صالح البياتي : الانكسار *

الانكسار ( قصة قصيرة) *

 علمت انه غادر الوطن بطريقة ما، وأنه في عٓمّان، درت ابحث عنه في فنادق وسط البلد، دلّني على مكانه شاب عراقي، هو واحد من الذين تعاملوا معه، حكى لي انه يعتاش على تأليف القصص لطالبي اللجوء العراقيين، لقاء مبلغ مالي زهيد، او مقابل وجبة غداء في مطعم  بشارع مكة، واحيانا ثمن علبة سجائر، وأخبرني انه عندما يكون مفلساً يضطر ان يترك حقيبة ملابسه في الفندق ويتسلل هارباً. ايقنت ان ذكاءه يسعفه في مثل هذه المواقف الصعبة ليسترد جوازه قبل هروبه، المشاكل كثيرة، وابسطها على الوافد حديثا الى عمان( المدينة المزدحمة والمحصورة بين جبالها السبع، بخلاف بغداد المدينة الفسيحة) ان ينتبه المرء لاحتيال البائعين على الارصفة، وحين يعبر شارعا مزدحما في وسط البلد، تنطلق عليه السيارات كالصواريخ، دون أدنى مراعاة لسلامة العابرين، وإلا قد يفقد حياته تحت عجلات سائق طائش متهور.
التقيته ذات ضحى يوم ربيعي، كان جالسا على مسطبة، يدخن، يتأمل المدرج الروماني، في الساحة الهاشمية، كأنه يصيخ السمع لعربدة التاريخ، رغم حركة الماشين الدائبة، تخيلته في تأمله متماهيا مع المتفرجين قديما الذين يحتلون مدرجات مسرح الاوديون.*   
  حين اقتربت منه كان غائبا عمن حوله، ولكن المفاجأة إعادته واربكته في آن، عندما رآني أقف امامه، نهض يتفرس في وجهي، كما لو انه يحاول ان يتذكرني.
كانت آخر مرة رأيته عندما أُطلق سراحه ( لا اعلم كم كان عددها ) محطما من قمة رأسه حتى اخمص قدميه، حتى انه اطلق على نفسه ساخرا
” الرجل الخردة “.*
وبعد تبادل التحية  والسؤال عن الصحة، والاستفسارعن الأحوال التي لا تسر ولا تُطمئن البال، لأن من يعرف بواطن الأمور يكتشف الكذب على بعض، ابتغاء المجاملة التقليدية المتعارف عليها بين الأصدقاء، هكذا التقينا، دعاني للجلوس، مر بائع القهوة المتجول، يحمل ترموس وكاسات بلاستيكية  ناداه، صب لنا كأسين، دفعت ثمنهما، رغم اعتراضه الشكلي.. لا لا ما يصير، قدم لي سيجارة، اعتذرت، فقال ضاحكاً:أحسن وفرت عليَّ ثمنها. سألني: من دلك عليَّ؟ كذبت عليه قلت: لم يدلني عليك احد، وجدتك صدفة، قال: لو سألت اي عراقي لدلَّكَ عليَّ، قلت مازحاً:هل صرت مشهوراً لهذه الدرجة! قال: ليست الشهرة يا صديقي، إنما هي الحاجة، هم يحتاجونني، احببت ان استثيره فتساءلت، عرفتك طوال حياتك مضطهداً مسحوقا ومفلساً، فبم يحتاجونك؟  كأنه شعر أني أشك به، فأراد ان يدفع عن نفسه شبهة محتملة، قال: يأتون لهذا المكان لأساعدهم  في تلفيق قصص لهم، تدون في استمارات طلبات اللجوء، انا كما ترى يا صديقي، كاتب عرائض من نوع اخر، أخذ رشفة من كأس القهوة، ونفسا قويا من سيجارته، نزع نظارته الطبية، نظف عدستيها بمنديل ورقي وبرطوبة بخار نفثه من فمه، وأكمل، وقد أنفجر ضاحكا بهستيريا، أتصدق!.. جميع الذين كتبت لهم قصصا مفبركة، حصلوا على اللجوء الإنساني، اما انا فما زلت انتظر، أتحتاج انت لواحدة، لن آخذ منك أجراً، ضحكت، قلت :انا مقبول منذ سنة، انتظر السفر..
وبعد فترة صمت قصيرة، أبدى ارتياحا مفاجئاً، قال: ان لديه الآن على الأقل عملاً يعتاش منه بعرق جبينه، أحسن من التضور جوعا، او استجداء معونة من كنيسة ما، اوسرقات صغيرة تافهة، اضمن لنفسي ان لا يذبني القطار قبل المحطة الاخيرة.
ابتسمت للتعبيرالظريف الذي وصف به المتهربين من دفع تذكرة السفر، فتذكرت ما اخبرني عنه الشاب العراقي الذي التقيته ودلني عليه.
اخرج ملفاً من حقيبة يد صغيرة بجانبه، قلبه واستل مجموعة أوراق، قال : هاك خذ، هذي قصتي التي قدمتها، وهي حقيقية مائة بالمئة، انت اعلم بها يا صديقي، ومع ذلك انتظر منذ حوالى السنة، سألني: هل لا تزال تكتب القصص، أومأت برأسي، قال خذ إذن هذه الأوراق، اقرأها، حولها لقصة قصيرة، ولكن أرجوك لا تضع أسمي عليها، انسبها لمجهول او اكتب إسمك عليها ان شئت..
طمأنته، أني سأغفل ذكر الأسماء، اطمئن.. اتفقنا، قال من الأفضل اذن ان تكتبها بضمير المتكلم، فالتعبير به أقوى واصدق، قلت: سأفعل، سأعيد كتابتها، أحولها من افادة شخصية الى قصة، وسنلتقي غدا لنحتفل، تساءل: ما المناسبة! قلت نحتفل بك،انت بطل القصة. انفجر ضاحكا اي بطولة تتحدث عنها، لا بطولة ولا هم يحزنون!
 ودعته على أمل ان نلتقي غدا، في نفس الوقت والمكان.
 عدت للبيت لأنكب بحماس على كتابة القصة، قرأت استمارة طلب اللجوء، وجدتها قد كتبت بلغة قانونية، استوفت جميع الشروط المطلوبة لطالب اللجوء، تسلسل الأحداث، اسماء الأشخاص، هذا بالاضافة الى الوثائق التي تعزز المعلومات المدونة في الاستمارة، كل شئ يؤكد انه قد تعرض فعلا الى اضطهاد وتعذيب…
 تبلورت فكرة القصة الآن، نحيت اوراقه جانبا، أفسحت مكانا لفنجان القهوة الذي اعدته زوجتي، ارتشفت رشفة صغيرة وانا أفكر به، نظرت امامي للأوراق المعدة للكتابة، ولقلم الحبر الساكن عليها، والذي سيصول بعد قليل ويجول في ساحاتها البيضاء، قلت اسأل نفسي، كيف أجرأ ان اسفح عذاباته، احول دمه الى مداد، أَيحق لي ان ادفنه في حفنة أوراق، بررت عملي بأن اخراج قصته من حلكة الظلام لضوء النهار انما هو في الحقيقة وفاء لصديق قديم، فأنا احاول مزج الواقع بالخيال، من خلال هذه السطور القليلة، ليطلع القارئ على إنسان كان معذبا، وأنه عوقب بقسوة لغير ذنب ارتكبه، لمجرد ان سلطة ما لم تتفق معه في الرأي، ايستحق هذا الانسان كل هذا العذاب…!
وشرعت بعد ان ألهبتني الحماسة بكتابة القصة حتى انتهيت منها عند منتصف الليل.

القصة:
 مكتب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، عمان/ الاردن. الثامن من شباط عام الف وتسعمائة وتسع وثمانون للميلاد
 
–    من انت!
 سألتني، لم أرد عليها، كنت اجلس أمامها، أتشبث بالصمت، اتساءل مثلها أيضا:
–    من انا!
  ملفي بين يديها، واسمي مكتوب على الغلاف الأمامي، بحروف لاتينية، واضحة وكبيرة…
 آه  فهمت، انا لست غبياً، انها تريد ان تعرف من أكون، ولماذا هذه الكآبة المرسومة كعلامة فارقة على وجهي، ولماذا لم اتلفظ بحرف واحد، او حتى إيماءة بسيطة طوال وقت المقابلة، وحينما تلتقي نظراتنا، يصيبني دوار، أشعر أني على وشك الإغماء، عيناها الخضراوان كحبات زيتون شامي تهيمنان على روحي، بنفس قوة التعذيب الذي كانت يستل ارادتي.
 في مكالمة هاتفية جرت بيننا، طلب مني ان اراه، كان طلبه أمراً، تعال الظهر الى بيتي، ذهبت، ولَم اجده، أخبرتني زوجته انه خرج، أذهلني جمالها ( رغم معرفتي السابقة بها ) عن السؤال، متى يرجع؟
 الحت عليّ، وهي تدعوني لأنتظره في البيت حتى يأتي،ٓ فاعتذرت، وسوست نفسي بشئ، مخترقة سياج ارادتي، كانت تطرق باب الكرامة التي امتهنها التعذيب، خلع الواحه ومساميره، فبات مشرعا لأي ريح تقلعه، لكني قمعت نفسي بقوة، عندما التقت نظراتنا شعرت انها تريد ان تبوح  بشئ، اعتذرت مرة اخرى، قلت أخبريه أني  جئت في الموعد.
 هناك في الأقبية المظلمة، تُمْتَحن الإرادة وتُمْتٓهن الكرامة، في البدء، تحتمل لكمة على الوجه او ركلة على البطن او تحتها، تقاوم الضعف بكبرياء، ولكن مع اشتداد وتيرة التعذيب، قد تنهار فجأة، يحصل ذلك احيانا بعد صفعة أخيرة، فتعترف لهم بما يريدون منك.
 كان يتعمد الحضور اثناء الاستجواب، لمجرد النكاية، يقف جانبا دون حراك، ويبقى صامتا طوال الوقت، حتى اذا انتهوا وتركونا وحدنا، تربع وراء المكتب الذي أخلاه المحقق، يخرج علبة سجائر الروثمان من جيبه، يضعها على المنضدة المزججة، وينتش سيجارة بأصبعيه، يدك طرفها على زجاج المنضدة،  (رغم تماسك التبغ الأجنبي، وعدم الحاجة لمثل هذه الحركة الاستعراضية الخرقاء) يضعها بين شفتيه، يقرب القادحة منها، تشتعل السيجارة، ينتزعها بعد اخذ نفس قوي، يرميها على ارضية الغرفة، يفركها تحت حذائه، ثم يرفع رأسه اليّٓ ويخاطبني بنبرة استعلائية يتصنع اخفاءها: ستخرج ان اعترفت…
أظل متشبثا بالصمت، لأني متأكد من عدم وجود أي شئ عندهم ضدي، كما أني متأكد انه هو من أوقع بي ..
 قديما.. في الأيام الاولى للثورة، اخترت انا الوقوف مع الشعب، وكان هو يقف مع أعداءه. وكما كنّا منذ البداية، على طرفي نقيض في السياسة، كنّا في الدراسة أيضا، كان هو فاشلا وكنت انا متفوقاً.
اكملت دراستي الإعدادية والتحقت بكلية الحقوق، اما هو فشق طريقه بقبضة يد وبدون قطرة عرق جبين، هذا التضاد الصارخ بيننا، اثار حفيظته وحسده، فراح يناصبني العداء…
 في البدء، كان يكن لي غِلاًّ، ولكن بعد إطاحة الزعيم بانقلاب عسكري*، صاريعاديني بشكل سافر لا يحتمل، وكنت آنذاك في السنة الدراسية الأخيرة، كان هدفه تحطيم مستقبلي. رغم صلة القرابة القوية التي بيننا.
  لم تبق سوى أربعة أشهر حتى اتخرج، وأمارس المحاماة، ولكنهم اعتقلوني مع ألوف المعتقلين وزجونا في البداية في نادي اللجنة الأولمبية، كان ذلك عام    ١٩٦٣، ولَم يطلقوا سراحي حتى بداية السنة الدراسية الجديدة، وهكذا خسرت سنة دراسية كاملة..
 جاءني حيث كنت محتجزا، اخبرني أنهم سيطلقون سراحي، لم اقل شيئا، لم يفرحني الخبر، شعرت بالانكسار، بمزيج من الغضب والالم، بشئ من الشفقة الرخيصة، والرثاء البائس على نفسي المحطمة.
 الحرية في بلد يتحكم به هو وامثاله، أشبه بعملة مزيفة، الا اذا كانت  تعني حسب ما يفهمون، حرية الدجاج قبل الذبح دقائق معدودة خارج القفص، او حرية الأموات في قبورهم حتى يوم الحساب.
 أُطلق سراحي، فصرت انقل جسدي من مكان لآخر، أعيد له بعض حقوقه المغتصبة اثناء الإعتقال…
 تستطيع وانت رجل حر الذهاب مثلا للمرحاض لتقضي حاجتك، والبقاء فيه على راحتك حتى قضاءها، اما في المعتقل، فأنت مقيد وفق وقت محدد في الدخول او الخروج، اما اذا تأخرت دقيقة او دقيقتين، فسوف تكال على رأسك الشتائم المقذعة، وتنهال عليك الضربات الموجعة، حتى تبتعد عن المكان، وهذه الاهانات تحصل كل مرة، تضطر فيها الذهاب لتلبية تلك الحاجة الطبيعية..
 سأخرج للحرية غدا..
 لكن بروح معطوبة في جسد محطم، والأثنان عبئ على النفس.
ومرة اخرى طلب مني بمكالمة هاتفية، وبصيغة الأمر، المجيئ الى بيته، وذهبت ولَم اجده، قالت زوجته: خرج لأمر عاجل، أوصاني ان استبقيك في البيت حتى يعود، دخلت، راودتني، وثارت رغبة مكبوتة في نفسي، كان الوقت مساءً، وكانت بثياب النوم، التي تبرز مفاتن أنوثتها بشكل طاغ، وعندما سألتها لماذا لم ينتظرني، تغنجت، قالت: لا ادري… وتأفأفت متألمة، اشتكت غيابه ليلة او ليلتين، يتركها وحيدة في البيت، تبرمت من عمله ومن حياتها الكئيبة والمملة ، جلستُ على مضض، قدمت لي استكان شاي*، انتابتني أفكار، هواجس متضاربة، تقاذفتني يميناً وشمالا، كانت هناك رغبة شعواء تدفعني لإحتضانها، والاحتراق معها حتى الموت، في أتون الإثارة والرغبة المحرمة، ولكني كنت خائفاً ان يباغتنا على حين غرة، يرانا كما رأى الله آدم وحواء قبل الخطيئة الاولى، خفت والاصح جبنت، ان تكون هناك ثمة مؤامرة حيكت ضدي، وأنهما اشتراكا فيها للايقاع بي، أفكار شتى عصفت برأسي، الثأر لكرامتي التي ديست تحت قدميه، ولكن خوفي، أَطْفأَ نار شهوتي الحارقة، انتزعت نفسي من الورطة، نهضت هاماً بالخروج، حاولت منعي، سألتني:
–    أخائف انت مني!
–    لا… لِمَ اخاف منكِ!
–    لأنك غير مرتاح منذ ان جلست…
–    لا أبداً… تذكرت قد أتأخر عن موعد الطبيب.
–    أهو أفضل من الجلوس معي!
 خرجت وهي تودعني بنظرات يائسة، لعلي اعدل عن قراري واعود..
بعد بضعة ايّام اتصل بي هاتفيا، قال سأسهر عندك الليلة، ارضيك، اعرف انك زعلان مني، جاء مع زوجته، استقبلتهما، قمت بواجب الضيافة وجلسنا نتحدث، دق جرس التلفون، قمت لأرد، فقال اجلس، المكالمة لي، رفع السماعة وتكلم، لم افهم شيئا مما قال، كان يتكلم بلغة غريبة لم اسمع بها من قبل، أتم المكالمة وعاد لمجلسه، سألته كيف يعرفون انك هنا!  قهقه ضاحكا: كيف يعرفون!.. انا أخبرتهم أني سأكون هنا، يجب ان يعلموا مكان وجودي، هذا هو عملنا، أرأيت كم هو شاق، ولكن الناس لا يقدرون! قلت في نفسي الناس لا يقدرون.. لأنكم لا تحبونهم، وهم بدورهم يبادلونكم نفس المشاعر، هم يخافونكم فحسب.. 
 قال انه مضطر للذهاب، وسيترك زوجته عندي حتى يعود، سألته متى ستعود، قام دون ان يجيب على سؤالي، خرج وصفق الباب وراءه بقوة، شعرت كأنه أغلق عليَّ  باب زنزانتي، كيف يتركنا لوحدنا، وانا أعيش عازبا وحدي، وكانت لي قبله رغبة بالزواج منها، ولكنه نافسني عليها بقوة، لابد انه يريد الايقاع بي، او انه شعر بما يختلج في نفسي، فهم يفهمون جيدا نفسية زبائنهم، اذن هو يستهزء بي، وكأني اسمعه يضحك ساخراً ويقول اكتشفتك أيها الغبي، ولكن انا الذي أدير المعركة، وسأنتصر عليك أيها المحامي الفاشل، تركتها معك، فإن كنت رجلا وفيك خير فافعل…
 شرفه ازاء امانتي وعفتي، يالها من صفقة خاسرة، ما العمل!
 لست انا يوسفاً، فاعصم نفسي، الجم شهوتي نحو أمرأة كنت أتمناها زوجة، فكيف الوث شرف من احببت، ولكي أنجو من هذا المأزق الصعب، خرجت وتركتها لوحدها، وقفت ادخن امام باب العمارة، انتظره حتى يعود، وانا لا اعلم متى سيعود! ولكن بعد اقل من ربع ساعة رأيته يركن سيارته بمحاذاة الرصيف، ويترجل منها،  سألني: لماذا انت هنا! قلت خرجت لأدخن حتى لا أزعجها، قال دون ان اسأله: تم تأجيل العملية، وصعدنا معا، أخذ زوجته، ودعته عند الباب… كانت هذه آخر مرة أراه.
 تمت تصفيته اخيراً مع مدير الجهاز السري الذي يعمل لحسابه، وذلك بعد احباط مؤامرة شارك فيها لآغتيال رئيس الدولة.
 كان في شبابه سئ الخلق، ينهي جداله بعصبية عندما ينهزم امام خصمه في الرأي، بعبارة بذيئة جداً ” أُكل خرا”
 كثيرا ما كان الفقر حافزا للنجاح، وتهذيب النفوس، وأن شظف العيش  والحرمان، يخلقان ألما واعيا وإحساسا مرهفا ورجالا عظام، ورغم انه لم يعان رقة الحال مثلي، ولَم يكن قانعا بحياته، ولَم  يسع لتحسين ظروف معيشته، فوجد ان السلطة اقصر الطرق للمال والقوة والنفوذ.
–    سيدي انت شارد الذهن، كلما حاولت ان استعيدك تبتعد اكثر قل لي ما بك!
–    من أنتِ؟
–    قلت لك اسمي منذ بداية الجلسة. ولكنك كنت غائبا عني طوال الوقت.
–      أين انا الآن!
–    انت في مكتب الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
–    ها… نعم صحيح.
–    وانت هنا لأجراء المقابلة الأولى، بناءً على موعد معك.
–    نعم صحيح.
–    انا اسمي انجيلا آدامز، المسؤولة عن ملفك.
 سألتني وهي تقلب ملفي، شعرت ان دما أخذ يلوث أناملها الرقيقة، وان جروحا اندملت في قلبي مع الزمن، أخذت تنز وتنزف من جديد.
قالت بعد ان اكملت تصفح الأوراق.
–     تلك احداث قديمة، لماذا ذكرتها، يكفي ما ذكرته من احداث قريبة ومعززة بالوثائق!
 ماذا أقول لأنجيلا آدامز، هل أقول لها: ليس لدينا زمن آخر غير الماضي، وهذا الماضي المقدس نزا على الحاضر المدنس، فاستولد مسخا، هو الاستبداد، الماضي والحاضر وجهان لعملة مزيفة، او هو مرض مزمن، نعاني منه جميعا .. قالت:
–     يكفي ما حدث لك في السنوات العشرالاخيرة، لتحصل على اللجوء، نحن الأن في العام ١٩٨٩، ولديك وثائق تثبت ما ذكرت.
–    نعم حدثت قبلها بسنة واحده حرب طويلة، وغدا الله اعلم ما سيحدث !
–    سيدي سنجري معك مقابلة اخرى، عندما تكون مستعدا، ومرتاحا اكثر.
–    نعم .. نعم.
أسائل نفسي، أخنت وطني، حين تركته الآن يلعق جراحه.. ! أبدا.. لا، ضميري مرتاح، لأني لم أمسه بسوء طوال الخمسين سنة الماضية من عمري..
 وبعد عقد وسنة من الآن  سندخل في قرن جديد، هوالآن قريب جدا، عند المنعطف On The Corner”  “ كما هو التعبير باللغة الانگليزية ، أنتوقع منه خَيْرٌ اكثر من الذي سبقه!، القرن الذي نحن فيه شهد حربين كبيرين وعشرات الحروب الصغيرة، فما الذي سيحدث في قرن جديد، الله أعلم!
 نظرت مباشرة الى عينيها الخضراوين بلون زيتون إسباني، والى وجهها الجميل الأبيض المشوب بسمرة اندلسية، امرأة في الثلاثين، ذروة الافتتان، فلم أر اثرا لشفقة مصطنعة، بل رأيت فيهما حيرة وتساؤل، كانتا تطفحان بالحب، متأججتان بعواطف إنسانية، حتى أني توهمت انها بدت تحبّني، كلمتني بنبرة عطف وحنان. فقلت في نفسي هذه الانجيلا الفاتنة، لا يمكن ان تكون إلا سليلة الفاتحين العرب لشبه الجزيرة الايبيرية، ولكن لماذا اسم ابيها آدامز!، لا بد انه انگليزياً من أولئك المستعمرين الذين نثروا بذورهم في كل مكان وطأته جيوشهم الاستعمارية
–    سيدي سنجري معك مقابلة جديدة، وسوف نعلمك بالموعد، الا تزال تعيش بنفس العنوان؟
–    نعم .. نعم.. شكرًا.
جرجرت قدميّٓ من المكتب، خرجت للشارع، كنت بأمس الحاجة لشئ ما يخفف حزني، كانت السماء ترسل رذاذاً خفيفا، تركته يبلل قميصي، ينساب من شعري لرقبتي، والى صدري وظهري.
وقفت على الرصيف بلا حراك، مضطرب النفس، قلقا، حزينا، وبي رغبة عارمة للبكاء، ولكن قطرات المطر جعلتني اشعر بالارتياح، فهدأت نفسي، وفرحت بالحياة كما لم افرح  بها من قبل.
انتهت قصته..
في صباح الْيَوْمَ التالي، استلمت التذاكر، لذا لم استطع موافاته على الموعد المتفق عليه بيننا، انشغلت طوال أسبوع للتحضير للسفر، لم يبق من عقد ايجار الملحق* الذي سكنا فيه سوى شهر، لذا تكلمت مع المالك ان يسمح لأخي( اقصد صديقي ) ان  يحل محلي في المكان، ولكي يوافق ادعيت ان عائلته ستآتي قريبا من بغداد، وقبل سفري بيومين ذهبت اليه فوجدته جالسا يدخن في مكانه امام المدرج الروماني، اعتذرت منه، فقبل اعتذاري وهنأني، لما علم بظروفي، أخبرته بالاتفاق الذي أبرمته مع مالك البيت، قلت: تسكن في الملحق لمدة شهر مجانا، وبعد ذلك تصرف كما تشاء بالأثاث الذي تركناه لك، وسأتصل بك بعد وصولنا، وفِي غمرة اهتماماتنا الجديدة، نسينا تماما الحديث عن القصة، وبعد ايّام من وصولنا للبلد الذي استقبلنا واستضافنا على ارضه، اتصلت بمالك البيت صباحا، سلمت عليه، وطلبت منه ان يناديه لاكلمة، قال: تعرض اخوك لحادث، لا تقلق هو بخير، انتظر سأناديه لك، مرٓت الدقائق القليلة جداً ثقيلة وطويلة، حتى سمعت صوته، طمأنني مازحا: ان سيارة رعناء كادت تقتله لشدة إعجابها به، ولكنها تركت قبلات زرقاء على جسده، بعد ان قذفته للرصيف،  نجوت يا صديقي بأعجوبه.. هنأته بنجاته.
واصل كلامه… وبعد ان توادعنا واغلقت الخط  ظل صوته يرن في أذني بلا انقطاع طوال ذلك الْيَوْمَ.

صالح البياتي  
 

 *هذه القصة استوحيت فكرتها من تجربتي الخاصة كلاجئ، ومن تجارب العراقيين الذين قدموا طلبات اللجوء في عمان، وقد أعدت كتابتها، بقالب قصصي جديد، لم يبق من القصة الأصلية المنشورة في كتاب ( ارشيف مدينة تحتضر) سوى بعض المقاطع والعنوان.

* الاوديون: مسرح روماني قديم في العاصمة الاردنية عمان، يقع وسط البلد وهو جزء من المدرج الروماني.
* الزعيم: الزعيم الركن عبد الكريم قاسم هو اول رئيس وزراء للعراق، بعد ثورة ١٤ تموز، حكم بين عامي ( ١٩٥٨ -١٩٦٣ ) واطيح به بانقلاب عسكري في الثامن من شباط  ١٩٦٣
* الخردة: حطام الاشياء التي لا قيمة لها.
* الإسْتِكانْ: إناء زجاجي صغير وشفاف يشرب فيه الشاي.
* الملحق: جزء منفصل عن البيت يخصص للإيجار.

 
       

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| د. زهير ياسين شليبه : المهاجر .

كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما …

| عبدالقادر رالة : زّوجي .

    أبصرهُ مستلقياَ فوق الأريكة يُتابع أخبار المساء باهتمام…      إنه زّوجي، وحبيبي..     زّوجي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *