د. علي القاسمي : طرائف الذكريات عن كبار الشخصيات
(13) البستانيُّ الذي جُنّ

إشارة:
“صيّاد اللآلىء” وهو عنوان أحد الكتب المهمة الكثيرة والمتنوعة (أكثر من 50 كتاباً) للمبدع الكبير العلامة الدكتور علي القاسمي ينطبق عليه في كتابه الجديد هذا “طرائف الذكريات عن كبار الشخصيات” ، ففد اصطاد لنا القاسمي من بحر ذاكرته الزاخر وسيرته الحياتية العطرة المكتنزة بالتجارب هذه الذكريات التي تمتزج فيها متعة القراءة بعِبَر التجارب الحياتية البليغة. وقد تكرّمت روحه النبيلة بنشر هذا الكتاب متسلسلاً في موقع الناقد العراقي. فتحية كبيرة له من أسرة الموقع متمنين له الصحة الدائمة والإبداع المتجدد وحفظه الله ذخراً لثقافة وطننا العراق العظيم.

(13)

البستانيُّ الذي جُنّ

انتهيتُ من كتابة أطروحتي للدكتوراه بإشراف الأستاذ الدكتور أرتشبولد أي. هيل في جامعة تكساس في أوستن، وناقشتها في شباط/فبراير 1972. وكان عليّ أن أنتظر حتى آخر شهر حزيران/ يونيو للحصول على شهادة الدكتوراه في حفل التخرّج.

وجدتُ نفسي في فراغ يبعث على السأم، على الرغم من أنني كنتُ ما زلتُ أمارس عملي مساعد أستاذ، أقوم بإعطاء ثلاثة دروس في الأسبوع، وأداوم في المكتب ثلاث ساعات أسبوعياً لمساعدة الطلاب الذين يحتاجون إلى مساعدةٍ علمية. ولكن ست ساعات في الأسبوع وساعات عديدة أمضيها في القراءة ليست كافية لإشغالي.

لهذا ذهبتُ إلى مكتب تشغيل الطلاب في الجامعة وطلبتُ عملاً إضافياً. فأخبروني أن محلاً لبيع شتلات الزهور يطلب المساعدة بواقع عشر ساعات أسبوعياً. ذهبتُ إلى المحل فاستقبلني صاحبه بلطف، ورحّب بي، وقالت زوجته إنها زميلتي في الجامعة على الرغم من أننا لم نلتقِ. فهي تواصل دراساتها العليا في علم النفس. ووجدتُ طالباً آخر من نفس الجامعة يعمل في المحلِّ نفسه؛ إضافةً إلى اثنين من الأمريكيِّين السود اللذين يعملان بصورةٍ دائمة في المحلِّ.

كان صاحب المحل لطيفاً جداً. ولما كان معظم زبائن المحلِّ هم من علية القوم الذين يملكون الفلل (الدور الفخمة) ذات الحدائق التي تحتاج إلى شتلات الأشجار والزهور، فقد كان صاحب المحل يتحدّث إليهم فيما نقوم ـــ نحن العاملين ـــ بحمل الشتلات التي اشتروها إلى سيّاراتهم الخاصّة. وكنتُ أسمعه يقول لبعضهم أحياناً، إن الشاب الذي يخدمك الآن هو طالب دكتوراه من العراق. هل تعرف أين يقع العراق؟

ذات مرّة طلب مني أن أرافقه إلى قصرٍ من قصور أحد مليونيرات البترول في تكساس، حيث سيقوم بتخطيط جزءٍ من حديقة القصر. وقال لي إنه يصطحبني لمجرَّد أن أرى كيف يعيش هؤلاء المليونيرات.

ومرّة كنتُ أتحدَّث مع زوجته، فسألتها لماذا اختارت أن تدرس علم النفس، فأخبرتني قصَّةً حزينة مفادها أنها عندما تزوَّجت لم تُرزَق بطفل، ولم يتمكَّنوا من تبنّي طفل بصورة قانونية، لأنَّ جمعيات التبني كانت تحرم الزوجيْن من التبنّي إذا كان أحدهما مطلَّقاً سابقاً، لضمان استقرار الطفل المُتبنى. ولهذا اضطرت هي وزوجها إلى تبني طفلة كانت أمها قد حملت بها بصورة غير شرعية وتريد التخلص منها. وهكذا دفعوا لها مصاريف الولادة في المستشفى ودفعوا لها مبلغاً آخر، وأخذوا الطفلة. وبعد سنة أو سنتيْن تبين لهم أن الطفلة متخلِّفة عقلياً، ربما لأن أمها حاولت التخلص من حملها فأضرت بها. وقد أودع الزوجان الطفلة في أحد المصحَّات الخاصة بالأطفال المعاقين، ويقومان بزيارتها مرَّةً في الأسبوع ويُنفقان عليها. وقد تخصّصت السيدة في علم نفس المعاقين لمساعدة الأطفال مثل طفلتهما المتبناة.

بعد شهرين أو ثلاثة لاحظتُ أن نبرة صاحب المحل أخذت ترتفع، وأخذ يهاجم بشدة الرئيس الأمريكي ريتشارد نكسون أثناء الحملة الانتخابية عام 1972. وذات مرَّة حمّل شاحنته الصغيرة بمنشورات تهاجم الرئيس نيكسون وطلب من أحد العاملين مرافقته كي يقوما بتوزيعها في المدينة. وبعد يوميْن أو ثلاثة، طلبتْ منا زوجته أن نخبرها بأية تعليمات تصدر من زوجها ولا تبدو معقولة. وبعد أسبوع أُدخِل صاحب المحل المستشفى للعلاج، وشاع بيننا أنه جُنّ.

رأيتُ زوجته على انفراد وسألتها عن حالة زوجها وما إذا كان عليّ أن أعوده في المستشفى. قالت لي زوجته: ليس الآن، فهو يعاني من حالة اضطراب نفسي تصيبه بين آونة وأخرى. وعندما استفسرتُ عن السبب، قالت: إن زوجها كان طياراً في الحرب العالمية الثانية. وعندما استسلمت ألمانيا، استمرَّت بعض الطائرات بقصف المناطق الألمانية انتقاماً. وكان زوجها ينفذ تلك التعليمات في ألمانيا بالقرب من الحدود الألمانية السويسرية، عندما أخطأ الهدف وقصف قريةً سويسريةً مسالمة، فتسبّب في مقتل بعض الأطفال. ومنذ ذلك اليوم، تصيبه بين آونة وأخرى كوابيس مرعبة في الليل. ويعالَج في المستشفى.
قلتُ لها: أهنؤك، سيدتي، فزوجك إنسان كامل الخلقة، أمّا كثير من الكبار في بلادي من سارقي الخبز من الأطفال ، فإنهم ناقصو الخلقة، يعوزهم الضمير.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *