كراب) أو الحركات الايمائية للوجه واليدين كما في (وني) و(هام)، أو الوجه لوحده أو تعبيراته كما في حالة (كراب) و (وني) في الفصل الثاني من (الايام السعيدة) أو الفم الناطق بالكلمات في (ليس انا). يمكن القول، في هذا السياق، إن النجاح الدرامي لمسرحية (شريط كراب الأخير) يعتمد على الوضعية الجسدية التي يتخذها (كراب) المشلول والمنهمك في الاصغاء لشريطه المُسجل. في اثناء اصغائه للشريط وامتناعه عن التعبير عن مشاعره لفظاً، تتبدى مشاعر الغضب واليأس على وجه (كراب)، وبيكيت في فصله الصوت عن الجسد يعمل ببراعة على تحويل فعل الاصغاء الى استماع الجسد لصوته الداخلي، عندئذ يغدو الجسد الوعاء الحساس الحاضن الذي ينقش الصوت ذاته عليه. انه نوع من جهاز التسجيل البشري.
ثمة شيء ينبغي اضافته هنا يتصل بالدور الذي تؤديه العين لاعتقادي ان العين في حالة (كراب) هي المسؤولة عن عملية الاصغاء لا الاذن واقصد بذلك ان السكون الحركي التام لفعل الاصغاء وللوجه المعزول عن الحركات العادية المقترنة بنطق الكلمات يضع شيئاً شبيهاً بالقناع على وجه الممثل، والعين هي العضو الوحيد المتحرك خلف هذا القناع، العين التي تعيش وتتحرك في اثناء اصغائها للصوت. وفي السكون الحركي المطلق للقناع، تتجسد حركات (كراب) وتعبيرات وجهه المتناهية في الدقة. و(كراب) الذي اخُتُزِل وجوده المسرحي الى حالة من الجمود الحركي وتحول وجهه الى قناع يدخل في حالة صراع مع (كراب) ثانٍ ينهض من مكانه ويتوجه الى المخزن ليشرب او يجمع الاشياء المتناثرة على خشبة المسرح. وخارج خشبة المسرح هذه، يغدو وجه (كراب) مجرد صورة ظلية لا ملامح لها ليجسد بذلك مفارقة الحضور/الغياب.
وختاماً، يخضع الجسد، في مسرح بيكت، لعملية استكشاف ومسرحة درامية غير مسبوقة في تاريخ المسرح، عملية تستند في جوهرها الى اعتماد بيكت لعدد مُحدد من الخيارات الجمالية تتمظهر في العلاقات الجسدية الفارقة، والوضعيات الجسدية المتطرفة والقاسية، وانواع من الشلل الحركي والعلل والاسقام، مثل دفن الشخصيات تحت الارض أو وضعها في صناديق القمامة. وثمة أنواع اخرى برع بيكيت في عرضها من مثل صغر حجم الفضاء المسرحي الممنوح للممثل/الجسد والحضور المتشظي للممثل والعلاقات الاحشائية/الجسدية بالفضاء والمواد المختلفة. مثال ذلك احتضان (كراب) لجهاز المُسجل في القارب وكأنه يحتضن جسد فتاة واحتضان (هام) لكلبه/اللعبة بديلاً عن العلاقات البشرية، الى جانب عدد من العلاقات الجسدية الغريبة بالكلمات مثل ولع (كراب) بترديد كلمة المكب. من هذه المواد غير المعالجة والمنسية مسرحياً نجح بيكت في خلق اعمال درامية تحظى فيها ادق التفاصيل باهمية استثنائية؛ وهو بقيامه بذلك يعيد لخشبة المسرح قدراتها الاستثنائية كأداة جسدية فريدة من نوعها.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *