محمد رشيد السعيدي : خارطة لغوية لنص قصصي

خارطة لغوية لنص قصصي
محمد رشيد السعيدي
ناقد
الطريق الثقافي /هولندا/ العدد 38 في 1 آذار 2011
جريدة (الزمان) الدولية العدد 4506 في 18 / 5 / 2013

     هل النص أسئلة أم أجوبة؟
     هل النقد أجوبة أم أسئلة؟
     حين اختار النص الحديث أن لا يكون بحثا اجتماعيا، ولا تقريرا تاريخيا لأحداث لم تحدث غالبا؛ فقد أصبح نبشا في قبور لم تجف، وكشفا عن جثث / وقائع تزكم رائحتها الأنوف.
     هل سيكون النقد أجوبة، حين كان النص أسئلة؟
     أم أن النقد سوف يكرر، عائدا من حيث لم يبدأ النص، فيكون أسئلة، حين يكون النص أجوبة؟
     حين يغيب المعنى، يصبح البحث عنه عبثا، ويعثر الباحث على المعنى في عملية البحث نفسها، بعد أن يتوصل إلى هشاشة الهدف أو عدميته.
     يشمل البحث عن المعنى، في الخطاب الأدبي، ضمن ما يشمل، نفض الغبار عن آليات التشكل النحوي، وتمظهر الوحدات الصغرى والكبرى، والكشف عن العلاقات التي تربطها. 
     تقوم هذه المقاربة النقدية بتحليل الخطاب الأدبي( ) في قصة (الجذر التربيعي للقمر)( )، إلى بنياته الأولية، من خلال تقسيمه إلى وحدات، كبرى وصغرى، للوقوف على دوالها، ومعرفة العلاقات التي تربط بينها.

الوحدات الكبرى:
1. المشهد الأول: يبدأ هذا المشهد (الوحدة الكبرى) بجملة (الوحدة الصغرى): “قمر أحمر أدكن……”، وينتهي بنهاية الإعلان الأخير: “…… موكب جنازة”. لذا فسينقسم هذا المشهد إلى الوحدات الصغرى (الجمل) الآتية:
1. 1. “قمر أحمر أدكن تأرجح بين تربيع أول وتربيع ثان”: هي جملة مركبة لأنها اسمية، ورد فيها (أدكن) أفعل التفضيل، وجاء فعلها بين ثلاثة أسماء وأربع صفات وظرف.
1. 2. “لا حل” جملة اسمية منفية بـ (لا) النافية للجنس.
1. 3. “أحتجز القمر تحت الجذر التربيعي”: جملة فعلية، فاعلها ضمير مستتر يعود على المتكلم / الراوي، إن لم يكن ثمة خطأ مطبعي( )، وهي واحدة من اثنتين فقط من هذا النوع في النص.
1. 4. “صافرات إنذار متقطعة تلاها دوي طائرات قادمة تسبقها التماعات فضية”: جملة اسمية مركبة من ثلاث جمل، تربط الثانية بالثالثة علاقة زمنية متعاكسة، متداخلة: “تلاها دوي” ، “تسبقها التماعات”، جاء اللاحق، فيها، قبل السابق: كما توضح الخطاطة (1):

الخطاطة (1)

1. 5. “دوي طائرات مبتعدة أعقبه صافرات مستمرة”: ترتبط الوحدات الصغرى في الجملتين (1. 4.) و (1. 5.) بعلاقات متعددة يوضحها الجدول التالي:
    أ    ب    ت    ث    ج    ح    خ
1. 4    صافرات    إنذار    متقطعة    تلاها    دوي    طائرات    قادمة
1. 5    دوي    طائرات    مبتعدة    أعقبه    صافرات    إنذار    مستمرة
(الجدول 1)

علاقات محتويات الجدول:
1. العلاقة المركزية هي علاقة تبادل بين: (1. 4.) و (1. 5.).
2. علاقات تشابه بين:
2. 1. (1. 4. أ) و (1. 5. ج)
2. 2. (1. 4. ب) و (1. 5. ح)
2. 3. (1. 4. ج) و (1. 5. أ)
2. 4. (1. 4. ح) و (1. 5. ب)
3. علاقات تناقض بين:
3. 1. (1. 4. ت) و (1. 5. خ)
3. 2. (1. 4. خ) و (1. 5. ت)
ويمكن شرح (الجدول 1) بواسطة (الجدول 2):
نوع العلاقة    العدد
تبادل    1
تشابه    4
تناقض    2
(الجدول 2)

     الآن، وبانتهاء الجملة (1. 5) فقد انتهت الصورة الأولى من المشهد الأول، إن لم يكن ثمة خطأ مطبعي في علامات الترقيم. تلك الصورة المنظور اليها من الأسفل، أي: صورة الفضاء منظور اليها من الأرض. وهي صورة عمودية. لتبدأ الصورة الأفقية:
1. 6. “المدينة رادار رمادي كبير يسترق السمع”: فارتبطت الصورة الأفقية بالصورة العمودية، من خلال علاقة الصوت: (الجملة 1. 4: صافرات انذار)، و (الجملة 1. 5: دوي طائرات) بـ (الجملة 1. 6: يسترق السمع).
1. 7. “وشهرزاد في آذانها وقر سكتت عن الكلام المباح لسماعها إذاعة إعلانات متواصلة نقلتها كافة الإذاعات السمعية والمرئية”: وقر: “الوقر: ثقل في الأذن، بالفتح، وقيل: هو أن يذهب السمع كله، وقد وقرت أذنه، بالكسر، أي صمّت”( ). “سكت: السكت، والسكوت: خلاف النطق”( ). جعل الراوي شهرزاد صماء بكماء، فألغى أساس القصصية العربية، ليستأثر بالقص، فلنر: هي جملة اسمية تنقسم إلى أربع جمل صغيرة:
1. 7. 1. “وشهرزاد في آذانها (أذنيها) وقر”.
1. 7. 2. “سكتت عن الكلام المباح”.
1. 7. 3. “تسمع إذاعة إعلانات متواصلة”.
1. 7. 4. “نقلتها كافة الإذاعات السمعية والمرئية”.
     ترتبط الجمل (1. 7. 2، و 1. 7. 3، و 1. 7. 4) فيما بينها بعلاقة التوأمة، وترتبط كلها بالجملة (1. 7. 1) بعلاقة التوالد.

2. المشهد الثاني: يبدأ هذا المشهد من: “عبر المشيعون….” إلى: “……. تصل الجنازة إلى نصبها.”
2. 1. “عبر المشيعون شوارع المدينة”، فتكون النتيجة المنطقية = اصطدم المشيعون بجدران البيوت وواجهات المحال. أو سار المشيعون في شوارع المدينة [كي]:
2. 2. “ضمهم درب طويل مزدحم:”: انفتح الضمير (هم)، بدل (المشيعون)، بواسطة النقطتين الرأسيتين (:) إلى أصناف المشيعين:
2. 2. 1. “دفانون، سماسرة، متملقون، شحاذون، منافقون”.
2. 2. 2. “انحدروا برهبةٍ كسرت مواشير الضوء البلورية” ونضع نقطة (.) لافتراض انتهاء الجملة. حيث تقوم الصفة (رهبة) بـ:
•    الرهبة: حال المنحدرين، بدلالة (واو) الجماعة.
•    الرهبة: فاعل كسرت.
•    الرهبة: ربطت بين جملتي: “انحدروا” الأرضية، و “كسرت مواشير الضوء” الفضائية.
 ولولا الفعل “يبدون” لارتبطت بجملة:
2. 3. “كشناشيل مغروسة في الاسفلت،” بواسطة (ك) التشبيه. لتتجلى الصورة الآتية:
•    الشناشيل: بناء فوقي.
•    الاسفلت: مادة لطلاء الأرض.
•    وجملة “شناشيل مغروسة” مشبه به لـ: “دفانون، سماسرة،…..”.
2. 4. “تمازجت أنفاسهم مندفعة مع ألوان ملابسهم المتدفقة كمد بشري حركاته تزفر زبداً رغوياً زنجاً حجب شقرة الشمس”، تتركب هذه الجملة من خمس جمل، هي:
2. 4. 1. “تمازجت أنفاسهم مع ألوان ملابسهم”.
2. 4. 2. “اندفعت أنفاسهم مع ألوان ملابسهم”.
2. 4. 3. “تدفقت أنفاسهم كمد بشري”، التي تحتمل احتمالين، هما:
         أولا: تدفقت ألوان ملابسهم كمد بشري.
         ثانياً: تدفقت ملابسهم كمد بشري.
2. 4. 4. “تزفر حركات المد البشري زبداً رغوياً زنجاً”.
2. 4. 5. “حجب [المد البشري] شقرة الشمس، أو:
                “حجب [الزبد الرغوي الزنج] شقرة الشمس.
والجمل الخمس كلها صفات للـ “المشيعون”.
2. 5. “ساح نواحهم في شرايين المدينة بكاءاً عطل رادارهم عن التقاط لغط المشيعين”: ثمة احتمالان، ارتباط هذه الجملة، أو عدم ارتباطها، بالجملة (2. 1.):
الأول: ترتبط، اذا عاد الضمير (هم)، في (نواحهم)، على (المشيعون).
الثاني: لا ترتبط لوجود (هم) أخرى في (رادارهم)، التي تعود على آخرين غير (المشيعون).
 2. 6. “1ــ من المرحوم؟ 2ــ من أهله؟ 3ــ ابن من؟ 4ــ كيف توفي؟ 5ــ هل صابته شظية نتيجة القصف؟ 6ــ أقصفت دارهم؟ 7ـ ماذا يشتغل؟” سبعة أسئلة لا جواب عليها، حوار من طرف واحد. حتى يأتي السؤال “الديكي”: “أغني أم فقير؟”. ثم بعد هذه الأسئلة التي تشترك في كونها مجهولة السائل، يأتي سؤال من معروف:
2. 7. “سأل رجل بدين ذو بدلة أنيقة: ـ”.
2. 8. “بائع شموع يضع سبابته على فم الدفان مصدراً صوتاً طويلاً”.
            بائع: نكرة.
           شموع: نكرة.
           اضافة النكرة إلى نكرة جعلتها معرفة، إلى حدٍّ ما.
2. 9. “كمشروع حلم منسرب في حنايا الذاكرة تذكرت بطون الجياع نواح بطونهم،”: يمكن قراءة المركب الأخير لهذه الجملة: “تذكرت بطون الجياع نواح بطونهم”، كما يلي:
أولا: تذكرت بطون الجياع نواح بطون الجياع.
ثانياً: تذكرت بطون الجياع نواح بطونها.
ثالثاً: تذكرت بطون الجياع نواح بطون جياع آخرين.
2. 10. “قارئ أدعية نصحهم بصوت مشروخ مثل قطار سياحي”: يتكرر تعريف النكرة بنكرة، للمرة الثانية، قد يجعلها نصف معرفة، أو نكرة مركبة. ويمكن أن نقرأ: قارئ الأدعية. كما أن الجملة الاسمية التي تحتوي على فعل، يمكن آن تبدأ بالفعل: نصحهم قارئ الأدعية. وتم تأكيد الـ (صوت) بتشبيه مركب. لنتصور:
أولا: صوت مشروخ.
ثانيا: صوت مشروخ مثل قطار سياحي.
فتعلق الـ (القطار السياحي) بـ (الصوت المشروخ)، فقط لأنه مشروخ. ولو لم يكن مشروخاً لما أمكن تصور كون الجملة: صوت مثل قطار سياحي.
أو، باعتبار بطلان هذا التصور، تكون الجملة، في قراءة أخرى: 
        مشروخ
قطار سياحي
قارئ أدعية  > صوت   
       
(الخطاطة 2)

3. المشهد الثالث: ويبدأ من: “أضاءت الشمس………..” وينتهي بـ: “…….. ابيض طويل”.
3. 1. “أضاءت الشمس بغروبها هامات النخيل بشعلات لازوردية”: في هذه الجملة الفعلية، يمكن ملاحظة العلاقة، بين (غروبها) و (شعلات لازوردية)، من خلال حرف (الباء)، القائمة على المفارقة، أو المفترضة لكون الباء بديل الـ (في) المفيدة للظروف.
3. 2. “بدا الضريح تحت ضوء الشفق كأنه زفر نار على مجمرة الأفق التي كست جدرانه نعاساً بلون الدم،”: لتوضيح العلاقة بين الكلمات، يمكن الاستغناء عن (تحت ضوء الشفق) المركبة من ظرف المكان: تحت، وظرف الزمان: ضوء الشفق، للتخلص من عبثية (كأن) و (التي)، ولتقسيم الجملة، كالآتي:
أولا: بدا الضريح كأنه زفر نار على مجمرة الأفق.
ثانياً: كست جدرانه نعاساً بلون الدم.
لكي يبدو لـ (ثانياً) افتراضان، هما:
•    كست مجمرة الأفق جدران الضريح.
•    كست زفر النار جدران الضريح.
أما مركب (نعاساً بلون الدم)، فيمكن أن يكون دالة لعدد لا متناه من المدلولات.
3. 3. “همدت مجمرة الكون في كانون الأفق”: لهذه الجملة تشكيل ملفت، يتعلق بتداخل مكان (مجمرة الكون) في مكان آخر (كانون الأفق).
كما أنها مرتبطة بمركب من الجملة (3. 2) يتضح في الجدول التالي:
    أ    ب    ت
3. 2.    زفر نار    على    مجمرة الأفق
3. 3.    مجمرة الكون    في    كانون الأفق
(الجدول 3)

     حيث يمكن توضيح العلاقات التي ضمها (الجدول 3) في ما يلي:
3. 3. 1. علاقة تناقض بين: (3. 2. ب) و (3. 3. ب)
3. 3. 2. علاقة تبادل بين:
3. 3. 2. 1. (3. 2. ت) و (3. 3. ت).
3. 3. 2. 2. (3. 2. ت) و (3. 3. ت).
3. 4. “التهم القمر جياع العالم الثالث”: يمكن قراءة هذه الجملة، بغياب علامات الإعراب، قراءتين، هما:
3. 4. 1. التهم القمرُ جياعَ العالم الثالث. فيكون (القمر) فاعلاً.
3. 4. 2. التهم القمرَ جياعُ العالم الثالث. فيكون (القمر) مفعولاً به مقدم.

4. المشهد الرابع: يبدأ بـ: “سكتت شهرزاد” وينتهي بـ “جنازة فرسه”.
4. 1. “سكتت شهرزاد عن الكلام المباح”: بين هذه الجملة والجملة (1. 7) علاقات يوضحها الجدول (4):
    أ    ب    ت    ث
7. 1    شهرزاد…    سكتت    عن الكلام    المباح
4. 1    سكتت    شهرزاد    عن الكلام    المباح
الجدول (4)

1.    الجملة (7. 1) اسمية، والجملة (4. 1) فعلية.
2.    تطابق بين:
•    (7. 1. ت) و (4. 1. ت).
•    (7. 1. ث) و (4. 1. ث).
4. 2. “لسماعها بيانا مهما نقلته وكالات الاذاعات السمعية والمرئية”:
ترتبط هذه الجملة بعلاقة تناقض مع الجملة (1. 7)، حسب ما يوضح الجدول (5):
    أ    ب    ت
1. 7    وشهرزاد    في آذانها    وقر
4. 2    لسماعها    بيانا    مهما
الجدول (5)

تناقض بين (1. 7. ت) و (4. 2. أ).
كما تظهر المفارقة التاريخية/ القصصية، في هذه الجملة، باختلاف بسيط عن جملة (1. 7)، هي أن الراوي التقط (المايكرفون) من يد شهرزاد، وأجلسها على دكة الاستماع. ويحصل هذا بشرط تجاوز (1. 7. ت).
الخلاصة:
     في رؤية نقدية ما، ليس جديدة، يمكن النظر إلى النص عموما، والسردي خصوصا، على انه معمار لغوي قبل أي شيء آخر. وما الأشياء الأخرى إلا نتائج وتصورات يقوم الكلام بإيصالها إلى القارئ أو المستمع، مما سيفتح الأفق عريضا لأهمية القراءة. لذا فثمة معطيان يترتبان على هذه الرؤية، هما:
1.قد يكون من الأفضل دراسة البناء الشكلي، بتفرعاته الكثيرة وبضمنها اللغة، قبل دراسة الموضوع.
2.قد يكون الشكل مجالا إبداعيا اكبر للكاتب، حين لم يعد الكثير من الموضوعات بكرا.
     وقد بدا واضحا، أن هذه المقاربة النقدية لم تتطرق إلى المدلولات، واقتصرت على الدال والدلالة، لكن كثيرا من المدلولات أصبحت قريبة من تصور القارئ للقصة وللمقاربة، مما يؤكد قدرة الدراسات النصية، دون الاستعانة بالمناهج الأخرى، على تحليل وشرح وتوضيح النصوص، وقراءة الموضوع من خلال الشكل، واستنطاق الشكل لإعطاء دلالات موضوعية.
———
 (1) تحليل الخطاب الأدبي، سعيد يقطين، ط4، 2005، المركز الثقافي العربي، المغرب، ص14.
 (2) زليخات يوسف، علي السباعي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2005، ص84.
(3) حيث ستتغير زاوية النظر، ويتغير صوت الراوي، لكن هذا غير داخل ضمن إطار هذا البحث.
( (4) لسان العرب، ابن منظور، دار الأبحاث، الجزائر، 2008، ج15، ص353.
(4) المصدر نفسه، ج6، ص 285

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *