باهرة محمد عبد اللطيف*: ذاكرة التخـلّـي*

ذاكرة التخـلّـي*
باهرة محمد عبد اللطيف*
مازالت اختنا الجميلة نائمة في كرسيها كعادتـها حين يستبد بـها التعب. لكنها هذه المرة استطابت الإغفاء فمنذ يومين وهي تغفو، أميرة بابلية صغيرة ، تسند وجهها القمري إلى كفها الرقيقة، وقد ثنت جانبا‎ً ساقين متسقتين انحسر عنهما ثوبـها الأبيض. خصلات شعرها الأسود البرّي تتهدل بلا مبالاة على كتفيها في حين ظلت خصلـة نافرة قصيرة تداعب جبينها المضيء مع هبات الهواء المنتظمة المندفعة من فوهة جهاز التبريد.
أرقبها من سريري المواجه للباب المطلّ على غرفة الجلوس. أراها تستريح على مقعد أبي الوثير الذي ورثه عن جدي، مقعد جلدي أنيق قد لا يختلف كثيراً عن سواه إلا في كونه يمتد طويلا حتى ليحتضن جسد المرء كله وتعبه فلا يضطر لترك قدميه تستجديان الراحة على الأرض.
كان أبـي يدعوه بـ ” كرسي الراحة “، وكانت أمي تسميه “كرسي التعب” لكثرة ما تشـاجرنا وتخاصمنا ونحن صغار على أي منـّا يحظى بالاستلقاء عليه في غياب والدي. ليس الاستلقاء تماماً بل والتنطّط والانزلاق على مساحته الجلدية الناعمة الممتدة طويلاً بالنسبة لحجم أجسادنا الصغيرة.
    “والدكُنَّ متعب، وهذا الكرسي مصدر راحته الوحيد فلا تحرمنه منه..إنزلن..كفى..سيعود فاقد الأعصاب..”!  
كانت أمّنا تردد هذه الكلمات كل يوم تقريباً بلا جدوى، غير أن جملة واحدة كانت تفعل فعلها في إعادة الهدوء والنظام إلى بيتنا الصغير: ” أدخلن غرفكن..!”. وكنا نمتثل دوماً، ولكن متأخرات، بعد أن يستشيط أبونا غضباً فينهر هذه ويزجر تلك ويعود منهكاً إلى كرسيـه الأثير ليغرق فيه وفي سحب أفكاره ودخانه.
غير أنّا بشقاوة الأطفال سرعان ما كنا نعود لنراه خلل الباب الموارب، نسترق السمع إليه ونتساءل ببراءة عن سرّ حزنه وتجهمه وهو يتحدث إلى أمنا بصوت ناءٍ، آتٍ من أزمان لم نعرفها، عن “حرسٍ” و” أزلام” و”رجل أوحد” و”حـمام دم”!
كم كانت ترعبنا هذه الكلمة الأخيرة..عن أي حـمّام يتحدثون؟! أهو مثل حمامنا الذي نعرف أم أن له علاقة ما بالحمام الذي اعتادت نساء العائلة أن يترددن عليه في أزمنة ماضية وما تدور حوله من حكايات غامضة أيام الخميس!.
    تنبهت اللحظة إلى أن وجه أختنا الجميلة بات أسمر، أشد دكنة من لونه المعتاد. وخطر لي خاطر أفزعني، ماذا لو لحـظت أمّنـا إغفاءة شقيقتنا الطويلة، مع أنـها اعتادت أن تقول: “دعوها تريح رأسها الصغير قليلاً، فقد هـدّها التعب بعد عناء نـهـار أمضته في جمع قدّاح أشجار حديقتنا المتساقط لتعطر به منـزلنا الأثيـر..”.
    لن تلحظ أمّنا شيئاً، فعطر القدّاح مازال يعبق في جنبات أرواحنا..ولكن ماذا لو جفّ القدّاح!! ماذا لو فاح “عطرها” وبلغ أمّنا! ستسألنا: ماذا فعلنا بصغرانا، فبم سنجيب؟!
    نحن الأربع قتلناها بـبـرود غريب. أنا ما اشتركت معهن.. بل فعلت إذ سكـتّ…!!
وهن..!! هن مضين يلهين، وأنا ما برحت جامدة متحجرة على حافة سريري، أحدق إلى الفراغ تارة، وأطيل النظر إليها تارة أخرى، خلل الباب المشرع أبداً، أترقبها متى تفيق من إغفاءتـها، أرقب تحول نومها، ليتها تستفيق الآن ..ليتها تصحو لحظة فقد طال سكونـها!! ‍
    بالأمس كنت ألقط أشواك الزمن الفضية التي نبتت غفلة في جسدي بعد أعوام الموت تلك..كنت أتكوم كتلة حزن على سريري، أرتاد وحيدة بـئـر العمر المسمومة، أحصي قتلاها وأنوح ، حين لقيتهن أمامي. مدت إحداهن يداً مرتعشة تحمل بضع أوراق تزدحم بالأسئلة ، تطلب إلي أن أضع الإمضاء الذي أتـقنته منذ الصغر، إمضاء أبي الذي ورثـتـه بغيابه ..
    قلن لي بحزم :”ستكون كلماتنا مقنعة.. وغداً سيعود المخبر عن أحلامنا ليأخذ الأوراق”.‍‍.‍!!   
     أردت أن أعترض ، أن أصرخ ، فما خرج صوتي. منذ متى استبدلت لساني بـهذه القطعة الخشبية..وكيف!!
    حاولت أن أسند الأوراق إلى ركبتيّ لأضع الخطوط التي أدمنت رسمها مراراً حتى أني كنت أضعها مغمضة العينين أحياناً، إمعاناً في الثقة بالنفس وتحدياً لشقيقاتي غير أني عجزت هذه المرة، إذ تراخت قبضتي وهوى القلم بعيداً…
    (كانت الطائرات تئزّ.. تـئزّ..تنأى وتقترب..تسدد فوهات جحيمها بدقة شيطانية، ترعد مسرعة وتمضي على عجل كمن يهرب من موت يطارده، وكان الليل يزداد كثافة ووحشة وبرداً كلما استعر الجحيم حين التقطت أختنا الجميلة الغائبة نايها الصغير وراحت تعزف..تعزف حتى طغى شجن عزفها على اصطكاك أسناننا وخفق قلوبنا.
      أخذ الخوف يتراجع ..يتراجع.. لتنفتح الذاكرة على لحظات مترعة بالدفء والضوء، بالضحكات والوشوشات، وبالظلال الراقصة. سكنت الأشياء وهدأت النفوس، فاحتضنا بعضنا بمحبة كبيرة ونمنا بعد أرق ليال نحلم بطفولات قصيّة.)
شعاع الشمس يسقط من نافذة غرفة الجلوس على مقعد لم يعد أبي  يستريح فيه  مذ أدرك الراحة الأبدية،وخيوط الضوء تتكاثر، تضئ وجهها بقوة. ألـمحه يبيّض، يسطع ببريق أخّاذ يؤلم العينين، ثم يعود ليخبو بغتة، يعتم إذ تقطع شعاع الضوء الساقط غمامة سوداء كبيرة.
    ستسود أختنا الجميلة، وستحزن أمنا. ستبكي صغرانا حد ابيضاض العينين وستسألنا: ماذا فعلـتـن بأخـتكن؟!.
حمداً للسماء أنـها الآن في غرفتها تواصل صلاتها وتـهجدها من أجل الغائـبة، لن تدرك ما فعلناه..كانت تحتضن رأسها دوماً وتداعبها معتذرة: “اغفري لي ياحبيبتي ..كدت أغتالك،كيف قاومت وصمدت برغم محاولاتي المتكررة لقتلك جنيناً في بطني..!؟ كم كنت بلهاء حين خشيت مقدم بنت خامسة، سامحيني..”.
وما كانت لتنتظر أن تكمل أمّنا كلماتـها إذ سرعان ما تمطرها بالقُبل، وهي تـهمس بما يشبه الحياء:”صمدت بطاقة الحياة الكامنة في العروق، سامحيني أنت..حقاً لقد خيبت رجاءك..!”
(حين ارتفع صوت المؤذن من مكبرات الصوت في الحي فرحنا، هللنا وكبرنّا.كان صوته، بعد صمت مقبري امتد دهوراً طويلة، يؤذن بنشورٍ ما.كهرباء سرت في الأجساد والأرواح استمدها الجميع من صوت المؤذن الذي طالما أقلق رقادنا مؤنباً وداعياً إلى الفلاح..
نـهضت اختنا في ذلك الصباح الفريد، صباح له طعم النجاة من الكارثة، وخرجت بـهمة من يمضي إلى عمل يعشقه لتعد البيوت التي خلت من ساكنيها. ثم عادت بعد ساعات، وأخرجت أكياس التمر التي كانت أمنا قد عبأتـها منذ شهور بكميات التمر(البرحي) المتساقط حول نخلتنا الصبور، مدخرة إياها لأيام الهول والقحط تلك.
 جلست أختنا  الجميلة تنـزع النوى بصمت عن حبات (البرحي)، تقدمها لنا لنأكلها، وحين شبعنا أصرت على أن تطعمنا المزيد. وبين الحين والآخر،كانت تحصي النوى لتقول أخيرا ً: “حسناً فعلـتم. كفى ما أكلتم لهذا اليوم..”. وما أن انتهت من مهمتها هذه حتى هرولت إلى الدور المجاورة، تغرس على مدى ساعات نواتين أمام كل منـزل غاب عنه أهله، ليعودوا. علّ زماناً يجئ، تكبر فيه النخلتان المزعومتان، فتحرسان وجود أهله، لا غيابـهم، كما فعلت نخلتنا في أيام الموت تلك.
في اليوم الأول تبعناها، واستعجلناها العودة قبل المساء، وقبل أن يبدأ الجحيم الليلي دورته المرعبة في ابتكار الفناء. وفيما بعد صرنا نشاركها فيما تقوم به. واعتادت أن تحاورنا بحرارة المؤمن بما يفعل، تحدثنا عن بذرة الحياة، عن قوة الأشياء، في زمان الجدب واليباب. ولم تُجدِ تعليقات بعضنا لها عن دور الفسائل في تكثير النخيل وعن النوى العقيم – المذكر- إذ كانت ترد علينا بإصرار: “الحرب مؤنثـة، ولن تكون مطلقة العقم أبداً..أبداً “. وتمضي في حفر التربة بأصابعها النحيلـة القوية. ثم تأخذ نواة (برحية)، تقبّلها وتضعها على جبينها كمن يقدس شيئاً، وتدسها في جوف الحفرة، ونحن من ورائها نهيل التراب، ونرجو السماء أن تمطر لتسقي نخلنا الموعود..)
بعد أن كبرنا وتجاوزنا عهد الشجار والاختصام على مقعد، آل “الكرسي” إليها. لم تكن تتذكر وجه أبينا إلا من صوره، غير أنـها اعتادت أن تشير إلى المقعد الكبير المتطاول، مرددة: ” سأرث تعب أبينا..”، وما أن تجلس عليه حتى تتخذ هيأتـه حينما كان يغرق في التفكير. هي ما كانت معنا ونحن نسترق السمع إلى أحزانه المبهمـة، إذ كانت لما تزل بعد محض فكرة هائمة مقترحة في رحم الغيب. بيد أنـها فاجأتنا يوماً بكلمات غارت في لحمنا وذاكراتنا عن “رجل أوحد” وعن “حرس” و “أزلام” و “بحار دم”!!
تطلعنا إليها مأخوذات، كان لصوتـها رنّة صوت أبينا، ولوجهها المشرق تجهم وجهه في تلك اللحظات. حدثناها بخوف ورجاء، وتشاغلت عنا بحكاية عن طائر الروح الذي يتـقن النجاة من فناء الجسد ومن حرائق الآخرين، وعن ورثـتـه، سليلي أشواقه. يومئذ بكت أمّنا بحرقة وعاتبت أبانا في الإطار.
مازلت أرقبها، آسرة تبدو اليوم في ملائكيتها. وجهها يزداد سمرة ويتوهج حمرة بفعل الشمس التي ما كفّت عن تقبيلها منذ الصباح. حدقت إليها طويلاً، حتى رأيـت رموشها الطويلة من مكاني على حافة السرير، وقد ابتلت بما يشبه الدمع ، إلا أن عضلة واحدة لم تختلج في وجهها وظل وديعاً غافياً كطفل آمن.
نقّلت بصري مراراً بين أصابعي وبين وجهها الحبيب، اعتذر عما لم تقترفه يداي. هن جرأن على رسم إمضائه، وأنا..أنا كنت أفعل ذلك في الماضي لأديم حضوره، وهن اليوم يمحون بعض وجوده. ألم يقلن لي: “سنكتب في الأوراق أنـها ماتت، فالمرء يموت في الغربة أيضاً!”
(صحونا ذات فجر، وكانت حبيبتنا، صغيرتنا الأثيرة، تلملم أشياءها الحميمة لترحل طائراً وحيداً أعزل إلا من جناحيه. لم تتردد طويلاً ، ودّعتنا بقبلات سريعة خاطفة وحلقت صوب الشمال. كانت تعرف المواسم خيراً منا، فأدركت بفطرتـها الأصيلة أن موسم الهجرة قد آن..
لم تبكِ ولم تصغِ لبكاء أمنا. واكتفت بأن انتزعت صورة لها من ألبومها الخاص ، كانت تبدو فيها وريثـة حقيقية للتعب والاسترخاء والإغفاء، وللحلم أيضاً..ووضعتها في إطار جميل أعدته سلفاً للحظة هذه، فقد كانت مولعة بالتفاصيل شديدة الاعتناء بـها . علقت الصورة على الجدار بصمت، وما أن بلغت عتبة الباب حتى استدارت، وبعينين محتقنتين بشتى الأحاسيس بالكاد سمعناها تقول: ” دعوني غافية هنا، سأودع أماني معكم، لن أعرف إغفاءة أخرى كهذه..أرجوكم، احرسوا نومي لأعود..”)  
لن تعود أختنا الجميلة..
 جرس الباب يدق بوحشيـة ومعه قلبي. أحاول أن أجرجر جسدي بخطىً رصاصية نحو النافذة لأرى صك اعتراف بالقتل خططناه بأيدينا. قتلناها إذن، أختنا وتوأم ذاكراتنا ووريثة تعب أبينا!!
 ألمح هيأة غامضة، لرجل بلا ملامح يقف خلف سور الحديقة، يمد أصابع غليظة تطبق على الأوراق وقد غدا لونها أحمر. تطلعت إليه وعدت أرقب وجه أختنا الجميلة، وقد اصطبغت وجنتاها بحمرة شفقية. أصابعي كانت حمراء، ووجهي أيضاً.كل الأشياء تلونت بدماء ذلك الغروب، حتى الذاكرة.                               

    *من مجموعتي القصصية “تأملات بوذية على رصيف الموت”، دار الألف- مدريد.
    *كاتبة ومترجمة وأكاديمية عراقية مقيمة باسبانيا.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد الدرقاوي : كنت أفر من أبي .

 هي  لا تعرف لها  أبا ولا أما ،فمذ رأت النور وهي  لا تجد أمامها  غيرهذا …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| كريم عبدالله : وحقّك ما مسَّ قلبي عشقٌ كعشقك .

كلَّ أبواب الحبِّ مغلّقة تتزينُ بظلامها تُفضي إلى السراب إلّا باب عشقك مفتوحٌ يقودني إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *