جبير يودّع سعد محمد رحيم بسبر غور سردياته
عندما يصبح الناقد مستقصياً
عبد اللطيف الموسوي
ينطوي كتاب (الرواية الاستقصائية – تأصيل المصطلح وتطبيقاته) للناقد المعروف والمتجدد محمد جبير الذي اتخذ من الروائي الراحل حديثاً سعد محمد رحيم أنموذجاً على مفارقة تعد من النوادر التي قد لا تجد لها مثيلاً في الكتب النقدية الا ما ندر فضلاً على اهمية المادة التي تضمنها الكتاب وجدتها. المفارقة التي اتحدث عنها تتمثل في ان ناقدنا الذي خصص كتاباً كاملاً لسرد الروائي موضوع الدراسة لم يسبق له أن قرأ شيئاً من اعمال الأخير الا قبل مدة وجيزة من تاريخ شروعه بتأليف كتابه ربما لاتتجاوز اشهرا قليلة مع ان العمر الادبي للروائي الراحل لم يكن قصيراً إذ يمتد الى ثمانينات القرن المنصرم .. وهذا امر مهم ينبغي للمراقب ان يأخذه بالحسبان لأنه يمنحه ويمنح المتلقي مؤشرات جديرة بالملاحظة بشأن عمليتي النقد والفن الابداعي عموماً . في ما يتعلق بالنقد فإن ناقدنا امتلك الشجاعة الكافية ليعترف بأنه لم يقرأ لرحيم الا في العام 2016 عندما اثارت اهتمامه رواية مقتل بائع الكتب التي قفزت الى اللائحة القصيرة لمسابقة البوكر العالمية لكنه يستدرك (لا أعد ذلك مثلبة في اهتماماتي القرائية للنص الروائي العراقي منذ مطلع سبعينات القرن الماضي حتى يومنا هذا، واختزنت ذاكرتنا الكثير من النصوص الابداعية لرموز الابداع العراقي على مدى مايقرب من مئة عام هو عمر الرواية العراقية منذ ظهور رواية ” جلال خالد- محمود احمد السيد” حتى يومنا هذا وما شهده هذا التاريخ من مثابات ابداعية متميزة، فقد كانت هذه القراءة اكتشافاً لمثابة سردية عراقية جديدة حفزت للبحث والاكتشاف في نصوص اخرى للكاتب وهذه هي الميزة الايجابية والحقيقية للنص الابداعي في الحث على اكتشافات اخرى). واذا كان ناقدنا يرى ان تأخره في القراءة لرحيم قد حفزه للبحث والتقصي في اعماله السابقة وقد عاد ليقرأها قبل أن يشرع بدراسته القيمة هذه، فإنني اعتقد ان وصول مقتل بائع الكتب الى لائحة البوكر هو ما حفز ناقدنا ليقرأ هذه الرواية اشباعاً لفضوله النقدي اولاً أو لأنه ربما قد شعر بالتقصير ازاء هذا الكاتب إذ لم يقرأ له من قبل كما لم يعره اهتماماً. أي ان الناقد كان بحاجة الى تحفيز. وبطبيعة الحال ان هذا الامر يبدو منطقياً وسط هذا الكم الكثير من الاصدار السردي والعدد غير الطبيعي للروائيين الذين ملأوا الساحة بعد 2003 ما يجعل الناقد العراقي خصوصاً، المنشغل اصلاً بمتاعب الحياة وهمومها، في موقف محرج لأنه قد لا يستطيع ان يتابع الجميع ويقرأ للجميع. ربما ان الشعور بالذنب دفع في ما بعد جبير الى الاسراع في طبع هذا الكتاب المهم على نفقته الخاصة بعد الرحيل المفاجىء للروائي سعد محمد رحيم ليكون خير وداع لهذا الانسان النبيل الذي احزنت وفاته اصدقاءه ومحبيه وشكّلت صدمة في
الوسط الثقافي الذي كان ينتظر الكثير منه لاسيما بعد تحقيق رواياته الاخيرة اصداء طيبة لدى المتلقي. اعتقد شخصياً ان هذا الكتاب النقدي الذي بين ايدينا كان يمكن ان يدخل السرور والبهجة الى قلب رحيم اكثر من أي كتاب آخر لا لكونه يتحدث عنه شخصياً وانما لما تضمنه من مادة نقدية اثرائية جديدة في نمطها فهو يربط بين الرواية الاستقصائية وبين الصحافة الاستقصائية ليكون محتواه محل اهتمام فئتين من المبدعين : الروائي والصحفي. لكن قدّر الله وماشاء فعل فلم يُكتب للروائي الراحل أن يقرأ آراء وتقصيات جبير في سردياته وهي مطبوعة في كتاب يكاد يكون متكاملاً من جميع النواحي المضامينية والفنية اذ حـــرص مؤلف الكتاب على ان يكون الاخراج الفني والطـــــباعة بأفضل صورة .
استهل الناقد دراسته الصادرة عن دار فضاءات الفن للنشر والتوزيع – بغداد- باستعراض جميل لظهور الرواية عموماً ولمراحل الرواية العراقية التي قسمها الى خمس مراحل الاولى هي مرحلة مابين الحربين العالميتين التي شهدت صدور 34 عملاً روائياً عراقياً والمرحلة الثانية هي مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية حتـــــــــــــى تموز 1958 ورأى انها مرحلة التأسيس للرواية العراقية والعربية عموماً وصدر خلالها 78 رواية. والثالثة تمتد من تموز1958 حتى احتلال العراق في 2003 وشهدت صدور 615 عملاً والمرحلة الرابعة تمتد من 2003 الى 2014 وظهر خلالها 480 عملاً والمرحلة الخامسة هي مرحلة مابعد احتلال الموصل 2014 …… وتوقع المؤلف ان تشهد هذه المرحلة صدور روايات توثّق جرائم تنظيم داعش خلال احتلاله عدداً من مدن العراق. ولا أدري .. ربما اختلف مع ناقدنا بشأن تقسيمه هذا وتحديداً المرحلتين الاخيرتين اللتين يمكن ان تكونا مرحلة واحدة لا سيما ان الظروف العامة ما بعد احتلال الموصل لم تتغير كثيرا عما كانت عليه قبل احتلالها، فداعش غمامة وقد زالت ان شاء مع ان اثرها لن يمحى بسهولة والمبدع العراقي تناول وسيتناول بالتأكيد هذه المدة الزمنية التعيسة من تاريخ العراق. لكن هذه الحقبة قد لا تشكّل تأثيراً ذا بال في المبدع وعمله كما هو شأن المراحل الاربع السابقة فأي عمل ابداعي اليوم يمكن ان يكون متأثراً بحقبة ما بعد الاحتلال الامريكي وارهاصاته بشكل عام وداعش ما هو الا احدى نتائج هذا الاحتلال ومخلفاته. عموماً ليس هذا بالامر المهم كثيرا فالتقسيمات والتعريفات قابلة للنقاش وعرضة للإختلاف في وجهات النظر وليس هناك من محددات لا يمكن تجاوزها. والحق
اقول ان جبير ابهرني بدراسته هذه وبما احتوته من دقة ودراية وحرفنة بل لا اغالي إذا قلت ان هذه الدراسة على وجه التحديد – ودراساته الاخيرة عموما – تضع جبير في مقدمة النقاد العراقيين الذين اتحفوا المكتبة العربية بالدراسات القيمة المفيدة . كما ان غزارة انتاجه في السنوات الاخيرة لم تكن سلبية ولم تكن على حساب الجودة وهو امر غالباً ما يقع فيه المشتغلون في الحقول الابداعية . ولا اخفيكم سراً انني كنت استعد للكتابة عن كتابه الاخير – أصبح الآن، ما قبل الأخير – الذي تناول فيه رواية احمر حانة لحميد الربيعي الذي كان عبارة عن تطبيق اجرائي ممتع فهو الآخر ومهم ايضاً لكنني فوجئت بمؤلفه الجديد الذي بدا متحمساً له ايما حماسة. ووفاءً مني لروح المبدع سعد محمد رحيم آثرت الكتابة أولاً عن الكتاب الذي يتناول اعماله على ان اعود في ما بعد – ان شاء الله – لدراسة محمد جبير عن احمر حانة التي اثارت انتباهي هي ايضاً لتكون لي معها وقفة ايضاً بعونه تعالى…