وليد غالب : النخلة والجيران (ملف/17)

إشارة :
تمرّ الذكرى الخامسة والعشرون على رحيل المبدع العراقي الكبير غائب طعمة فرمان بلا احتفاء يليق بقامته الروائية العظيمة . تفتتح أسرة الناقد العراقي هذا الملف كمساهمة في هذه الذكرى ، وتدعو الأخوة الكتّاب والقرّاء إلى المساهمة فيه بما لديهم من بحوث ودراسات ووثائق وذكريات عن الراحل الكبير .. وسيكون الملف مفتوحا من الناحية الزمنية حيث لا حدود زمنية للإبداع العظيم.
النخلة والجيران
وليد غالب

ربما يكون من أصعب الأشياء المجيء بجديد عن رواية تُعد من أبرز الروايات العراقية والعربية، بالذات عندما يكون قد مر على صدورها أكثر من نصف قرن، لكن لا بأس بالمحاولة.

صورة واقعية عن البغداديين
تحدث أحداث رواية “النخلة والجيران” لغائب طعمة فرمان في نهاية الحرب العالمية الثانية أثناء انسحاب الجيش الإنكليزي من العراق، وتتحدث عن أوضاع المجتمع البغدادي بالذات والعراق بشكل عام، وما حصل له من جوع وانعدام فرص العمل وفقدان الأمل بحياة أفضل.  طبعا. من الممكن بسهولة اختصار فكرة الرواية بهذه الأسطر، لكن “الإبداع” يكمن في التفاصيل.
مكان الرواية الأبرز
بيت سليمة الخبازة بغرفه المظلمة ونخلته القميئة، وطولة الحاج أحمد آغا التي هي “قطعة من الأرض مستطيلة مسورة بصفائح مضلعة متآكلة بلون الحناء.. ص 37”. مكانان يوحيان بخراب ويأس بشكل واضح جدا.
تتحدث الرواية أيضا عن طبقتين إجتماعيتين في بغداد تلك الفترة يبدو أن لا ثالث لهما في رواية “النخلة والجبران”، طبقة مرتاحة وطبقة مسحوقة، يحددهما غائب طعمة فرمان بمشهدين أثناء سقوط المطر، ففي المنطقة المسحوقة يكون تساقط المطر “كأن السماء قربة هائلة فانشقت… عاشوا في رعب الغرق وتداعي البيوت… انقطعوا عن العالم الخارجي.. ص 152”.. بينما تجد المطر في المناطق المرتاحة “ونزل المطر في الكرادة أيضا، لم يكن مثل قربة انشقت، بل مثل الخراطيم التي ترش بها الحدائق.. ص 156” أيضا “في بيت الخالة نشمية غسل المطر البيت غسلا جيدا.. ص 157”.. ومن الممكن بسهولة ملاحظة الفرق بين المدينتين وما فعله بهما المطر.

الراحل الكبير غائب طعمة فرمان بريشة المبدع فيصل لعيبي

أما من ناحية العلاقات الإجتماعية – كما رسم فرمان في روايته – فيبدو أنه يرى أن المناطق الشعبية تمتاز بطيبة بعكس المناطق المرتاحة، فعندما تحلم رديفة بالخلاص من المحلة البائسة بتخيّل بيت كبير، تسألها بنتها عن الناس الذين سيأخذونهم معهم ويصل السؤال لخيرية عدوّة رديفة اللدود:
–  وخيرية الحكومة الله يسلمها؟
–  شنو شنو.. هذا حوش مو خان، قالت رديفة بعصبية
–  وتظل وحدها بالحوش؟
–  خلي تظل
– ولما تمطر الدنيا تطلّع الماي وحدها؟
تأفأفت رديفة في ضيق ثم قالت:
–  زين ناخذها بس لازم تبطل من حچايه الحكومة الله يسلمها…] بينما في الجانب الآخر نجد أن سليمة الخبازة سُرقت في ذاك الصوب – يقصد الكرخ – وفي الكرادة علّمت نشمية تماضر على التمرد وباعتها، وأيضا فإن حسين ضُرب وطرد من بيت نشمية في الكرادة أيضا. بل أن حسين لم يقتل محمود أبن الحولة إلا “أوتيل الأمراء”. كذلك فإن ابن الحولة ومصطفى كانا كثيرا التردد على “ذاك الصوب” في الرواية. وكانت شخصياتهما شريرة جدا.
مقتل الملك غازي
 زمن الألم والضياع العراقي – متمثلا بسليمة ونخلتها – الذي تتحدث عنه الرواية هو بالتحديد منذ العام 1939 وحتى 1945 أي خلال مدة الحرب العالمية الثانية بالضبط، نستطيع أن نعرف ذلك من خلال فقرتين في الرواية.
الأولى: في صفحة 140-141 يقول الروائي على لسان مصطفى الدلال “راح.. كل شي راح، الصرماية راحت والإنگليز راح يطلعون” والمعروف أن خروج الإنگليز الثاني من العراق كان في العام 1945 نهاية الحرب العالمية الثانية.
والثاني: في صفحة 18 تقول سليمة الخبازة معاتبة إبن زوجها، حسين “هذا حگ السنين الستة الي ربيتك بيهن” وبطرح 6 سنوات من العام 1945 يكون الناتج 1939.

ماذا حصل في العام 1939؟!
أحد أبرز الأحداث العراقية في هذا العام هو مقتل الملك غازي بحادث سيارة غريب ومفاجئ – اصطدمت سيارته الشخصية بعمود كهرباء فمات – يقول مصطفى في ص 46 “المستقبل راح من مات أبوية” وفي صفحة 187 يظهر مشهد (مقتل) أبو حسين – مرويا بلسان الراوي العليم – مشابها لغرابة مقتل الملك غازي “ذات يوم جاء من المدرسة فقالوا أن سيارة أبيه اصطدمت ودخلت في دكان حلاقة فقتل”.
أظن أن فرمان يريد أن يقول أن “المستقبل راح” بمقتل الملك الشاب المعارض لحكم الإنگليز، لذا نجده يقول عن حادث والد حسين [قُتل] دلالة على التعمد. ولم يقل توفي.
***
دفاعا عن سليمة:
يعتقد الناقد الفلسطيني فيصل درّاج الموجودة كلمته في مقدمة رواية النخلة والجيران طبعة العام 1988 مطبعة الفارابي، وأيضا في طبعة مؤسسة المدى – 2009 طبعة ثانية – أن شخصيات الرواية متشابهة “وتبرهن سليمة أنها نسخة اخرى عن نشمية، وتبرهن هذه أو تلك أنها مرآة لحسين .. ص 10”.. طبعا من الظلم الكبير عدّ شخصية سليمة مشابهة لبقية شخصيات الرواية. فمن هي سليمة الخبازة في رواية النخلة والجيران؟

مشهد سليمة الخبازة الأول:
– لعد وين راحت الفلوس عيني؟ .. وين؟
أول جملة لسليمة الخبازة تخبرنا أنها كانت تُسرق من الشاب حسين إبن زوجها، ومع إنها كانت تعرف فعلا أن حسين يسرق نصف ربحها من أموال الخبز، لكنها لم تكن تأخذ أي رد فعل، كانت تندب حظها وتسكت، وأحيانا تكتفي بالبكاء “هيچي حسين هيچي؟ هذا حگ السنين الستة اللي ربيتك بيها، حگ السنين اللي گظيتها بالخبز حتى أسويك هلكبر؟.. روح خلف الله عليك.. ص 18”.
سليمة الخبازة، المرأة الراضية القانعة المستكينة، التي لم تتخذ موقفاً من أي شيء كانت “مطحونة مدحورة، عاجزة لا تعرف كيف تصب ما في أعماقها الملتهبة في كلمات.. ص 18″، التي تعيش “باستسلام موروث.. ص 22” التي “لا تعرف كيف يستخدم الإنسان عقله.. ص24”. التي لم تتحقق لها أية أمنية حلمت بها؛ ابتداءً بحلمها بالحصول على الفرن والعيش برخاء كما أمّلها مصطفى الدلال، وليس انتهاءً باشتهائها للفجل فجأة وعدم قدرتها على الحصول عليه “وركضت إلى الباب تدعو بائع الفجل، كان الشارع مملوءا بالأطفال ولا أثر لبائع الفجل.. ص 32”..
التي تعيش بعد وفاة زوجها وحيدة فتبكي بكاءً مراً ليلة العيد، وتبقى وحيدة لآخر الرواية وتصاب بالحزن لأنها تكتشف أن حسين إبن زوجها لا يعتبرها الوحيدة في حياته حين يقول لها “ما عندي أحد بالدنيا بعد غيرچ” فتسأله وهي تشرب دموعها:
– وين چان عندك غيري؟!
-‏ چانوا.. صاحب وناس غيره..
وتملكتها نوبة جديدة من البكاء، وكأنها تألمت أن يكون له آخرون، كأن شيئا من الغيرة دبّ في صدرها
سأحاول أن أوضح لكم ملامح شخصية بطلتنا ومقارنتها بشخصية نشمية من حوارات الرواية.
***
هيئة سليمة الخبازة
في أول لقاء بين سليمة وحسين كانت سليمة ترتدي ملابس العمل “قالت وهي تخلع ثوب الخبز الأسود.. ص17”.. “جلست على الأرض بعد أن خلعت الجوربين الأسودين اللذين تضعهما في ذراعيها اتقاء النار، وثوب الخبز الأسود الذي صلبه العجين.. ص31″ كانت يديها خشنتين وقدميها حافيتين” إيدي يابس عليها العجين ورجليه حافية.. ص 19″..
هيئة الخالة نشمية
في أول لقاء بين الشاب حسين والخالة نشمية نلاحظ هيئة نشمية حيث تبدو عليها علامات الترف ففي الصفحة 53 نجد الوصف التالي “استقبلتها الخالة نشمية بثوبها الهاشمي الفضفاض الأسود، الذي يشف عن قميص داخلي أزرق، وفوطتها تتهدل على صدرها، إمرأة ناء جلدها بما يحمل من لحم وشحم”.. وطبعا من الممكن ملاحظة انكسار سليمة وقوة نشمية حتى من طريقة جلوسهن، فسليمة تجلس متعبة على الأرض، بينما نشمية “جلست متربعة على التخت.. ص53”.
***
سرقة وسكوت
– لعد وين راحت الفلوس عيني؟ .. وين؟
– اشمدريني هذا بنطلوني تعالي دوريه..
أول جملة لسليمة الخبازة تخبرنا أنها كانت تُسرق من الشاب حسين إبن زوجها، ومع إنها كانت تعرف فعلا أن حسين يسرق نصف ربحها من أموال الخبز، لكنها لم تكن تأخذ أي رد فعل، كانت تندب حظها وتسكت، وأحيانا تكتفي بالبكاء “هيچي حسين هيچي؟ هذا حگ السنين الستة اللي ربيتك بيها، حگ السنين اللي گظيتها بالخبز حتى أسويك هلكبر؟.. روح خلف الله عليك.. ص 18”.
لكن الروائي يخبرنا أن سليمة كانت بالفعل تعرف أن إبن زوجها يسرقها “ولو فتشته لرأت ثلاث دراهم في جيبه.. ص 113”.. “ضاع الحساب فلا تعرف كم سرق.. ص30”.
***
سرقة وسكوت أيضا
يقول مصطفى لسليمة الخبازة “ثلاثين دينار.. إذا عندچ ثلاثين دينار هسه أسويچ شريكة ويه واحد أرمني عنده فرن بذاك الصوب.. ص 26” بعد صفحات نكتشف أن سليمة الخبازة أعطت مصطفى الثلاثين دينار حالمة بالغنى والراحة “زين عيني إذا هيچ تعال بعد يومين تشوف الفلوس حاضرة.. ص 28″، فيأخذها مصطفى لفرن الأرمني ويصرّ على كتابة وصل أمانة بالمبلغ، لكن القارئ سيلاحظ أنها بعد مدة عرفت أن مصطفى يسرقها، ومع ذلك سكتت كما سكتت مع سرقة حسين لها “إنت من الأول ناوي تلعب عليّ.. تتذكر الوصل اللي كتبته..  إش مكتوب بيه غير بسم الله الرحمن الرحـيم.. عبالك ماكو واحد يقرا غيرك.. ص 172”.
من هذين المشهدين نكتشف إن أبرز صفتين في شخصية سليمة الخبازة هي أنها راضية ومستسلمة لكل شي، حتى لو سُرقت من أقرب الناس لها، حتى بعد أن تعرف أنها تسرق فإنها تبقى راضية.
في المقابل فإننا نجد أن شخصية الخالة نشمية، هي شخصية لا يمكن أن تُسرق، بل إنها تؤمّن نفسها احتياطيا، وهي إذا لزم الأمر تبتدئ بضرب حسين حينما حاولت طرده من بيتها “وكأنها أحست ما في قلبه فعالجته بلطمة على وجهه.. ص186”.. وهي بعكس سليمة تماما لا يمكن أن تسمح لأحد بخداعها “گوم اطلع. عبالك نشمية غشيمة تذب فلوسها بالشط؟ گوم اطلع.. ص 185”. بل إنها حتى بعد أن يعطيها حسين نقودها ويطلب الكمبيالات التي وقعها لها ترفض اعطاءها له “الكمبيالات اخليها عندي.. ص 193.
***
مشهدان للفجل
المشهد الأول: بعد أن يقوم مصطفى الدلال بإقناع سليمة بإعطائه مبلغ 30 دينار لجعلها تدخل شريكة في فرن، وبعد أن يُزيّن لها الدنيا ويأملها بالخلاص من الحياة المريرة التي تعيشها، وأنها حتى تربح عليها أن تطور مهنتها، يقطع الروائي غائب طعمة فرمان هذا الحوار بمرور شخصية عابرة توقف الكلام الجاري بين مصطفى الدلال وسليمة “سَمَع صوت بائع الفجل في الشارع، فتوقف عن الكلام، وقالت سليمة: هذا يا فجل والناس كلها تعشت.. ص 25”.
المشهد الثاني: في صفحة 32 تتذكر سليمة كلام مصطفى الدلال وهي تأكل ما بقي من طبق حسين إبن زوجها “قال لها أفكار داخ لها رأسها، بالأمس تحدث عن الذهب والنوم إلى الظهر، والفلوس تأتي وهي قاعدة في مكانها”.. وبعد صفحات تلقي سليمة الثريدة من يدها لأنها اشتهت الفجل”وركضت إلى الباب تدعو بائع الفجل، كان الشارع مملوءا بالأطفال ولا أثر لبائع الفجر، فعادت مغمومة.. ص 32″.
في هذين المشهدين يخبرنا فرمان حالة سليمة، فكأنه يقول لنا إنها لن تجني أرباحا ولن تنام إلى الظهر، لأن كلام مصطفى معها لم يكن سوى نفخ، تماما كما ينفخ الفجل آكله، “متشتغلين گاعدة بمكانچ وحصتچ تجيچ”.. “تنامين للظهر وتجيلچ الفلوس الحلوة.. ص 26”. ويخبرنا في المشهد الثاني أيضا أن أبسط أماني سليمة الخبازة لن تتحقق حتى وإن كانت تافهة كباقة فجل..
أما من ناحية نشمية فإن الروائي يجعلها تحقق كل ما تريد فهي تقول عن أهلها بتحدي “شوفتهم نجوم الظهر.. ص 56” وهي تقول شيئا وتضمر آخر “وفي سرها قالت بعده أخضر.. شوارب ما عنده.. ص 88”. بل إنها عندما تعطي لحسين نقودا تقول له “لازم تمضي لي كمبيالة وگدام شهود وأعرف أصلك وفصلك.. ص 106”.
***
مقارنة أخيرة
أيضا من ضمن أبرز صفات سليمة الخبازة هو تصديقها بكل ما يقال لها أول وهلة، فهي لا تشك بأحد، فمثلا عندما يخبرها مصطفى أن الإنگليز ليسوا أعداء تُصدق ولا تعترض، في حين أن القارئ يجد أن نشمية تمتلك نظرة سياسية – انتهازية – نوعا ما فنجدها تقول لحسين “ومن يعرف باچر شيصير بالدنيا.. البارحة چنه ويه هتلر واليوم ويه الإنگليز.. وباچر ما أعرف ويامن راح نصير.. ص 105”.
بعد كل هذا، كيف يمكن اعتبار أن سليمة الخبازة الراضية المستكينة المُصدّقة لما يقال لها، والتي تحمل مشاعر الأمومة والتي تبكيها الوحدة القاتلة، تشبه نشمية القوية المستبدة عديمة المشاعر.
هاتان الشخصيتان مختلفتان تماما، ولا ربط بينهما حتى في الأحلام أو المصير، شخصيا اعتقد أن الناقد فيصل درّاج لم يكن منصفا لسليمة الخبازة.

***
السياسة في النخلة والجيران
أجمل ما في رواية النخلة والجيران أنها استطاعت أن تبيّن اتجاهات الناس السياسية من دون أن تتحدث بالسياسة بشكل مباشر، بمعنى أن القارئ لا يجد حوارا سياسياً عميقا بل لا يجد أصلا شخصية ذات همّ سياسي تستطيع أن تتحدث في السياسة.
سأحاول أن أتحدث من خلال مشهدين بارزين في الرواية عن الاتجاهات السياسية واستغلال الدين فيها كما رسمها فرمان في عراق الأربعينيات.

استخدام الدين سياسيا في لقاء مصطفى وسليمة:
لو أردنا تحليل شخصية مصطفى شكلاً وكلاماً – في مشهد لقائه الأول مع سليمة الخبازة – فإننا نجده قد استخدم معها الإيحاء الديني في إقناعها أن الحرب والإنگليز ليستا بلاء أسود، تقول له: “هي حرب لو بلاء أسود.. ص 22” لكن من خلال جُمل وحركات أوحت لها بأنه – أي مصطفى – بمسبحته رجل يحمل الكثير من الدين، فنراه في لحظة واحدة، يخبرها أن الحرب ليست سيئة كما تعتقد، إنما هي فقط بلاء من الله “الحرب بلاء من الله” فتجيبه “باستسلامها الموروث: إرادته.. ص22”.
يستمر مصطفى بإقناع سليمة بوجهة نظره “معلوم إرادته.. بس شلون يذل من يشاء ويعز من يشاء، يفقر من يشاء ويغني من يشاء، انت سامعة قول الصحابة: مصائب قوم عند قوم فوائد” ومع إن المنطق الإنتهازي واضح في كلام مصطفى ومع إن جملة “مصائب قوم” ليست من أقوال الصحابة أساساً، إلا إننا نجد أن سليمة تستسلم كالعادة،  لأنها خُدعت – كأغلب البسطاء – بالمظهر الديني ولأنها رأت “في كلامه نفحة إيمان.. ص22”. ولأنها أيضا رأت في شكله وحركاته شيئا من هيئة رجال الدين “ضحك ضحكة الملالي.. قرقرة في الحنجرة وسكون في الجسم.. ص 23”.
طبعا، من الممكن إيجاز أسلوب مصطفى – أو أي إنسان يستغل الدين – مع سليمة الخبازة – أو أي إنسان بسيط – بعدة خطوات:
أولا: إقناعها شكلا ومضمونا أنه يتحدث بكلام ديني يصعب عليها تقييمه “تطلعت إليه مستفهمة، في كلامه نفحة إيمان وشيء كثير يعزّ عليها فهمه.. ص 22”.
ثانيا: محاولة زعزعة القناعات، فبعد أن يفهمها أن المال والحرب هما بتقدير إلهي، لأن الله “يغني من يشاء” و”الحرب بلاء من الله”، يبدأ بترديد كلام انتهازي عن قيمة الإنسان “الدنيا ما بيها غير الفلوس.. وبعدين يجي الدين والشرف والأخلاق.. ص 23”.
ثالثا: صرف النظر عن العدو وتجميل صورة المحتل. فلأنه يريد أن يتعاون مع الإنگليز ويحقق فائدة مادية منهم، فهو يصرف نظرها عندما تقول له باستنكار “خوش! أشتغل ويه الإنگليز هلمرة”، يجيبها “وإنت شجايبچ عليهم، الفلوس تجيچ حاضرة.. ص 27”. في هذا المشهد، مصطفى الدلال لا يريد من سليمة سوى موافقتها التي تعني “قبولاً أولياً” للمحتل، لكننا نجده بعد صفحات لا يكتفي بصرف النظر هذا، بل يستمر بإقناعها أن الإنگليز أشخاص طيبون، وبعد موافقتها أن تدخل شريكة في الفرن الذي يعتمد في بيعه على الإنگليز، نلاحظ تغير أسلوب مصطفى الدلال الديني مع سليمة، حيث أن القارئ يلاحظ أن فرمان جعل سليمة تدافع بحماس عن الصمون، تقول لجارتها ” الخبز مو أحسن من الصمون آني خبازة وأعرف” بل إننا نجد بعدها أن رأت الفرن “أخذت تؤمن بالصمون إيمانا عميقا.. ص 61”.. ويؤكد مصطفى استغلاله لسليمة وإيقاعها في الفخ تماما، فبعد أن يعطيها دينارين من أرباح الفرن ويستشعر الفرحة في وجهها يقول “أم حسين، لوما الإنگليز چا هسه ميتين من الجوع.. ص 94”.

استخدام الدين سياسيا في لقاء مصطفى وصاحب:
صاحب أبو البايسكلات هو الشخصية الإيجابية الوحيدة غير المشوهة في رواية النخلة والجيران، فهو كان يدعو حسين إلى إكمال دراسته حتى لا يضيع مستقبله “إذا دخلت المدرسة ميروح.. ص 46″، وهو أيضا شجاع لا يخاف من شقي المنطقة إبن الحولة، بالاضافة إلى أنه شخص أمين لأنه يرفض مد يده لأموال حسين التي كان يدخرها لديه برغم حاجته “البارحة استحقت عليّ كمپياله لحسقيل الياهو.. وما هلني آخذ فلس منها.. ص 82”.. صاحب الرجل التقدمي الذي يتمنى بناء “مدرسة للبنات.. ص 78” بدلا عن طولة الحاج أحمد.
هذه هي ملامح شخصية صاحب كما رسمها فرمان.
الآن لننظر لهذا الحوار بين صاحب ومصطفى في صفحة 127 حيث يُظهر به فرمان تفوّقاً وذكاءً لصاحب:
“هز مصطفى رأسه في عرفان وقال:
–  راح يبنون معمل جگاير..
–  ‏مو يگولون دنيا حرب! .. ص 127” الروائي يمرر هنا فكرة أن الحكومة كانت تبني مشاريع لا تخدم المواطن، فما الغرض من بناء معمل سكائر لشعب يعاني الجوع!
يستمر فرمان برسم هذا الحوار البديع المليء بالمعاني بين مصطفى وصاحب، فبعد إصرار صاحب على فكرة طرد الإنگليز “بس هلمره راح نطلعهم بدينه.. يراد الها رميثة” ويحاول مصطفى المناورة بتحويل الحوار إلى الدين – كما فعل مع سليمة – يقول: “هسه بدل منلتهي بالإنگليز نلتهي بشي آخر.. الدين مثلا.. ص 128” فأي شيء ممكن أن يُقنع ويغير أو يخدّر أفكار البسطاء غير الدين؟!
لكن مصطفى الدلال يتفاجئ بأن هذه الجملة السابقة التي قالها، لا تفعل فعلها مع صاحب، ولم تصرف نظره عن الإنگليز، يجيب صاحب – متجاوزا كلام مصطفى عن الإلتهاء بالدين – “همّ أصل كل بلاء” يستمر الحوار ويتمسك صاحب بموقفه فالإنگليز عنده هم سبب الغلاء، “وهم يشيلون خطية كل مريض.. كل فقير.. ص 129”.
***
العبقري غائب طعمة فرمان رسم علاقة استغلال الدين في إقناع البسطاء سياسيا على قبول المحتل بل والإقتناع به، من خلال علاقة مصطفى الدلال وسليمة الخبازة. وبنفس البراعة رسم عجز الخداع بالدين أمام الشخصية المتنورة من خلال كلام صاحب..
عبقرية فرمان تكمن أيضا في أن شخصياته التي رسمها في النخلة والجيران ما زالت حية.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *