العمل والإتصال 1/2
موريس بلانشو*
ترجمة: حسين عجة

العمل والإتصال 1/2
موريس بلانشو*
ترجمة: حسين عجة
1-
اقرأ

القراءة: في كراسة الدرب لكاتب ما، لا يدهشنا العثور على اعترافات من النوع التالي: “كلّ يوم نفس القلق في لحظة الكتابة…”، وحينما يحدثنا لوماسو Lomazzo عن الهلع الذي كان يستولي على اليونارد Léonard، في كلّ مرة كان يرغب فيها بالرسم، هذا أيضاً، نحن نفهمه، لدينا شعور مُسبق بأننا سنكون قادرين على فهمه.

لكن إذا ما قال لنا أحدهم: “يستولي عليَّ القلق دائماً في لحظة القراءة”، وآخر لا يستطيع القراءة إلاّ في بعض اللحظات الاستثنائية، أو ذلك الذي يقلب كلّ حياته، ويتخلى عن العالم، عن الشغل وسعادة العالم، لكي يفتح لنفسه طريقاً نحو القراءة لبضعة لحظات، لا شك بإننا سنخصه بمكان قريب من مريضة بييار جانيت Pierre Janet، التي لم تكن تقرأ عن طيب خاطر، لأنه، مثلما لاحظت هي ذلك، “الكتاب الذي نقرأه يصبح قذراً”.

إن الإصغاء للموسيقى يجعل من ذلك الذي لا يصغي إليها إلا من أجل اللذة موسيقياً، والأمر ذاته ينطبق على اللوحة. الموسيقى، الرسم تشكل عوالم يدخلها ذلك الذي يمتلك المفتاح. سيكون هذا المفتاح هو “العطية” « don »، كما ستكون تلك العطية بمثابة الأفتتان والفهم لذائقة معينة. إن عاشق الموسيقى، وعاشق اللوحات، هما شخصان يحملان بطريقة ظاهرة ما يحبذانه كألم لذيذ يعزلهما وهما فخورين به. فيما يعترف البعض الآخر بتواضع بأنه لا يتمتع بإذن. لا بدّ وإن يتمتع المرء بموهبة لكي يسمع ويرى. الموهبة هي مجال مُغلق espace clos –قاعة حفل موسيقي، المتحف—يتم الأجتماع فيهما للتمتع بلذة سرية plaisir clandestin. أمّا اؤلئك الذي لا يتمتعون بها، فيبقون في الخارج، أي هؤلاء الذي يدخلون ويخرجون كما يشاؤن. لا تُعشق الموسيقى، بطبيعة الحال، إلاّ في أيام الأحد؛ فهذه الإلهة ليست أكثر مطالبةً من الأخرى.

لا تتطلب القراءة ولا حتى تلك المواهب وتحكم على اللجوء إليها كمتياز طبيعي. لا المؤلف، ولا القارىء، أشخاص موهوبين، وذلك الذي يشعرُ بأنه موهوب، يحسُ بصورة خاصة بأنه غير موهوب، كما يشعرُ بأنه مُختزل تماماً، غائب عن تلك القدرة التي يخصونه بها، كذلك فإن أمر أن يكون المرء “فناناً” « artiste »، فذلك يعني بأنه يجهل ما هو الفنّ، ويجهل بأنه كان هناك عالم بدءً، من القراءة، الرؤية والفهم، يشترط العمل الفني الجهل أكثر مما يشترط المعرفة، يقتضي معرفة تستثمر ذلك الجهل الضخم، وموهبة غير مُعطاة من البداية، وفي كلّ مرة عليه استقباله، أكتسابه وتضيّيعه، عبر تجاهله لنفسه. كل لوحة، كلّ عمل موسيقي يهبنا كهدية العضو الذي نحتاج إليه لإستقباله، و”يعطينا” العين والإذن التي لا بدّ لنا منها حتى نسمعه أو نراه. إن اللاموسيقيون non-musiciens هم اؤلئك الذين يرفضون، بحكم قرار أوليّ، إمكانية الإصغاء تلك، يتخفون عنها، وكأنها تهديد أو مضايقة، ينغلقون إزاءها بطريقة مُريبة. يَتنكرُ أندريه بريتون André Berton للموسيقى، لأنه يرغبُ في الحفاظ، في داخله، على حق سماع الجوهر اللامُتناغم للغة، موسيقاه اللاموسيقية sa musique non musicale، كذلك لم يكف كافكا Kafka عن الإعتراف بأنه مُغلق حيال الموسيقى أكثر من أي شخص آخر في العالم، لكنه لم يتغافل عن العثور في ذلك العيب على نقاطه القوية: “أنا قوي فعلياً، لدي نوع من القوة و، لكي أشخصها بطريقة مقتضبة، ستكون كينونتي اللاموسيقية”.

موريس بلانشو

على العموم، ذلك الذي لا يحب الموسيقى لا يتحملها، كما أن الشخص الذي يدفع عنه بعيداً لوحة لبيكاسو Picasso، يٌقصيها بكراهية، وكأنه يشعر بأنه واقع تحت تهديد مباشر. وبإنه لم ينظر إلى اللوحة حتى، ولا يتكلم عكس ما يعتقده. لا تقع النظرة ضمن ميدان قوته. كذلك عدم النظر إليها لا يضعه في موضع الخطأ، أنها شكل من أشكال إخلاصه، اي بالدقة الإحساس المسبق بتلك القوة التي تَغلقُ عينيه. “أرفض النظر إلى هذا”. “لن يكون بإمكاني العيش وهذا تحت نظري”. تُظهر هذه الصيغ بطريقة أقوى الواقع الخفي لعمل الفن، عدم تسامحها المُطلق، والمجاملات المئشبوه للهاوي. من الصحيح القول بأنه لا يمكننا العيش مع لوحة موضوعة دائماً أمام أعيننا.

يتمتع العمل البلاستيكي بحضوة على العمل الكلامي لأنه يجعل أكثر وضوحاً الفراغ الناجز للداخل، الذي يميل إلى البقاء فيه كما يبدو، بعيداً عن النظرات. إن القبلة le Baiser لرودان تدع المرء ينظرُ أليها والتمتع بها حتى، وتمثال بلزاك Balzac الخالي من النظرة، شيء مُغلق ونائم، منعكف على نفسه حد التلاشي. أن هذا الإنفصال الحاسم، الذي يجعل منه النحت عنصره، والذي يمتلكُ، في وسط المجال، مجالاً آخراً مُتمرداً، مجال مُتخفي، واضح ومُختلسٌ، وساكنٌ ربما، محروم من الراحة ربما، ذلك العنف المحجوز، والذي نشعرُ حياله بالإفراط دائماً، ويبدو غائباً عن الكتاب. أن المنحوتة التي تم أخراجها من تحت الأرض لكي تُعرض على المعجبين، لا تنتظر أي شيء من ذلك، لكنها تظهر بالأحرى وكأنه قد تم اقتلاعها من مكانها. أمّا الكتاب الذي ننبشه من القبر، المخطوطة التي يتم أخراجها من الجرة حتى تدخل في الضوء الكامل للقارىء، إلاّ يمكنها، إذا ما صادفها حظاً استثنائياً، الولادة من جديد؟ ما هو الكتاب الذي لا يُقرأ؟ إنه شيء ما لم يُكتب بعد. ستكون القراءة إذاً، ليس كتابة الكتاب ثانية، وإنما جعل الكتاب يكتب نفسه أو يكون soit مكتوباً –هذه المرة بدون تدخل الكاتب، وبلا أي شخص يكتبه. لا يُضيف القارىء نفسه على الكتاب، بيد أنه يعمل لكي يُخفف عليه من ثقل المؤلف، وما هو مُتعجل في مقاربته، ذلك الظل العبثي تماما، الذي يمرُ في الصفحات ويخلفها دون مسها، كل ما يخصُ القراءة مما هو سطحي، وحتى الإنتباه الضئيل، والمصلحة الأقل ثقلاً، كلّ خفة القارىء الللامُتناهية تُثبت الخفة الجديدة للكتاب وقد أصبح كتاباً من دون مؤلف، يخلو من الجدية، من العمل، ولحظات القلق الثقيلة، مركز ثقل حياة بكاملها كانت قد أنصبت عليه، تجربة مُرعبة أحياناً، ورهيبة دائماً toujours redoutable، يَمسحها القارىء و، بحكم خفته الإلهية، يعتبرها لا شيء.

من دون معرفته، ينخرطُ القارىء في نضال عميق مع المؤلف: مهما كانت الحميمية التي ما تزال باقية اليوم ما بين الكتاب والكاتب، ومهما كان الضوء الذي يظهرها مباشرة، ضمن ظروف النشر، وعبر شكل، حضور، وتاريخ مؤلفه –ظروف ليست بالعابرة، وإنما تنطوي قليلاً على مغالطة تاريخية–، وبالرغم من ذلك، يبدو أن كل قراءة تخص الكاتب بدورا كبيراً يلعبه تشكل انحيازاً يُلغيها ويعيد العمل إلى نفسه، لحضوره اللامُسمى anonyme، إلى الثبات العنيف، اللاشخصي impersonnelle، الذي هو. كذلك فإن القارىء هو دائماً بلا اسم، أنه أي قارىء، مُتفرد unique، لكنه شفاف transparent. لا يُضيف اسمه إلى الكتاب (كما كان يفعل آبائنا في الماض)، أنه يمحي بالأحرى كل اسم، بحضوره الذي لا اسم له، بنطرته المُتواضعة، الساكنة، التي يمكن مبادلتها، المحرومة من الدلالة، والتي يظهر من تحت ضغطها الخفيف الكتاب مكتوباً، بمنحى عن كل شيء وعن الجميع.

تعمل القراءة بالكتاب ما يعمله البحر، الرياح بالعمل الذي يقوم به البشر: حجارة مصقولة أكثر، شظية سقطت من السماء، لا ماضي لها، ولا مستقبل، ولا يتساءل المرء بخصوصها أثناء مراقبته لها. تمنحُ القراء للكتاب الوجود الوعر، الذي “يبدو” « semble » أن المنحوتةِ حصلت عليه من المقص وحده: العزلة التي تخفيه عن النظرات المُتطلعة فيه، ذلك الإنزياح الشاهق، هذه الحكمة اليتيمةِ، التي تُبعد عنها النحات والنظرة التي تطمح بنحتها ثانية. يحتاج الكتاب نوعا ما إلى القارىء لكي يتحول إلى منحوتة، حاجة للقارىء من أجل التأكيد على شيء لا مؤلف ولا قارىء له. ما تحمله له القراءة أولاً ليس بحقيقة أكثر إنسانية؛ ولكنها لا تجعل منه أيضاً شيئاً لا إنسانياً، “مادة ما” « objet »، أو مجرد حضور محض كثيف، ثمرة أعماق لم تُنضجها شمسنا. أنها “تعمل” « fait » فقط من أجل أن يكون الكتاب، أن يكون العمل –يصبح—عملاً في ما وراء الإنسان الذي أنتجه، التجربة التي تعبر عن نفسها من خلاله وحتى كلّ المنابع التي وضعتها التقاليد الفنية بين يديه. إن خاصية القارىء، تفرده يُضيء المعنى المُتفرد لفعل “فعلّ” من خلال التعبير: “يعملُ على تحويل العمل إلى عملاً” « elle fait que l’œuvre devient œuvre ». لا تشير مفردة فعل هنا إلى نشاط إنتاجي: لا تفعل القراءة أي شيء، ولا تُضيف أي شيء؛ بيد أنها تدع الكائن يكون ما هو elle laisse être ce qui est؛ أنها حرية، لكنها ليست تلك الحرية التي تهب الكينونة أو تقبض عليها، غير أنها حرية تستضيفُ، قانعة، تقول نعم dit oui، ولا يمكنها أن تقول إلاّ نعم و، عبر هذا المجال الذي فتحته النعم، تترك القرار الإنقلابي للعمل يؤكد نفسه، تأكيد لنفسه وحسب –ولا شيء آخر.

« Lazare veni foras »
أن القراءة التي تتناول العمل كما هو عليه و، هكذا، تحرره من كلّ مؤلف، لا تكمن في اقحام قارىء ما، في مكانه، أي شخص قائم بالقوة، له تاريخه، مهنته، دينه، كما تحرره حتى من القراءة التي تشرعُ، انطلاقاً من كل ذلك، مع الشخص الآخر الذي كتب الكتاب، بالحوار dialogue. القراءة ليست مُناقشة une conversation، فهي لا تجادل، ولا تتساءل. ولا تطلبُ أبداً من الكتاب، وبصورة خاصة من الكاتب: “ما الذي كنتُ ترغب حقاً في قوله؟ ما هي الحقيقة التي تحملها إليَّ إذاً”؟ لا تضعُ القراءة الحقيقة أبداً الكتاب الحقيقي على المحك، لكنها أيضاً ليست خضوعاً “للنص” « texte ». وحده الكتاب اللاأدبي non littéraire من يعرض نفسه باعتباره مجرى محبوكاً بدلالات مُحددة أولياً، كمجموعة من التأكيدات الواقعية: قبل أن يقرأه أي شخص، تتم قراءة الكتاب اللاأدبي من قبل الجميع، وهذه القراءة الأولية هي من يضمن له وجوداً راسخاً. بيد أن الكتاب الذي يمتد جذره في الفنّ، ليس له من ضمانة في العالم، وحينما يُقرأ، لا تكون قراءته أبداً قد تمت، ولا يتمكن من الوصول إلى حضوره كعمل إلاّ عبر تلك القراءة المُتفردة، الأولى في كل مرة وفي كل مرة وحدها.

من هنا تلك الحرية الغريبة التي تقدمها لنا القراءة –الأدبية—نموذجاً. حركة حرة، إذا لم تكن خاضعة، ولا ترتكز على أي شيء سوى نفسها الحاضرة سلفاً. لا ريب أن الكتاب هناك، ليس بفضل واقع الورق والطباعة وحسب، وإنما أيضاً بطبيعته ككتاب sa nature de livre، نسيج المداليل الساكنة، ذلك الثبات الذي يستعيره من لغة مُقررة مسبقاً، كما أنها تلك الحوزة التي تشكلها من حوله جماعة كلّ القراء ومن بينهم، إنا التي لم تقرأه، أعثر على نفسي سلفاً، وتلك الحوزة ما تزال حوزة كل الكتب، التي تشبه الملائكة بأجنحتها المُتشابكة مع بعضها، والساهرة بقوة على ذلك المجلد المجهول، لأن الكتاب الذي يجد نفسه وحيداً في حالة خطر يخلقُ صدعاً في المكتبة الكونية bibliothèque universelle. الكتاب هناك إذاً، لكن العمل ما زال مُخبأ، وغائباً ربما جذرياً، مخفياً في كل الحالات، ومُصادرٌ بحكم وضوح الكتاب، الذي ينتظر من خلفه القرار المُلخص، le Lazare, veni foras.

يبدو أن إسقاط هذه الحجرة يشكل مهمة القراءة: جعلها شفافة، حلّها عبر نفاذ النظرة التي تريد، بإندفاعة، الذهاب إلى ما وراء ذلك. تنطوي القراءة، على الأقل في نقطة انطلاقها، على شيء ما مُدوخ يشبه الحركة اللامعقولة التي نحاول عبرها فتح عينين مغلقتين سلفاً على الحياة؛ حركة مشدودة بالرغبة التي تُماثلُ، كلإلهام، القفزة؛ قفزة لامتناهية: أريد أن اقرأ lire ما لم يكن بالرغم من ذلك مكتوباً. هناك ما هو أكثر من هذا، والذي يجعل “معجزة” « miracle » أكثر تفرداً –ما ينير لنا ربما معنى كل خلق thaumaturgie–، فهنا لا تنطوي الحجرة والقبر على فراغ الجثة التي يُراد بث الحياة فيها وحسب، وإنما أيضاً لأن هذه الحجارة وذلك القبر يشكلان حضوراً، مع أنه مخفي، ما ينبغي عليه الظهور. جعل الحجرة تدور، والقفز من فوق الحجرة يشكلان، دون ريب، شيئاً فاتناً، لكننا نضيف إليه ونكمله في كلّ لحظة عبر اللغة اليومية، وفي كلّ لحظة نتحاور مع لازار هذا Lazare، الذي توفى منذ ثلاثة ايام، وربما منذ الأزل، والذي يردُ علينا، تحت العصائب المنسجوة جيداً، والمدعومة بالتقاليد الأكثر جمالاً، ويكلمنا في صميم قلوبنا. لكن ما يرد على نداء القراءة الأدبية l’appel de la lecture littéraire، منْ يرد ليس باباً يتهاوى ويصبح شفافةاً أو يضيق قليلاً حتى، وإنما حجارة أكثر صلابة، مصقولة جيداً، ساحقة، فيضان خارج القياس من الحجر الذي يهز السماء والأرض.

ذلك هو الطابع الخاص لهذا “الإنفتاح” « ouverture » الذي صنعَ القراءة: لا يَفتح نفسه إلاّ ذلك المُغلقِ جيداً؛ وليس شفافاً إلاّ ما ينتمي للعتمة الأكبر؛ التي لا تدع نفسها تقتنع بخفة بنعم الحرة وحدها Oui libre والسعيدة التي يتحملها المرء باعتبارها عدماً ساحقاً ويخلو من التماسك. ولا يقرأ العمل الشعري ذلك الذي يبحثُ عن الغموض الذي يُشوش الفهم اليومي. أنه يقيم فقط، ما بين الكتاب الموجود هنا والعمل الذي لم يكن أبداً حاضراً هنا مسبقاً، ما بين الكتاب الذي هو العمل المُخبأ والعمل الذي لا يمكنه التشكل إلاّ عبر السماكة، التي أصبحت حاضرة، ومن ذلك التخفي، الإنفجار العنيف، المرور من العالم الذي يتمتع دائماً بمعنى ما، حيث يكون هناك عتمة ووضوح، إلى مجال لم يتم العثور فيه، بدقيق العبارة، على أي معنى، والذي يَصعدُ نحوه بالرغم من هذا كل معنى وكأنه يتوجه إلى أصله comme vers son origine.

بيد أنه يمكن لهذه الملاحظات خداعنا، إذا ما جَعَلتْ من القراءة عملاً يكنس المكان بذهابه من لغة إلى أخرى، أو تجعل منها مسيرة مُغامرة، تتطلب المبادرة، بذل جهد وغزو. يمكن أن تكون مقاربة القراءة سعادة شاقة، لكن فعل القراءة هو أسهل ما يكون، حرية من دون عمل، نعم محضة Oui pure تترعرعُ في ما هو مباشر dans l’immédiat.

الـ نعم الخفيفة، البريئة، للقراءة

لا تُشكل القراءة، بمعنى القراءة الأدبية، حركة فهم محضة حتى، الفهم الذي قد يحتفظ بالمعنى من خلال طرحه. أن يقرأ المرء يعني تموضعه في ما هو أعلى أو أسفل الفهم. كذلك فإن القراءة بالدقة ليست أطلاق نداء يَظهر، خلف ظاهر الكلام العام، وكتاب الكلّ، العمل المُتفرد الذي ينبغي عليه الظهور عبر القراءة. لا شك أن هناك نوع من النداء، لكن لا يمكنه القدوم إلاّ من العمل ذاته، نداء صامت، يفرضُ على الضجة العامة الصمت، لا يسمعه القارىء إلاّ بالرد عليه، الذي يديره عن الإنشغالات المألوفة ويديره باتجاه مجال يقطنُ فيه، وتغدو القراءة قريبة، مكان استقبال خلاب من سخاء العمل، استقبال يرفع الكتاب إلى مصاف العمل الذي هو qu’il est، بذات الانفعال الذي يرفع العمل إلى مصاف الكائن ويجعل من الاستقبال مكان فاتن يَنطقُ فيه العمل. القراءة هي تلك الإقامة ce séjour وتتمتع بنفس بساطة النعم le Oui الخفيفة والشفافة والتي هي هذه الإقامة. حتى وإن أرغمت القارىء على الدخول في منطقة يعوزه فيها الهواء، وتزوغ الأرض من تحت قدميه، حتى وإن بدا القارىء، خارج هذه المقاربات العاصفة، شريكاً بذلك العنف الذي فتحه العمل، غير أن تلك المشاركة بحد ذاتها هادئة وصامتة، الوسط المُسالم للمغالاة démesure، النعم الصامتة le Oui silencieux القائمة وسط كلّ عاصفة.

إن حرية النعم الحاضرة هذه، المفتونة والشفافة هي جوهر القراءة. أنها تضعه إلى جانب العمل الذي يُلامس، عبر تجربة الخلق، الغياب، وعذابات اللامتناهي tourments de l’infini، وإلى جانب العمق الفارغ لذلك الذي لا يشرع ولا ينتهي أبداً، حركة تُعَرضُ الخالق للعزلة الجوهرية وتسلمه إلى ما لا يمكن الانتهاء منه l’interminable.

بهذا المعنى، تكون القراءة أكثر إيجابية من الخلق، مع أنها لا تنتج أي شيء. لها حصة في القرار، وهي تشكل خفته، لا مسؤوليته وبراءته. لا تفعل أي شيء لكن الكل يكتمل بها. بالنسبة لكافكا Kafka، القلق، السرديات غير المكتملة، عذاب حياة مُضيعةً، لمهمة تمت خيانتها، كل يوم يتحول إلى منفى exile، كل ليلة يُنفى عنها النعاس، وحتى تكتمل الصورة من المؤكد بأن ” المُسخ La Métamorphose لا يُقرأ، ناقص جذرياً”. لكن بالنسبة لقارىء كافكا يتحول القلق إلى راحة وسعادة، كما يكون تعذيب الإحساس بالذنب المُتجلي عبر البراءة والفتنة الممتلأة، لكل قطعة من النص، بمثابة الإنجاز، الكشف عن العمل المُتفرد، الذي لا يمكن تفاديه، وغير المُتوقع. ذلك هو جوهر القراءة، وجوهر النعم الخفيفة التي تُعيد الجانب الإلاهي للخلق، أكثر من ذلك الصراع المُعتم بين الخالق والعدم، الذي يُحاول فيه التخفي بغية الهيمنة عليه.

من هنا تبدو الكثير من تظلمات الكاتب ضد قارئه في غير محلها. حينما كتبَ مونتسيكو Montesquieu: “أطلب منة أخشى من عدم منحي إياها: إن لا يتم الحكم، في لحظة ما أثناء القراءة، على عمل عشرين عاماً، ولكي تتم الموافقة أو إدانة الكتاب بكامله وليس بعض عباراته”، يطلبُ ما يأسف الفنانون على عدم الحصول عليه، وهم يفكرون بحركة مريرة بالقارىء اللامبالي، ذي العين الساهية، والإذن المُهملة الذي يستدير نحو أعمالهم: العديد من الجهود، التضحيات، العنايات، الحسابات، حياة برمتها من العزلة، وقرون من التأمل والبحث يتم تثمينها، الحكم عليها وحذفها بقرار جاهل للنظرة الأولى، وإعتباطية المزاج. وعندما يقلق فاليري Valéry على القارىء الجاهل اليوم الذي يطلب من السهولة التواطىء معه في قراءته، قد يكون هذا القلق مُبرراً، غير أن ثقافة القارىء اليقظ، والوساوس عن قراءة ينفذ فيها الورع dévotion، الديني تقريباً والذي يصبح نوعاً من العبادة، لن تغير أي شيء في الأمر، بل وأنها تجلب مخاطر أشد ضرراً، لأن القارىء الخفيف، الذي يُنهي من حول النص رقصاً سريعاً، لا شك أن تلك الخفة لا تعني حقيقة خفيفة، بيد أنها تخلو من المآلات ولا تفتقد الوعد:أنها تعلن عن سعادة وبراءة القراءة، والتي تشكل ربما فعلاً رقصة مع مُراقص لا مرئي في صالة معزولة، رقصة مُغتبطةِ، هائمة مع “الضريح” « tombeau ». خفة لا ينبغي تمني حركة همْ يُثقل عليها، لأنه حيثما تُعطى لنا الخفة، لن تكون الرصانة غائبة.
*تمت ترجمة هذا الفصل، والفصل الذي يليه عن كتاب موريس بلانشو “المجال الأدبي” l’espace littéraire، منشورات idées nrf.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

| د. شعبان عبد الحكيم محمد : النص الطازج والقصة القصيرة الشعر قراءة فى مجموعة ” حواس زهرة نائمة ” لسامية غشير.

صدر للدكتورة سامية غشير أول مجموعاتها القصصية ” حواس زهرة نائمة ” عن دار النشر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *