يوميات كندية
هدية حسين
إشارة من أسرة الموقع:
هل هي مقالة أم طعنة في القلب ؟
هي طعنة في قلوبنا – وقد تكون معذورة من فعل البلاء الكوني الذي يقع على العراقيين – التي تحجرت حدّ أن تنسى قرّة عين الإبداع العراقي والخطأ الذي لن يتكرّر: عبد الستار ناصر.
المقالة:
الساعة تقترب من السادسة مساءاً، عندما حطت الطائرة في مطار كالجري في مدينة ألبرتا الكندية، بعد رحلة طويلة غير مباشرة، نحن في شهر ديسمبر من العام 2010، البرد شديد، الثلج يتساقط، درجة الحرارة تتدنى الى ما تحت الصفر بسبع عشرة درجة، انتهت الإجراءات في المطار بمساعدة شخص عراقي كان باستقبال اللاجئين، وأخِذنا الى سيارات دفعنا أجرتها مقدماً الى منطقة تدعى ريد دير (الغزال الأحمر) لا نرى من النوافذ على طول الطريق سوى الثلج وأعمدة النور.. وحين وصلنا بعد ما يقارب الساعة وزعونا على غرف الموتيل، والموتيلات لا ممرات داخلية لها، الأبواب باتجاه الخارج شديد القسوة، وكنا في غاية الإرهاق، نمنا كالموتى، وعند الصباح كان علينا الإفطار في مطعم الإدارة، هذا يعني أننا نمشي عدة أمتار تحت الثلج الذي خفت وطأته، ولكنه ما يزال يواصل النزول.
وبعد الإفطار أخذونا في سيارات للتسوق، وكان علينا أن نطبخ في الغرف بقية الوجبات .. الطباخ صغير يلاصق مغسلة تُسرب الماء ببطء حتى انغلقت فوهة المجرى بعد يومين، فاتصلت بالإدارة، وجاء العامل الكندي، وهو رجل طويل ضخم، عاين حوض المغسلة، وحاول تسريب الماء فلم يفلح، ثم ذهب وجاء بعبوة بلاستيكية كبيرة، صب محتوياتها داخل الحوض، ويبدو أن المادة كيمياوية، ولما اكتشف أن هناك تسريباً للغاز من الطباخ، اتصل بالإدارة لتأتي امرأة تحمل مروحة عمودية، تسلمها له وتسرع لتدق على أبواب الغرف ليخرجوا، بينما الرجل يدعونا، أنا وعبد الستار للخروج وهو يصيح.. خطر.. خطر، وطلب منا حمل حقائبنا الى الخارج، ولما تباطئنا راح يحملها ويرميها الى الممر المثلج ويخرجنا بعصبية.
خرجت مسرعة بالبيجاما والنعال، مرتبكة من صراخ الرجل، ورأيت الجميع يخرج ويتجه نحو الإدارة، وثمة امرأة كبيرة السن تقول: هربنا من الانفجارات ووجدناها أمامنا، سترك يا رب، وعند منتصف المسافة الى الإدارة تذكرت كتبنا في أدراج الكومدينو، حاول عبد الستار أن يثنيني عن الرجوع لأخذ الكتب، وقال سيعالجون المشكلة ونعود للغرفة، لكنني عدت ثانية للغرفة والرجل يحاول إخراج رائحة الغاز بتوجيه المروحة للخارج، ومنعني من الدخول، أردت أن أقول له إن كتبي في الأدراج، لكنني نسيت كلمة الأدراج بالإنكليزية، فرمى لي دفتراً كان على الكومدينو، وحاولت الدخول ثانية لكنه كان متعنتاً، وفجأة ظهر شاب عراقي كنا قد تعرفنا عليه أثناء الرحلة، ولما عرف بأمر الكتب دخل مسرعاً وفتح المجرات، حملت بعضها بينما ساعدني بحمل بقية الكتب والرجل يصرخ بسرعة للخارج، وكانت أصوات سيارات الإسعاف والإطفاء تصم الأذان في هذه اللحظة، فقد وصلت أربع سيارات إطفاء بينها سيارة إسعاف، ونزل منها رجال يضعون الأقنعة على وجوههم.
لم نعد للغرفة التي عالجوا تسرب الغاز منها، فقد طفحت بالماء والروائح، أعطونا غرفة أخرى، وفي صباح اليوم التالي نقلت الى المستشفى من شدة ما عانيت من برد، بقيت هناك طيلة النهار، فقال عبد الستار هذه المدينة لا تناسبنا، إنها صحراء ثلجية وإنه سمع بأن ألبرتا هي أبرد مدينة في كندا، كان علينا أن نبقى أسبوعين، ثم بمساعدة دائرة الهجرة نختار شقة لنبدأ حياتنا في المنفى.. المنفى كلمة لم نحس بها حينما كنا في عمّان، المدينة التي احتضنتنا بمحبة كبيرة، وكتبنا فيها العديد من الإصدارات خلال أكثر من عشر سنوات من تواجدنا هناك، وكلما سألني أحد الأصدقاء أو الصحفيين عن المنفى أقول له عن أي منفى تتحدث؟
اتصل عبد الستار بفنر، ابن صديقنا المهندس والكاتب طارق صالح الربيعي، في مدينة مسساغا، وحجزنا تذكرتين، وسافرنا الى هناك، وكان فنر بانتظارنا، حجز لنا غرفة في فندق كما طلبنا منه، بقينا أربعة أيام في الفندق لننتقل بعدها الى شقة في عمارة كبيرة وبطوابق تربو على العشرة، تطل بلكونتها على عمارتين، الأولى على وشك الانتهاء والثانية الى النصف، شكلهما على هيأة جسد امرأة ممشوقة القوام، لنعرف بعد ذلك أن الناس يطلقون عليهما، عمارات مارلين مونرو.
لم نبق في مسساغا سوى شهرين، فلقد كانت لا تناسب قدراتنا المادية، فرحلنا الى هاملتون بمشورة أحد الأصدقاء… وفي هاملتون، المدينة التي تقع على بحيرة أونتاريو (خامس أكبر بحيرة في العالم) كان القدر يهيء لنا مصيراً آخر.. فبعد سنتين وثمانية أشهر توفي عبد الستار ناصر، في الحادية عشرة مساءاً في أول جمعة من آب وفي الثاني منه، بتوقيت هاملتون من العام 2013 .. الثالث من آب ، الساعة السابعة صباحاً بتوقيت بغداد .. وها قد مرت ذكراه الخامسة قبل ثلاثة أيام ولم يتذكره أحد من (الأصدقاء).