علوان السلمان : لميعـة عباس عمـارة على أوتار العامية والفصحـى (ملف/17)

إشارة :
“لميعة” البقية الثمينة الباهرة، وطنيةً وشعرا، لكن المغدورة – كالعادة – في بلاد القطة التي تأكل أبناءها: “لا أعرف لي منشأ غير الطين الرافديني في جنوب العراق ولا أعرف لي أصلا غير الجذور السومرية البابلية. أربع وعشرون سنة في أميركا لم تغيّر منّي شيئا ولم اشعر بانتماء حقيقي غير انتماء العراق” .. لميعة اللمعة الشعرية والجمالية والوطنية في ظلام العراق الخانق، علمتنا أن نشتاق لنهرينا العظيمين وفي بردهما الجنّة. تتشرف أسرة موقع الناقد العراقي بأن تعد ملفا عن شاعرة العراق الكبيرة “لميعة عباس عمارة” داعية الكتّاب والقرّاء إلى إثرائه بالمقالات والصور والوثائق. تحية لشاعرة العراق والعرب الكبيرة لميعة عباس عمارة.

لميعـة عباس عمـارة على أوتار العامية والفصحـى
علوان السلمان

ذات يوم رددت الشاعرة لميعه عباس عمارة مع نفسها..

قد لا اكون شاعرا كبيرا ..

ولكني ..

ماكنت يوما انسانا صغيرا..

ويقول جان كوكتو ( الكتابـة هي فن التـورط )

ولميعة عباس عمارة التي يمتزج عندها الحبيب بالوطن و الحياة في كل دواوينها تقول في مقدمة لها طرزت مجموعتها ( لو أنباني العراف )

كل شعري قبل لقيـاك سـدى

وهباء كل ما كنت كتــبت

اطو أشعاري ودعها جانـباً

وادن مني فانا الـيوم بدأت

انه صوت النورس الذي عانق فقاعات دجلة في زغبه آذ الولادة في بغداد الكرخ 1929 فالارتحال صوب رائحة الهور وعطر السنابل والحصاد وأهازيج النسوة ولقاءات (الملالي) وغناء الطفولة في أحضان العمارة عام 1932 …..وهناك نشأت وأكملت دراستها الابتدائية والثانوية .. ثم العودة ثانية إلى بغداد لإكمال دراستها في دار المعلمين العالية حتى تخرجها فيها عام 1950 بعد أن كانت لقاءات الإبداع والتجديد وظهور مجموعة من الأديبات كان لهن الفضل الأول في إظهار شخصية المرأة بما قدمته من نتاج فكري وأدبي أسهمن فيه منهن ( نازك الملائكة وعاتكة الخز رجي ولميعة عباس عمارة وفطينة النائب وصبرية الحسو ) وغيرهن من الرائدات الأوائل ..

ولميعة عباس عمارة صورة المرأة الرافضة لواقع يقتل ألذات النسوية المبدعة بدأت تحس بحريتها وتحركها نتيجة لما أفرزته الحياة ,فولدت عندها نفس حساسة وروح تواقة الى الأجمل والأروع والأسمى فالعصر.. حقق لها وجودها فمنحها حق التعليم والعمل لكنه لم يحررها عاطفياً للتعبير عن مكنونات نفسها بل كانت تغلفه بالمعنى القريب . فقد عبرت الشاعرة في بعض قصائدها عن عواطفها مع كثير من التحفظ المطوق بالكبرياء وحب ألذات فظلت عواطفها مرتبطة بالبيئة خاضعة لعرفها الاجتماعي .

أهكذا تمضي حياتـي سـدى

اهكذا تدفـن آمالـي

اهكذا يقطع ما بينـنا

هذا الستار القاتـم البالـي([1] )

فالشاعرة كانت واعية للأزمة التي تحيط بها لذا كانت ثورتها اجتماعية وسياسية تتحرك في إطارها العام فهي انسانة متفاعلة مع واقعها تطمح إلى دفع عجلة التطور إلى أمام لذا فهي عضوة الهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء العراقيين في بغداد 1958-1963 وهي عضوة الهيئة الإدارية للمجمع السرياني في بغداد وعاملة في سلك التعليم كمدرسة لمادة اللغة العربية في الإعدادية المركزية للبنات ومن ثم نائبة الممثل الدائم للعراق في منظمة اليونسكو في باريس 973-1975 بعد أن كانت مديرة الثقافة والفنون – الجامعة التكنولوجية – بغداد 1974 …..بعدها هجرت العراق نتيجة الأوضاع السياسية المريبة

واستقرت في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية وترأست تحرير مجلة (مندائي ) ….لأنها تعي أن الفن لا يقف عند حدود التعبير العاطفي والتسلية بل يساهم بشكل فاعل في خلق القيم والذات والواقع بشكل لا يعرف السكون ولا الحدود ….

لميعة عباس عمارة العراقية الأنيقة الوفية لبغداد حملت حقيبة الارتحال وارتحلت محلقة في فضاءات الارض البعيدة بعد أن سطع نجمها في أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات ومازال معلـقاً في سماء الأدب عبر دواوينـها ونتاجـها الذي لا ينضـب ……فهـي صاحبـة

( الزاويـة الخاليـة)1959 مجموعتها الشعرية الأولى التي جسدت شهرتها كشاعرة عراقية متميزة الأسلوب متفردة الاصالة ثم تلتها عودة الربيع 1962 , وأغاني عشتا ر 1969 , فـ( عراقية ) 1971 , و (يسمونه الحب) 1972 , و(لو أنباني العراف) 1980 وأخيرا في ديار الغربة كانت مجموعتها ( البعـد الأخـير ) ….ولها ديوان شعبي (بالعـامية) وقصته كما ترويها الشاعرة (في باريس أن الغريب عندما أتحدث عن بغداد يأتي الشعر عامياً فاسأل نفسي لماذا اكتب بالعامية وانأ المتشددة والمتحيزة للفصحى ؟ ولماذا لا اكتب بالفرنسية دون العامية ؟ فيتبين لي إني قريبة من الشعب بالعامية لذا كنت اهتم بالشعر العامي …

لميعة عباس عمارة والفنانة الكبيرة فيروز

ولميعة عباس عمارة نظمت الشعر بالعامية في سن مبكرة تماشياً مع المحيط وأول نظمها كان أبوذيـة عرضتها على جدها الشاعر وهي :-

تشوف الناس ظاهرتـي وسمنـي

أوما تدري الدهـر طگنـي وسمنـي

على الخديـن محبوبـي وسمنـي

وقد أثار هذا النظم حفيظته فثار عليها ولم يجعلها تنجز قفل الابوذية.. ونظمها بهذا الباب بحكم انتشاره نتيجة الطبيعة الحادة ومعاناة صاحبها وقد استمرت لميعة حتى في حياتها الجامعية ومازالت تنظم بالعامية وقد تسربت الكثير من قصائدها الى الإذاعة وغناها عدد من المطربين منهم فرج وهاب الذي غنى لها ( درويش انه ﭽنت زادي العشب والماي ) وفاضل عواد غنى لها (اشتاﮓ ألك يا نهـر يا لـبردك الجـنة) وغنى سعدون جابر (أرد أسألك :وبحسن نـية محلفـك بالله تـرد) …..وفي كل هذه ألاغاني لم يذكر اسمها كشاعرة للنص .

ولميعة عباس عمارة تمثل نرجسية الأنثى التي تتلذذ برؤية عشاقها فهي شخصية قاطعة …

مرهفة في قطعها مثل حد الموس إذ إحساسها بتفوقها وانجذاب الآخرين إليها جعل ذلك التمرد اعتداداً مفعماً بالأنوثة والكبرياء كما يقول ( ابن عمتها ) الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد …فالحب عندها لا ينحصر ضمن دائرة ذاتية وإنما يمتد إلى أفق عام لا يعرف الحدود

فهي تقول :-

يول اشلون الك رﮔبة ولك طـول

ولـك هيبة التيسرني ولك طـول

اﮔل اليل المسامـر ولـك طـول

مثل ليل الكطه ﭽلـﭽل علي

ولها :-

القصيدة أصعب امن امعسر ولادة

أو عند الشاعــر أبـعزة اولاده

بلعبه أتحصلـت ريـنـو ولاده

وانأ المر سيدس انعزت علـيه

لميعة عباس عمارة والراحل الكبير عبد الزاق عبد الواحد

ولها في الزهيري :-

يسألني وين الصبر …..ﮔـتـلـه يصاحب ذهـب

أو ظل الحزن صاحبي …عـن كل صاحـب ذهـب

من ألف صاحب دغـش … تحظى بصاحب ذهـب

خليه بـﮔـلبك تراهو كل عوض مايلـه

أو لو مال حملك يعـدل بالوفا مـايلـه

الفكر مثل الزرع حلو الحـﭽي ما يلــه

وقلال أهل الثقافة المثل (صاحب ذهب)

أما آخر نتاجها بالعامية فهو (أهازيج مندائية ) منها :-

أمبارك دهفه ديمانه مبارك دهفه ديمانه

وماري ايبارك المندي ويحفظ هذي الديانه

مبارك دهفه ديمانه ([2])

ولها( الجسر المعلق) الذي كانت مولعة به فتكتب عنه بالعامية والفصحى ,ففي العامية قولها :-

ضلعي أحسه المنكسر موش الجسر

يا جسر المعلق أو يا أحلى جسر

يحزام دجلة ايلالي حدره الماي ويوج العصر

يمصافحة صوبين ما مل الرصافة الكرخ من وكت الزغر

يا جسر المعلق ويا أحلى جسر

أما في الفصحى فلها :-

يا ثقل كرخي نجاذبـه

سحر الهوى ووصاله نزر

خلقت جسور الكون موصلة

إلا المعلق أمره أمرُ

ومن قصائدها أن احدهم قرأ كلمة في محفل مملوءة بالا غلاط …وبعد أن انتهى من كلمته قال: ربما أ خطأت بكلمة واحدة لارتباكـي ..فكتبت لميعة هذه القصيدة …

يا حلو يموصَه بالفاعل تكسره

أو ترفع المجزوم والمجرور ما تقبل غلط

أغلط ابكيفك أتدلل

عدلت إذني على (لحنك) حلو

يروحلك فدوه القواعد والنحو

أو ما ﮔالت الأعراب بسنين القحـط

ﮔبل ما عرفك عميت عيوني بالتصحيح

شده أو همزه لو متزحلـﮔـه شويـه النقط

اﮔصب الطلاب …غلطه أبصفر لو ممتاز ما عندي وسط

او لوعرفتك من كبل جا محد بدرسي -ولودﭽـه – صقط

أما فصيح الشاعرة لميعة فيشهد له الشاعر المهجري (إيليا أبو ماضي) اذ كانت الشاعرة ترسل قصائدها له عن طريق والدها المغترب الرسام وصديق إيليا هناك ..فهي بدأت كتابته منذ الثانية عشر من عمرها ونشرت لها مجلة (السمير) أول قصيدة وهي في الرابعة عشر من عمرها وقد عززها إيليا أبو ماضي بنقد وتعليق مع احتلالها الصفحة الأولى من المجلة إذ قال (إن في العراق مثل هؤلاء الأطفال فعلى أية نهضة شعرية مقبل العراق ..)

وهاهي تخترق الأفاق منذ البداية الأولى حتى منبر دار المعلمين العالية وانتهاءاً بالمرابد الشعرية وديار الغربة ..فعنصر التحدي يكمن في داخلها لذا رفضت العباءة وخلعتها بعد أن عايشتها لسنين حتى المرحلة الجامعية .

إنها ثورة ضد المألوف تمثلت في اختراق باب الغزل وكتابة (شهرزاد ) ونشرها في مجلة (البيان ) النجفية لصاحبها (علي الخاقاني) الذي عانـى ما عانـى بسببها .

لميعة عباس عمارة تكتب عن الوطن المتعب وتشارك في المظاهرات الصاخبة فهي جزء من الهم العراقي والفرح العراقي متأبطة الخير دوما فتراها تقول عندما تسال عن موقعها:

انا لم ابدع شيئا

ما انا الا صعلوك يتأبط خيرا

من يخشى صعلوكا لايتأبط شرا

لكن البروفيسور (جاك بيرك) عرفها بنفسها في كتابه الذي صدر في فرنسا عن الشاعرات العربيات فذكرها ونازك الملائكة و فدوى طوقـان

لميعة عباس عمارة شاعرة الرقة والجمال والأنوثة التي لا تنتهي لا تخلو قصائدها من لذعة فحين منحتها الحكومة اللبنانية وسام الأرز تقديراً لمكانتها الأدبية -لم تتسلم الوسـام

( لان الحرب الأهلية قائمة) فكتبت تقول :-

علـى أي صدر أحـط الوسام

ولبـنان جرح بقلبـي يـنام

وهي ترفض الريادة والكلام عن ذاتها – فحين اتصلت بها إحدى المنظمات لتكريمها لكونها من رائدات الأدب ..كتبت قصيدتها التي تعلن فيها عن بيع ريادتها بالمزاد :-

من يشتري مني الريادة..؟

من يشتري مني الريادة ..؟

من يشتري الخمسين بالعشرين .

لا ابغي الزيادة ..

لميعة عباس عمارة قصتها مع شعر الغزل طويلة لا تعرف النهاية.. وقصائدها ما زالت تعبر عن شبابها :-

لو انباني العراف ..

انك يوماً ستكون حبيبي ..

لم اكتب غزلاً في رجل…

فسلاماً للابداع الذي لا ينضب ..وربطة العنق الحمراء التي لاتمل لأنها الأناقة والشباب ..سلاماً لام زكي في ديار الغربة عبر جسور نمدها حروفاً لشاطئك بعد ان دخلتي بيوتنا عبر المنهج الدراسي المقرر عسى أن تعبرين عليها وتعلنين القدوم ويتحقق ما جاء في ديوانك ( البعد الأخير ) ..

([1] ) الزاوية الخالية ص33

([2] ) دهفـة ديمانه = عيد الكون عند الصابئة المندائية (عيد ميلاد النبي يحيى عليه السلام)

ماري = الله

المندي = بيت العبادة

*عن مركز النور

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *