إشارة :
سلمان داود محمّد – وببساطة شديدة جدا ولكن معقّدة – هو “عاهة إبليس” في المشهد الشعري الراهن ؛ العراقي – وحتى العربي لو هيّأ له الأخوة النقّاد “الأعدقاء” فرص الانتشار. وكمحاولة في إشاعة فهم بصمة روحه الشعرية المُميزة الفذّة التي طبعها على خارطة الشعر ، ارتأت أسرة موقع الناقد العراقي الاحتفاء به عبر هذا الملف الذي تدعو الأحبة الكتاب والقرّاء إلى إغنائه بالدراسات والمقالات والصور والوثائق.. تحية لسلمان داود محمد.
الشاعرالعراقي سلمان داود محمد :
الشرف الوطني يبدأ بالبسطال ،
وما هذا الإكليل سوى تأبين تذكاري على شرف فقدناه …
حاورته في بغداد : الشاعرة العراقية نجاة عبد الله
إضاءة
مثقل الخطى.. تقوده دمعة وتصفعه أخرى وهو يدور أرقاً في أزقة بغداد .. كم قلت له ذات حرب وأنا اتأمل أنياب البياض التي مزقت قلبه لتمتد الى رأسه .. ستأكلنا البلاد ياصديقي وسوف يعلق رجال الأمن أرواحنا في دهاليزه المخيفة ، فيبتسم لي بوجع صاخب : ارجوك أنا لا أحسن معاقرة الأوطان وكل ما اجيده هو جمع لآلئ الشعر من ليل العراق .
لم يرث غير الحروب التي تناسلت على أكتافه وأودعته شفراتها سنوات سرية لا يفقه كنهها سوى الشاعر.
رأيته مراراً يقود (خراف العلة) صوب جنتها المفترضة وهي تتناول بشراهة مفرطة تلك الأعشاب التي نبتت في بسطاله حين تخلت (رجله) الوطنية عن الحرب .
تتقافز كلماته بين أصابع الرصاص ودوي المفخخات حين يشتد إوار الحروب ، له أفراح كثيرة لا يحسد عليها وهو يدجن الصمت في أصص الكلام .
مثلما مزق الأعداء شارع المتنبي وتقاسموا جثث أوراقه، مزق الشاعر سلمان داود محمد قميصه أسفاً وغيظاً من جور لم تسلم منه حتى كتب التأريخ وأقلام الرصاص ها أنا ذا أحاوره من العراق وساعة الحرب تدق معلنة فوضاها :

نجاة : مرة وذات وجع وضعت نبتة في بسطال لأنه خان قدمك ساعة حرب ولم يمكث فيه طويلاً .. أي عقاب هذا..؟
سلمان : لم يكن الأمر عقاباً بالمعنى ( العنفي ) للكلمة ، بل كان مجرد لعبة أردت من خلالها البرهنة على أن البساطيل أقنعة أخلاقية لأقدام تدرك جيداً ان من العار عليها ان تذهب الى الحرب حافية لئلا يتهمها ( الفقه العسكري ) بالاستعرائية والخلاعة ازاء عدو يفضل أكل الخطى بواسطة الكمائن المحتشمة بأغصان الشجر أو عبر الألغام المضادة للأشخاص والمحجبين بقناع الوقاية من عطر التفاح فوق الحجابات .. نعم .. أنها لعبة المغفلين من أمثالي الذين أدركوا بعد فوات (الأوطان) أن الثور المجنح الذي يجثم في رؤوسنا كان ومازال بمنأى عن الإصابة بانفلونزا الطيور وجنون البقر، وما الإحتراب الذي أكل جل أعمارنا بين سدنة الكافيار والسيكار من جهة وجنرالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جانب آخر إلا مزحة مسلحة لإثبات بديهية مفادها :
ان الشرف الوطني يبدأ بالبسطال وعليه أرتأيت ان أضع تلك ( النبته/ الأكليل ) عليه كتأبين تذكاري على شرف فقدناه ..!
نجاة : شاعر صامت وحروف تذوب أرقاً في الكلمات، ماذا تريد قوله في كل قصيدة تكتبها؟
سلمان : لم أقل شيئاًُ يستحق الذكر، وعلى الرغم من ذلك اتهمني المتلقي بتصريح لم أقله وهو مثلاً : كن حماراًً وحشياًً مثلي لا يجر عربة ولا يركبه احد مهما انهالت عليك الثناءات والعطايا والفاخر من العلف.. هكذا فنّد القارئ صمتي وكتابتي.. وهو على حق ..
نجاة : هم يكتبون أو يسيرون او يموتون حباً في القصيدة، هل وضعوا لبنة في ترميم البلاد..؟
سلمان : إذا كانت أصابع سؤالك هذا تشير الى الشعراء فأقول نعم أنهم نبلاء ومهرة في السعي الى تحطيم عراق غامض صار بين ليل الطغاة وضحى الغزاة وأصبوحات الارتهاب المشين تحت وطأة صناع التشرذم ومنح تأشيرات البقاء من عدمه على أساس المسمى واللقب والمهنة والأحلام واللكنة والزي والسحنة وطريقة التبوًل حتى .. هؤلاء الشعراء مازالوا برسم التهديم .. تهديم بلاد لا تشبه نفسها، ومن ثم الذهاب الى ( مسطر ) الشعر مبكرين او قبل تطاير الأرواح بعبوة لتشييد عراق (يوجد) وصحيح مع ضمان موقع بـ ( مسحاة ) وقصيدة ( أمده كل الدهر ) يكفل مدى صلاحيته للصالحين له ( حصرياً ) وما عدا ذلك فليذهب الى الجحيم غير ماسوف عليه …
نجاة : سلمان داود محمد أراك منكفئاً تدون ذاكرة العراق وهمومه الشعرية والإنسانية بل تكاد أن تخيط أوجاعه بأوتار قلبك الحزين.. أية محبة هذه؟
سلمان : إذا كانت شاعرة ( قيامة استفهام ) و( نعاس الليلك ) وسواهما في توصيفها لي بالهيئة التي وردت في السؤال أعلاه فان هذا التوصيف يخيفيني ويبهجني في الوقت نفسه.. يخيفني لإنه يحكم على حياتي بالوحشة والوحدانية والتفرد ربما ، وهذا إحتفاء تعسفي لم أتوقعه من نجاة عبد الله الشاعرة مع الإشارة بشدة الى صدق نياتها وجسامة عذوبتها، ولاسيما وأن (تدوين ذاكرة البلد وهمومه الشعرية والإنسانية ثم خياطة اوجاعه بأوتار قلب حزين) يتطلب بالضرورة ذلك الحشد النوعي من الشعراء وذوي الابتكار في اداء مهمة كهذه، ولا مجد لي في أن أكون واحداً من هؤلاء مع الإحتفاظ (حتماً) بمهارة الفعل الشخصي ومقداره لكل منهم على حدة في هذا السياق التكاملي .. اما الذي يبهجني حقاً يكمن عادة ومازال في تلك التمرينات (الاحمائية) من أجل الدخول في صلب (المحبة) البارقة في نهاية سؤالك، لم أقصد رجاءً محبة جغرافيا المكان على الرغم من جلالها بل ما ينبض على هذا المكان من ناس وأزمنة ودلالات تشير الى أهميته ، إذ لم يعد العراق ( للإقامة المؤقتة ) بل ( للقيامة الرحيمة ).. هكذا أبتهج وأتيقن من محبتي لهذه البلاد التي تشبه (علًة السرطان) فما أن يشفى المرء منها سيموت (فديمومة هذه (المحبة السرطانية) أكرم بكثير من العلاج وشقيقاته المسكنات التي تغوينا بمفاتنها عن بعد، أي (منذ) دول الجوار فصاعداً وشهودي في هذا الشأن: قاسم عبد الأمير عجام، كامل شياع ، رعد مطشر، أحمد آدم، اطوار بهجت، أديب أبو نور، حاتم حسام الدين، وما تبقى من أقرانهم الذين سيندرجون لاحقاً على لائحة (خبر عاجل)، فلا شكوى من ذلك ولا ندم ..
نجاة : أردت تعقيبك على شائعة تقول : يرجى تقسيم الأدباء الى أدباء خارج وأدباء داخل، والأدب الى ذكوري ونسوي والأجيال الى أشخاص والوطن الى طوائف والعراق الى دويلات والشعر الى عمودي وافقي ومنثور.. أية فاجعة تلك ياصديقي؟
سلمان : دعيني في البدء أن أستبدل كلمة (شائعة) بكلمة (واقعة) لكي يستقيم المعنى في سياقه الملموس ثم أعود لأقول ان نصف سؤالك يجيب ببلاغة ساطعة على نصفه الآخر، بمعنى أن العقيم الملثم بـ (الثقافي) وانحطاطه وافرازاته المتمثلة في تجذير الجهد على تسليع الثقافة الوطنية وانشطارها الى ثقافة عراق الداخل وثقافة عراق الخارج فضلاً عن الشروع في تلفيق (الانفصالية وبناتها) ثم غرسها في رحم الذهنية العراقية الأمر الذي أدى الى ما نلمسه الآن من تفتيت لجسد الوطن وتدويل الأزقة والأحياء والنواحي والأقضية والقائممقاميات والمدن، بمعنى آخر أن فساد (الثقافي) كذلك قد تواشج وتناغم مع الفساد (الحزبي) ولا أريد ان أقول السياسي أو الايديولوجي لان ثمة اختلافات مفهوماتية في هذا الصدد، وعليه فأن الصراع المزعوم بين (الثقافي) و(السياسي) هو محض طرفة سخيفة تستجدي الابتسام للتخفيف من ضراوة (المأتم) العام المتفشي في المشهد العراقي، بينما الصراع القائم راهناً وما انتج من ضياعات يتراوح ما بين الوعي الوطني الأشمل ونقيضه، وبتعبير (أكثر نثرية) أقول هذا الصراع مابين (اليابسة) التي يلزمها الوضوء لكي تتطهر وبين (دجلة) التي لا تحتاج بطبيعية الحال الى ذلك ..
نجاة :هل يفقد الشاعر طفولته ويندس في رداء الكهولة الشعرية …؟
سلمان : أحياناً أستأنف رياضة الضحك عندما أرى شاعراً!!.. يخضع للقوانين الموضوعة أصلاً لتنظيم حياة الرعاع بغية الحصول على أكبر كم ممكن من الإنصياعين والهوامش كأية سلحفاة محنطة في متحف التأريخ الطبيعي وقد انخرطت في سلك التراتيبية مذعنة لحقب تبدأ بالطفولة وتأفل في الكهولة مروراً بالبراعم والطلائع والفتوة.. الخ …
إلا إذا اعتبرنا الطفولة في الشعر تلك الميزة التي لم يبلغ الشاعر فيها سن الرشد الشعري ومثلها الكهولة التي تدل على نضوب في الشعرية، لذلك أرى ان الشاعر الخالص نبات لم يحسم تجنيسه بعد، استنبتته المصادفة في مكان يقع خارج الحدود الادارية لوزارات الزراعة في العالم، إلا أن دوائر التجنيد وتلكم المعنية بالاحصاء السكاني وغيرها من السلطات استدركت مروق هذا المواطن الملتبس (الشاعر) فعملت على تدجينه بلا رفق وترويضه تحت شعار (الجيش سور للوطن) أو (الكبش سور للوثن) لا فرق، لكي يصبح فيما بعد عنصراً طازجاً في تصنيع (المقبلات) الوطنية ومأكولاً بنهم على مائدة (الانتصار الإفتراضي) ولكن .. ياللعار.. لم يفلح أولياء أمور العالم في مآربهم هذه، إذ أدركوا بعد حين ان السبب الرئيس في عدم انتصارهم في الحروب يكمن في هروب الشعراء من الخدمة العسكرية ..!
نجاة : هل أنت أسير شعرك وروحك التي تفيض ألماً..؟
سلمان : كل ما أراه واتحسسه هو أسير بصيرتي، حتى الذين غابوا أو ماتوا أو اختفوا لسبب ما كانوا ومازالوا أسرى ذاكرتي مع بلل طفيف بسبب البكاء عليهم .. أما مسألة تأسيري لصالح روحي والقصائد فهذه إلتباسات لا تحمد عقباها، إذ كيف يمكنني تحرير المهجة والكلمات من براثن سطوتي وانا الأسير.. أسيرها.. أعتقد ان في لحظة الكتابة تنبثق تلك ـ القطيعة اللاصقة ـ بين الذات وذاتها، تشبه الى حد كبير تلك القطيعة الوثيقة بين الانتحاري وحزامه الناسف …
نجاة : العالم يدوّن لغة الفرح ونحن نحمل حروبنا على أكتافنا ونسير بها شعراً، ماذا لو إنتهت لغة الحرب؟..
سلمان : نحن الآن نتلقى ببالغ التراكمية ميراث الحروب السابقة وهو على أية حال بمثابة حروب أخر، ولا أظن ان هذه الأخيرة ستكف عن إنجاب مثيلاتها مادام هناك عراق (مسلوق) وشهي لدى الاقرباء والغرباء، وأرى أن حالة كهذه تستدعي استحداث حكومة اضافية تعنى (تخصيصاً) باستيراد الاكتاف والصدور والمؤخرات من جمهوريات الـ (واوا) أو من جمعيات (روبي) الخيرية لتحوير نظام اجسادنا من صيغة (الصامت) من فرط الأسى الى صيغة (الهزاز) على نغمات السدى.. أما بصددالفرح الذي تطرقتي إليه في سؤالك أقول : عفواً لا تنتظري من سموات مبرقعة بالسخام رزمة من أقواس قزح او أشياء من هذا القبيل ..
هذه – والله ِ – ليست مقابلة مع حبيب الروح (سادن الباب الشرقي) أخي الشاعر الأبهر سلمان داود محمد ، ولكنها (مقاتلة) مازال دخان بارودها ينثر الدفء على الرغم من التباسات المفردات الميدانية .. وأحبك .
كل الحب لسادن الشعر الجميل الشاعر المبدع سلمان داود محمد وهو يؤرخ لدهشة الحرف في مواجهة الواقع المر..وللعزيزة الشاعرة المبدعة نجاة عبد الله كل المودة والاشتياق.