محمّد عبد حسن : الشهيد (هيثم علي طالب).. وشهوده

الشهيد (هيثم علي طالب).. وشهوده

محمّد عبد حسن

“الأشياء تتبدد وتموت عندما لا تجد من يتذكّرها”
غسان زقطان/ وصف الماضي

*إشارة من أسرة الموقع
مادام “صراع الفرد ضد السلطة هو صراع الذاكرة ضد النسيان” كما يقول ميلان كونديرا ، فإن ما يقوم به الأديب البارع “محمد عبد حسن” في مشروعه هذا الذي ننشر حلقة جديدة منه هو واجب وطني مهم ومؤثر. ببراعة ومع تقطيع القلب الهادىء الصارم يجعلنا مثل “يوسف الأعمى” المُقتدر في رؤية الأشياء بأنامله .. والأنامل هنا هي قدرة سرد محمد الباهرة .. والاشياء هنا هي ذكريات أعمارنا الضائعة ووطننا المُضيّع المُخرّب.. فتحية له.

(1)
إمالة الرأس جانبًا قد تخلّصه من رصاصة تقصده.. حجر يُرمى تجاهه، إلا إنّها في حالة (هيثم علي طالب)، كما هو دائمًا.. وكما يبدو فيما نجا من صوره حيث لم ينجُ هو، لم تستطع الحفاظ عليه حيًّا لما بعد 7/9/1989.. هذا إنْ كانت قاعدة بيانات مؤسسة الشهداء التي توثّقه بالقرار رقم (3630/1- مديرية شهداء الكرخ) تعنيه.. وكان جده الرابع (نجم).
حين عرضتُ ورقة بياناته تلك أمام مَنْ صادفته من شهوده؛ التقتْ عيونهم في نقطة لو أسقطتها، كما علّمونا في الهندسة الوصفية، لوقعتْ في حضني. ألتقطها بعد أنْ تسقط بكلّ قلقها، تشتتها وتشظيها وهي معبأة بما يدور في رؤوس الشهود.. ألتقطها لأخبئها قبل أنْ تضيع مثل أشياء كثيرة في مدينتي، ثم لأنفرد بها في لحظات نتمكن فيها، أنا وهي، من نشر أوراقنا على الأرض بدل السرير العريض لعمّتي.. حيث كنت أبعثر كتبي ودفاتري المدرسية؛ إذ لا مساحة تتسع، حيث أعيش، لسرير يشبهه.

(2)
في بحث تفاصيل قضية مثل قضيتي.. لا يمكن تنظيم ورقة استدعاء لشهود تبعثروا في أماكن لا أعرف بعضها؛ وكأنّهم (طشّوا) للبحث عن فراديسهم المفقودة. وحين أعياهم الوصول؛ حطّوا رحالهم حيث هم:
أيوب إسماعيل.. أو (أيّوبي) كما كنّا نسميه: يقضي أيّامه في محلّ بمكان لم يصبح سوقًا كما أريد له.. مستعينًا بخبرة اكتسبها من الدكّان الصغير لجده (الحاج إبراهيم) الذي كان يصادفك بمجرد أنْ تعبر جسر (الخورة) نحو العشار، عند ركن الشارع المتجه إلى الكورنيش، إذ أنّ كلّ ما كسبه من دراسة سنتين في (المعهد الفنّي) في العمارة كان ورقة أشكّ أنّه ما زال محتفظًا بها.
(حسّون).. أو جواد لطيف: نادرًا ما كنّا نراه من غير مسجلته الكبيرة و(بايسكله) البالون الأحمر.. ومن ثم درّاجته الـ(M . Z)؛ ينزوي في مكان ما من محلة (بريهة) متخلّيًا عن (كاسيتات) سعدي البياتي.. وعن صويحباته المزعومات.
باسم باقر: فنّاننا المتفوق الذي ترك عوالمنا الضيّقة وابتعد.. مبتكر مصطلح (عِچْوَة)، ومستخدمه لكل شيء يعجز عن بيانه.. ما زال متحصنًا بقلقه وآلاته الموسيقية، ألوانه وخطوطه. ومع أنّ الغرفة التي أخذني يومًا إلى شرفتها، المطلّة على ما تبقّى من نخل ونهير وحيد في (مناوي لجم)، قد اكتملتْ؛ إلا أنّه بقي مكتفيًا بتخطيطات يرسمها بحرفية عالية ثم يلقي بها لا أدري أين.. فلا لوحة أنجزتْ، ولا معرض أقيم. ولكي أكون منصفًا؛ أقرّ بأنه قد واجه الدنيا مبكرًا بلا عدّة.. فشغلته، مكرهًا، عن كل شيء.
كريم إسماعيل.. أو (نِبْشُنْ): وهي تسمية ألصقها به (حسون) بعد أن اشتقّها، وهو يقفز إلى درّاجته، من الفعل (نَبَشَ) ونغّمها على وزن مكيّفات الهواء الشهيرة (جِبْسُنْ). وقد كانت تعبّر بحق عن (كريم) المنشغل دومَا ببعثرة أجزاء درّاجته وإعادة شدّها.
جاسم عبد القادر.. يعرب عبد الرحمن.. علي عبد الباقي.. منصور عبد القادر.. وغيرهم كثير، تشبّثوا بالأرض حيث هم بانتظار أن تخلوا الشوارع مرة أخرى، وتحلوا مياه نهر (الخورة). وقتها لا حاجة للبحث والاستدعاء.. ستجدهم متجمعين في فيء شجرة قرب النهر، أو في ظلّ جدار حديقة العقيد (عبد العزيز عبد الرحمن العبوسي) وعيونهم على (الصبابة).. يسحبون الظلّ إليها، حتى إذا أوصلوه انتقلوا بمسجلتهم (الستريو) الكبيرة هناك قبل أنْ ينحدر هيثم بدراجته (بغداد) الزرقاء ورأسه يوشك أنْ يغفو على كتفه.

(3)
اليافطات السود التي تعلّق تباعًا على ما تبقّى من جدران أزقّتنا القديمة؛ تصبح فرصة لالتئام الجمع وكأنّهم في إجازة قصيرة، عندها يمكن لملمة حكاياتهم وهم يعيدون اجترار أحلامهم الخائبة.
أتركهم يتحدثون متابعًا حكاياتهم تتدفّق إلى حضني دافئة قلقة. حاولتُ تعقّبها بعينيّ.. فرزها بيديّ. إلا أنّها، وهي تدور بطاقة تشبه طاقتي قبل أربعين سنة، جعلتْ عينيّ تنقبضان.. ولساني يتدلّى؛ فتركتها بانتظار أنْ تنتهي لحظات إدلاء الشهود بشهاداتهم قبل أنْ ينطلقوا في رحلات بحث جديدة.. ولأنطلق أنا، بعدها، حاملًا حكاياتهم كلّها لأفردها، في ساعة متأخرة، على الأرض.. إذ لا مساحة تتسع، حيث أعيش، لسرير ولو بنصف حجم السرير الخشب لعمّتي.

(4)
ليلًا.. حين بدأت أستلّ الحكايات من جيوبي، حكاية حكاية وقصة قصة، وجدتها تخرج كسلسلة يسحب بعضها بعضًا. أفصلها بصعوبة. أضع واحدة هناك.. وأخرى هنا.. وأخر أبعثرها حولي. وأنا أفعل ذلك؛ كنت اقرأ فيها اختفاء النخل من (مناوي باشا)..ما أدركناه من (طوفة الطين) الممتدّة لتفصل (گاع أبو موحي) و(گاع السيّد) عن الدرب المتجهة نحو شارع الاستقلال؛ مرورًا بـ(ساحة الصيدلي)، إحدى ملاعب صبانا،.. ومنتهية ببيت (ملّاية حسنة) وبسطة (يوسف الأعمى).. بائع الخضار الذي يميّز بأنامله فئة عملتنا المعدنية.. ويكتشف خدعنا عندما نضع بيده عملة كويتية لم نجد، وقتها، صعوبة في الحصول عليها.. (چرداغ) مجيد سلّومي الممتد طويلًا حتى يلامس طرفه البعيد نهر (الخورة) مشكّلًا، مع ما تبقّى نهر صغير يتفرّع من الشطّ، حدًّا بين صرائف (المعدان) وَ(گاع أبو موحي).. ممّا يعطي انطباعًا أنّ الجنبات أو (الدوب) كانت تصل إليه لتحميل التمور في زمن لم أعشه.. ربما قبل نصب الجسر.
حكاياتي.. كلّما فرقتها تعود وتتداخل، يضيع بعضها داخل بعض؛ وبذلك تكون الشهادات قد تداخلت.. فهي إذا ثلاث شهادات رواها شهود كثيرون.

(الشهادات)
الشهادة الأولى:
أنت تعرف الطريق.. وتتذكّر أنّنا، حتى قبل أن تعرف هيثم، كنّا نعبر الجسر للوصول إلى السوق.. سوق الخورة القديم وليس هذا الذي تعرفه الناس الآن. كان يمين الجسر بعد أنْ نعبر. وتتذكّر أيضًا كيف كنّا ننزل إلى الشط لتطيين أرجلنا حتى نتخلّص من حرارة إسفلت الجسر. عرفنا هيثم بعد ذلك، وأكملنا الطريق إلى بيتهم على امتداد الشارع الرئيس. لو ذهبتَ الآن؛ لن تجده.. لقد سُوّي بالأرض، أرى ذلك كلّ صباح وأنا أنتظر السيارة التي تأخذني إلى العمل، ثمّ وضعوا في قطعة الأرض الفارغة (كرفانات) وأشياء أخرى.. وأحاطوها بسور سلكي.
أنت تعرف الطريق، وغرفة الضيوف تعرفها: بمجرد أنْ تدخل وترتقي الدرجتين؛ تصبح في (طارمة) يسند سقفها الخرساني عمود حديد متآكل. كنّا نترك أحذيتنا فوق (كاشي الموزاييك) الأخضر وندخل.. نتوزع فوق المقاعد بكتبنا وأوراقنا، فيما يبقى هو متنقّلًا بيننا وكأنّه أستاذ يشرف على طلاب يؤدون امتحانًا.. وكان ذلك يُدهشني:
– هيثم.. ألا تقرأ!؟
– أنا سأدخل كلية الطب. اقرؤوا أنتم.
لطالما ردد ذلك حين كان يتركنا متحلّقين حول كتبنا في حديقة الأمة.. تحت أعمدة النور المنتشرة على طول شارع الكورنيش أيّام كنّا نقرأ هناك، يتركنا ويغيب. وها هو يعيده وهو ومتكئ على الباب الموارب المفضي إلى داخل الدار، ثمّ يطبقه بعد أنْ يخرج. وكان آخر ما رأيته منه ذيل دشداشته ورأسه المائل جهة كتفه.
وحين أنظر من النافذة؛ أراه.. وأسمع بوضوح ضجيج (بايسكله) المتهالك وهو يدفعه على الدرجات وصولًا إلى الباب الحديد الكبير وقد توقّف ترباسه عن إعادة رسم ربع دائرته على الأرض الإسمنتية وكأنّه ملّ ذلك.
أشعر، أنا الآخر، بالملل يتسلّقني؛ فأتبعه. أحمل، بعناية، دراجتي البالون الحمراء. أُصبح في الشارع.. وأعلم أنّه انعطف في الطريق المحاذي للمستشفى التعليمي ليصل إلى النهر. وقتها كان الطريق قد رُصف.. واختفتْ ساحة كرة القدم في الجزء الذي لم يكن مكتملًا من بناية المستشفى. كانت الطرق كلّها مفتوحة إلى شط المدينة الكبير بلا عوارض حديد و كتل من الخرسانة.. أو (كرفانات) لحماية أشخاص لم يرهم أحد يومًا.
ومع أنّ الساحة لم تكن موجودة.. إلا أنّني، وأنا أجتازها، كنت أرى صغارًا يتقاذفون كرة أمام أحد الهدفين.. فيما يبدو الآخر البعيد وحيدًا ومهجورًا بانتظار العصر. وفي اللحظة التي أتجاوزه فيها، ينعطف هيثم إلى حيث يلتقي نهر الخورة بشط العرب.
الجسر الحديد الذي نُصب أيّام الحرب وبقي مستلقيًا فوق مياه النهر سنين طويلة.. لم يكن قد أنشئ بعد. هناك كنت أجده: ظهره إلى النهر، فيما تمسح عيناه ثلثي دائرة من الفضاء الممتدّ أمامه. كان ذلك مكانه الأثير، فإذا أضعناه.. نجده هناك. ثم أصبحتُ أجده، بصدرية بيضاء، في أروقة المستشفى وهو لمّا يزل بعد طالبًا.
هل تُصدّق……، (يقول لي وعيناه مفتوحتان على اتساعهما، ولا أدري إنْ كان يراني أم يراه): هل تصدّق أنّ بعض أساتذته في الكلية أجروا له اختبارًا.. كانوا يظنّوه يغشّ! ولذلك أحاطوا به ليروا كيف يكتب. ومع ذلك أدهشهم. لقد ذهب هيثم ضحية تقرير رفعه طالب منافس.. زميل له قال لي ذلك بعد سنين. هكذا كان اعتقاله الأول. اعتقاله الثاني لا أعرف عنه الكثير، فقد انتقلوا إلى بغداد إثر رفض كلية الطب استقباله بعد خروجه من السجن.. لقد اعتقل هناك.

الشهادة الثانية:
هيثم.. أو (سيّد خضر)، هذا الطارئ الذي اقتحمنا منذ سنتنا الأولى في (متوسطة المتنبي) ليكون، بعد ذلك، اختفاءه أو عدم ظهوره هو الطارئ الذي سرعان ما يتبدد برؤيته منحدرًا بدراجته الزرقاء ورأسه المائل.. أو ظهوره أشعثًا شبه نائم وهو يحكّ رأسه بعد أنْ نكون مللّنا الانتظار في الخارج؛ فاقتحمنا الدار دافعين بابها الحديد الكبير ليرسم ربع دائرة جديد.. تمامًا فوق خطّ ربما رسمه قبل ثوان فقط.
تُرى.. لماذا اختار هيثم علي طالب (متوسطة المتنبي) في حين أنّ أقرانه من المتفوقين، أو (الشطّار) كما يُطلق عليهم، عادة ما يختارون (متوسطة التحرير) التي تشارك الأخرى بنايتها وتخالفها في وقت الدوام؟!
أتذكّر ذلك الآن، ومعه أستعيد بعضًا من تفاصيل نَجَتْ من ثقوب ذاكرتي السوداء، فأنا رجل بنصف ذاكرة.. بل بربعها، لا أجزم أنّ ما أتذكّره قد حصل فعلًا.. ربما حوّرته الذاكرة، احتفظتْ بما أحبّتْ أو تمنّتْ أنْ يكون. تستطيع، وأنت الآخر شاهد لم يتحدّث بعد، أنْ تُعدّل روايتي.. تُصحح مسارها. ولكنّك لم تكن معنا حين اصطحبتهم إلى حدائق مطار المدينة القديم خوفًا من أنْ تلتقطنا عين في أحد مشارب شارع الوطن. كنّا وقتها فتيانًا لم نحلق لحانا بعد. كان هيثم معنا متظاهرًا، كعادته، أنّه (شرّاب أكشر).. تمامًا كما أصرّ على أنّه يجيد السباحة، فقط، لأنّ بيتهم لا يبعد كثيرًا عن الشطّ. وقتها كنّا نلهو في شط الخورة.. ليس الذي تراه الآن بمياهه السوداء ورائحته الخانقة. كان النخل ما زال موجودًا على جانبيه، وتتخلل الأرض القريبة منه سواقٍ وأنهار صغيرة تفيض وقت المدّ.. هناك ألقى هيثم نفسه في الشطّ كأي سبّاح ماهر، ولم يخرج إلا بمساعدة عدد من السابحين كانوا قريبين منّا.. سحبوه إلى الجرف بعينين جاحظتين وبطن منتفخ.
لست بصدد وضع مبررات أو الوصول إلى استنتاجات، فما أنا إلا شاهد بذاكرة فقدتْ محفّزاتها. لا أنهار صغيرة لنتسلّى بطفرها.. هذا إذا استطعتُ أنْ أقفز أبعد من موضع قدمي الأخرى، لا نخل قريب لنرى (الطناطل)، بملابسها البيضاء، ليلًا على قممه، والمكان الذي اكتسب فيه هيثم لقبه (سيّد خضر) احتلّته كلية الطب بأبنيتها الممتدة على طول الضفة الأخرى لنهر الخورة، فيما غيّبت الضفة القريبة منّا مطاعم ومقاه وصالات لعب.. ومشاتل كثيرة لم تفلح حتى في سدّ احتياج موائدنا.
في (ساحة الخورة) اكتسب هيثم لقبه ذاك يوم نزل الساحة بـ(شورت) يُشبه في خضرته الرايات الموضوعة على مقامات الأولياء. يومها ضحكنا كثيرًا مع أنّنا، كما في كلّ مرة، كنّا خاسرين.
بعد خروجه من السجن؛ زرته أكثر من مرة. لم يُحدّثني عمّا جرى له هناك. كان شخصًا آخر.. يؤمن بغيبيات لم نكن نجد لها مكانًا في عقولنا الفتية. لقد فقدناه منذ ذلك الوقت.

الشهادة الثالثة:
لم يكن سهلًا على الإطلاق الفرار من جحيم الحرب المشتعلة في (نهر جاسم). استثمرت وجود جرح في يدي؛ فربطتها بفوضى من يربط جرحًا وسط موت متربص.. وعدتُ. كانت أحياء المدينة القريبة من شط العرب فارغة إلا من بعض شبّان بقوا يحرسون دورهم بعد أن انتقل أهلها إلى عمق المدينة البعيد عن القصف.. فيما رحل آخرون إلى محافظات بعيدة.
سنة وسبعة أشهر.. هذا ما أتذكّره، أنت تدري أنّ الحرب لم تبقِ لنا شيئًا سليمًا. سنة وسبعة أشهر قضينا أولها في الحلة.. ثم كربلاء حيث كان لقائي الأخير بهيثم.
كان يتجوّل بهوية طبيب حرمتها منه سنوات سجنه، بها أدخلني مستشفى كربلاء.. ورأيته كيف تحدّث مع الأطباء بلغتهم مناقشًا حالة قريبتي الراقدة هناك، وأتذكر أنّه تبرّع لها بكيس دم كانت بحاجة إليه.
“لا تستغرب”. قال لي ونحن نعود.. “لقد أنهيتُ قراءة منهج الكلية وأنا في السجن، فأنا الآن طبيب بدون شهادة. تعال معي”. كان وقتها في بغداد.. في مدينة الحرية. ذهبتُ معه. في الكاظمية.. أدخلني مكتبة كبيرة.. قادني عبر ممراتها إلى غرفة بدت وكأنّها مشغل سريّ، هناك وجدتُ كلّ شيء: أختامًا كثيرة.. هويات بأشكال مختلفة.. أوراقًا معنونة.. نماذج إجازات عسكرية.
كانت آخر مرة رأيته فيها. علمتُ فيما بعد أنّه اعتقل.. ثم قُتل في محاولة للهرب عندما أخذ إلى الكوت للتعرف على أحدهم مع أنّه كان مقيّد اليدين.. هذا ما أخبرني به شخص كان قريبًا منه هنا.. وبقي على تواصل معه في بغداد.. ومع أهله بعد رحيله وموت أخيه في ظروف غامضة.

(5)
ما تبقّى من حكايات ضاعت مع المكان، ولإيجادها.. عليك إيجاده أولًا، ثم استنطاقه بلطف، إغراءه بالحديث ليبوح لك.. هذا إن كانت لك أذن لم تتلوّث بعد بكلّ فوضى الضجيج المستحدث. وحين تعجز عن إيجاد المكان بالشكل الذي عرفته فيه؛ لا تجد بدًّا من الركون إلى ذاكرة هشّة تثقبها عصيّ شهودك وهم يحاولون بعثرة رمادها بحثًا عن شيء متّقد.
ولأنّك لم تكن هناك؛ ليس لك إلا أنْ تنقل ما قاله أحد شهودك بالحرف: “لقد أُعتقل هيثم في بغداد.. في محل للكماليات كانوا يتّخذوه وكرًا بعد أن ارتبكوا إثر دخول رجال أمن، صدفة، لشراء شيء ما”!!

نيسان – أيلول
2018م
محمد عبد حسن
البصرة

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| كريم عبدالله : كلّما ناديتكِ تجرّحتْ حنجرتي.

مُذ أول هجرة إليكِ وأنا أفقدُ دموعي زخّةً إثرَ زخّة أيتُها القصيدة الخديجة الباهتة المشاعر …

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *