عبد علي حسن : القصة القصيرة العراقية وخطاب الواقع

* القصة القصيرة العراقية وخطاب الواقع

. امتلكت القصة القصيرة العراقية ارثا وتقاليدا امتدت عبر عقود طويلة منذ ثلاثينات القرن الماضي ، ولئن بدأ النشاط السردي بالقصة القصيرة فإنها قد تعرضت في العقود اللاحقة الى رفد مستمر على صعيد تعالقها مع الواقع والكشف عن الحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ، وقد كانت في بدء ظهورها بسيطة وواقعية فوتوغرافية تفتقر الى الكثير من التقنيات والآليات السردية ، الأمر الذي جعل البعض يصفها حتى ستينيات القرن الماضي بأنها ليست أكثر من(عرض حال) وما ان دخل العقد الستيني بكل ما افرزه من معطيات جسيمة على سبيل الاتصال بالآخر العربي والعالمي وجسامة الاحداث التي شكلت حافزا ودافعا قويا لدى القصاصين العراقيين لتجاوز الخطوط التي وضعتها القصة في العقود السابقة ، فبدا التجريب القصصي يتخذ وضعا تاسيسيا للعديد من القصصاين الذين ظهر منجزهم في هذا العقد وعد واحدا من الوسائل وربما الغايات في احيان اخرى في التجاوز وتاسيس خطاب قصصي جديد ينطلق من هفوات ومستوى القصة السابقة وتجاوزها بأساليب وتقنيات جديدة اشرت لاسلوب هذا القاص او ذاك واستطاعت هذه الاساليب من فرض تأثيرها على القصة العراقية لعقود لاحقة . وازاء ذلك يمكننا القول بان القصة القصيرة العراقية تمكنت من تسيد المشهد الثقافي مشاركة مع الشعر حتى تسعينيات القرن الماضي .ولعل من اسباب تقدم القصة القصيرة المشهد الثقافي والمؤثر هو استيعابها للتحولات الاجتماعية الخطيرة في البنية الاجتماسياسية العراقية منذ ستينيات القرن الماضي وقدرتها على سحب واغراء المتلقي لتقدم له ماهو معرفي وجمالي حديث يتناسب ومستوى وعيه الذي بدا بالتشكل على نحو واسع ومتقدم باتجاه المعرفة الممنهجة والشاملة.
لذا فقد كانت القصة القصيرة منسجمة مع خطاب الواقع ومعبرة عنه بشكل يلبي الحاجة النفسية والاجتماعية والسياسية للمتلقي العراقي . وعلى الرغم من ظهور اثر الفكر الوجودي واللامعقول في بعض التجارب فان ذلك كان انعكاسا لحراك الواقع السياسي والاجتماعي العراقي ويعد امرا طبيعيا طالما كان الهدف منه هو الكشف عن المتناقضات وحالات الجور والظلم التي تعرض لها الفرد العراقي والمثقف على وجه التحديد . فضلا عن حاجة المتلقي الى خطاب ثقافي يتماهى ومنطق العصر المتسم بالسرعة والدخول الى اعماق الظواهر الفاعلة في الحراك الاجتماعي عبر الرمز والتاويل. فظهرت أجيال قصصية منذ الستينيات اسهمت في اثراء الخطاب القصصي وتقدمه المشهد الثقافي وتبين التأثير المعرفي لهذا الخطاب على نحو واسع وايجابي .
على ان ماتعرضت له البنية الاجتماسياسية العراقية في نيسان 2003 ولحد الآن قد شهد تراجعا في الظهور القوي للقصة القصيرة مقابل تقدم وتسيد الظاهرة الروائية على الرغم من صدور عديد المجاميع القصصية فضلا عن ماتنشره الصحف اليومية الكثيرة والمجلات الادبية المتخصصة من قصص قصيرة . ونرى ان السبب لايعود الى الكم الكبير من الاصدارات الروائية بقدر ما توفره الخصائص الاجناسية للرواية وقدرتها على استيعاب الاحداث الهائلة التي رافقت عملية التغيير منذ 2003 . وتجدر الاشارة الى ان السرد العراقي سواء كان قصة او رواية ظل مخلصا لحراك الواقع معتبرا اياه نقطة شروعه الاولى لمد الجسور والمصالحة بينه وبين الواقع والمتلقي .وتلك تقاليد تمكن السرد العراقي المعاصر من الحفاظ عليها والاضافة لها . لذا فإن تقلص اثر القصة القصيرة في المشهد الثقافي العراقي يعود الى تفاقم حاجة المتلقي الى سعة في التعبير عن مايجري في الواقع العراقي من تضادات دينية وطائفية وسياسبة وقومية ، هذه التضادات المتخذة طابعا مسلحا مهددا لوجوده الانساني، الامر الذي جعل الحياة اليومية للفرد العراقي مؤطرة بمظاهر العنف والموت والانتهاكات الانسانية بشتى الذرائع.
لذا فإن الرواية قد تقدمت المشهد دون القصة لما تمتلكه من مساحة واسعة تتناسب وحجم حراك خطاب الواقع تجعل المتلقي في منطقة الاحساس العميق بفداحة الاكراهات التي يعاني منها . وبذا فقد استجابت الرواية لإيقاع الواقع ومعطياته .

كما انها — الرواية — قد استلمت الشفرات التي يبثها خطاب الواقع الذي تعرض لرجة استدعت خطابا تعبيريا متناسبا والزحزحة التي احدثها حراك الواقع في تعرضه كمتعال . ولعل هذه الحقيقة الجدلية تسري على كل الأجناس والانواع الأدبية حين يتعرض فيها المتعالي الى رجة فإننا نشهد انقراض او تراجع اهمية جنس او نوع ليخلي المكانة الى آخر متناسب معه .وهذا بالضبط ماحصل للقصة القصيرة العراقية في زحزحة أهميتها المكانية في المشهد الثقافي وتاركة تلك المكانة الى الرواية ، فهو ليس عجزا في القدرة لدى كتاب القصة ولاهو نقص في المنشور من القصة مجاميعا او قصص منفردة في هذه الصفحة او تلك .وانما في الطبيعة والخصائص الاجناسية التي لم توفر مساحة كافية تتناسب ومساحة الخطاب في الواقع المنتهك والمنفتح على دراماتيكية متسعة تتطلب تعميق الاحساس برسائل خطاب الواقع الذي كان للرواية بما تمتلكه من امكانيات بنائية لاستيعاب آثار ومعطيات الرجة والزحزحة التي طالت المتعالي .
على ان ذلك لايعني توقف هذا النوع السردي وأعني القصة عن أداء دوره في الاستجابة لمعطيات الواقع وافرازاته ، وانما يبقى لها وبما تمتلكه من ارث ثقافي وتأثير في الذاكرة الجمعية حضورا ثقافيا يتشكل عبر اقتناص الحدث الجزئي الممتلك لقوة الاشارة المعنوية التي تمنح المتلقي لحظة التفاعل مع خطاب الواقع بما تمتلكه من خصائص اجناسية استطاعت أن تأكد حضورها في الوعي المعرفي والجمالي للمتلقي . وازاء هكذا مهمة فان القصة امام مسؤولية جديدة تتطلب قدرا من انتشالها من سكونيتها والانتقال بها الى مناطق أكثر اثارة واغراء للمتلقي ولايتأتى ذلك الا عبر الاجتهاد لاستحداث اساليبا وتقنيات جديدة تخرجها من منطقتها السابقة للتحول البنيوي للمجتمع .وهكذا ستتمكن من اعادة هيبتها الثقافية الموازية لفعل الواقع ومستجيبة لخطابه المكتنز والثري بمعطياته المتسعة والمتساوقة وعجائبيته وغرائبيته اليومية .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *