إشارة :
طبع القاص والروائي “جابر خليفة جابر” بصمته الأسلوبية المميزة على خارطة السرد العراقي عبر فهم عميق لسرّ الحداثة المنبثقة من عمق التراب العراقي (تراب البصرة تحديداً). يذكرنا جهد جابر أو مشروعه بما قاله الراحل الكبير “عبد الرحمن منيف” في رسالة إلى المبدع “شاكر خصباك”: “النجف وحدها تضع مائة رواية أهم وأخطر من ” مائة عام من العزلة”. واعتزازا بتجربة جابر السردية المتفرّدة تبدأ أسرة موقع الناقد العراقي ملفها عنه وتدعو الكتّاب والقرّاء إلى إغنائه بالمقالات والصور والوثائق.
قراءة في رواية” مخيم المواركة”
سعد محمد رحيم
ومثلما يفعل علي عباس خفيف في روايته ( ستة أيام لاختراع قرية ) يلجأ جابر خليفة جابر في روايته ( مخيم المواركة/ دار فضاءات.. عمّان/ 2012 ) إلى بناء تشكيل سردي يعتمد تعدد الرواة، وما يتبعه من تباين في وجهات النظر، وتداخل في أنساق السرد.. وأيضاً، مثلما في رواية علي عباس، تأتي مخطوطة الرواية جاهزة إلى الراوي الأول الذي هو المؤلف نفسه، باسمه الصريح، كما سيعلمنا في الصفحة الأولى من السرد الروائي. لذا سيتعاطى معه القارئ، ها هنا، شخصيةً في الرواية، إلى جانب الشخصيات الأخرى المتخيّلة. وإذا كانت مخطوطة الرواية الأصلية في رواية ( ستة أيام.. ) ستصل باليد وهي ملفوفة بأكياس نايلون سود موحلة ومتآكلة وممحوّة في أجزاء منها، فإنها في رواية ( مخيم المواركة ) ستصل للراوي الأول نقية، واضحة، عبر الفضاء الافتراضي لشبكة الإنترنت.
يعلمنا الراوي الأول أن الرواية هذه أُرسلت كاملة إلى بريده الإلكتروني من قبل شخص يدعى عمار أشبيليو، وقد نقلها عن راوٍ آخر من أسلافه اسمه عمّار اشبيليو كذلك عاش قبل أكثر من أربعة قرون، والأخير ليس هو المؤلف الحقيقي للرواية.. نقرأ:
“ولأن عمّار اشبيليو الأول لم يذكر لنا بالتحديد من هو مؤلف الرواية المسمى بـ حامد الأندلسي، هل هو شقيقه حامد بن قمرين، أم هو حامد بن كناري أخته؟. وغير هذا لا أحد يعلم كيف اجتازت الرواية مئات السنين لتصل إلى عمار أشبيليو الأخير؟. لهذه الأسباب مجتمعة، ولكي لا يضيع القارئ في متاهة البحث عن المؤلف، قررت أن أدعي تأليف الرواية، وأضع اسمي على غلافها.. جابر خليفة جابر”.
حرصت على اقتباس هذا المقطع الطويل نسبياً من الصفحة الاستهلالية للرواية لما يخلقه من أفق توقع في ذهن القارئ يعينه في ما بعد على إضاءة العناصر الأساسية وشبكة العلاقات بين الرواة والمروي لهم داخل نسيج النص الذي بين أيدينا. فضلاً عمّا يولِّده من تساؤلات واعتراضات تخص توازن التشكيل السردي ومنطقه.
ما سيحصل لاحقاً هو أننا لن نقع قط على مخطوطة حامد الأندلسي، وإنما على رواية تُسرد، شيئاً فشيئاً، وتنمو، من قبل رواة جماعيين في مخيم أُقيم أول أيام 2009 وتنقّل بين مناطق متفرقة من الأندلس، حيث يبرز دور المخيّلة، ومعها الافتراضات القائمة على الرجوع إلى مخطوطات ومرويات قديمة، ناهيك عن تحيزات الرواة أنفسهم، في بناء الرواية المنقولة بتفاصيلها كلها من قبل عمار اشبيليو الأخير، وبوساطة البريد الإلكتروني إلى الراوي الأول/ المؤلف. وإذن أين هو موقع مخطوطة الأندلسي داخل الرواية، حيث لن ترد سوى نتف منها؟. فهناك، في سبيل المثال، الفصل المعنون ببنات الأندلس إذ يتحدث حامد الأندلسي عن منافسة بين رسامَين في قاهرة المعز لدين الله الفاطمي، وأمام وزير السلطنة، أحدهما مصري اسمه بن عزيز والثاني عراقي، اسمه قاسم، هارب من بطش صاحب الشرطة في بغداد، وهو فصل مثير لكننا لا نكاد نميّز بين الأسلوب الذي كتب به، والمفردات اللغوية المستخدمة في إنشائه ( يُفترض أنه دُوِّن قبل أربعة قرون ) وبين أسلوب ولغة الرواة المعاصرين.
كان الأجدر بالمؤلف أن يذكر أن مخطوطة حامد الأندلسي عُدّت المصدر الأساس الذي ألهمَ الرواة المعاصرين ممن كتبوا مخطوطة الرواية التي وصلت أخيراً إليه بوصفه الراوي الأول. وبذا لن يبقى من مبرر لذكر الجمل الأخيرة من صفحة الاستهلال المعنون بـ ( اعتراف ): ” لهذه الأسباب مجتمعة، ولكي لا يضيع القارئ في متاهة البحث عن المؤلف، قررت أن أدعي تأليف الرواية، وأضع اسمي على غلافها.. جابر خليفة جابر”. وكان الراوي الأول قد أعلن في تلك الصفحة ( ومنطقياً يجب أن تُكتب بعد أن تكون الرواية جاهزة، ويكون قد وقع على المعلومات الواردة فيها كلها ) من أنه لم يعرف أي الـ ( حامدين ) قد كتب الرواية. غير أننا نحن القراء نعثر على الإجابة في الصفحتين 112، 113 من الرواية، وبشهادة يحيى المجريطي: “كلاهما اسمه حامد… إنهما معاً يحملان لقب حامد الأندلسي وهما قريبان على ما يبدو، إذ باشر الثاني إكمال مخطوطة الأول التي تركها ناقصة، وكان يسمّيه بخالي..”.
هنا نتساءل؛ هل المخيم متخَيّل في ذهن عمّار أشبيليو الحالي، أم هو حقيقي. وإذا كان حقيقياً فما الوظيفة التي يؤديها كل من عمار أشبيليو الأول وحامد الأندلسي في حبك الرواية ( تأليفها )، إذا كانت تُحبك من قبل شخصيات تعتمد مخيلاتها ومصادر تزعم أنها تاريخية، ليست بينها سوى تلميحات لمخطوطة الأندلسي؟. علما أن أشبيليو الأول والأندلسيَين شخصيات فاعلة واقعياً، في إطار الحكاية العابرة لأزمنة ممتدة. أما إذا قلنا أن عمار أشبيليو الأخير شخصية متخَيّلة داخل النص المتخَيّل نفسه بالرجوع إلى الرواية، في أحد افتراضاتها.. حيث نقرأ:
“أحياناً أشك في نفسي وأكاد أصدّق بأنّي أنا من يختلق كل هذي الأحداث والحكايات ويكتبها..
بعد أيام أفضيت بشكوكي وما أنا فيه من تشوش إلى عمار أشبيليو، والغريب أنه ردد ببرود:
ـ إن هذا ما يحصل لي تماماً”. فهنا أيضاً لا نحتاج إلى الزعم بأن حامد الأندلسي ( المتوفي قبل أربعة قرون ) هو مؤلف الرواية المكتوبة بأسلوب فني ينتمي لعصر ما بعد الحداثة.
ويمكن ان يكون عمار أشبيليو الأخير هو الراوي الأول/ المؤلف جابر خليفة جابر ( داخل النص ) نفسه، وقد تقمص شخصية عمار، أو جعله يقفز من عالمه الافتراضي إلى العالم الواقعي في حديقة الأندلس ( لاحظ دلالة التسمية ) بمدينة البصرة، مثلما سيوحى إلينا بذكاء في المقطع الأخير من الرواية. وبذا تكون الرواية، بمتنها الحكائي، إبداعاً محضاً للراوي الأول السابح في عالم من التخيلات، مستعيناً بمصادر تاريخية من جهة، ومستثمراً ممكنات الاتصالات الحديثة عبر الإنترنت في تشييد تشكيله السردي من جهة ثانية.. هذا التشكيل الذي اعتمد، كما نوّهنا، تقنية تعدد الرواة. هذه التقنية التي تقود إجرائياً، وبالضرورة، إلى تكسير السياق الخطي للزمن، لنكون مع حركة مكوكية في انتقالنا بين الماضي والحاضر، بين التاريخي والمتخيل، وبين الواقعي والافتراضي. ولنحظى من ثم برواية تتناغم أنساقها السردية المختلفة.
في الرواية/ أية رواية، لا نعكس واقعاً قائماً بطريقة مسطّحة، في مرآة مستوية، وإنما نخلق واقعاً مناظراً.. نقيم تاريخاً لا يتطابق مع التاريخ الموضوعي. لكنه الواقع والتاريخ المبدعَين اللذين يؤمِّنان فهم الواقع والتاريخ الحقيقيين في العمق. في جوهريهما وروحيهما. فهل استطاعت رواية مخيم المواركة أن تحقق هذا؟
تتناول الرواية تاريخ مجموعة من العائلات العربية الإسلامية ( المواركة ) المضطهدة والمقتلعة من موطنها في الأندلس على إثر سقوط الدولة العربية هناك حيث يتحرى الرواة عن أحداث وقعت في ذلك الزمان، وعن مصائر أبطالها وضحاياها، وما وقع عليهم من ظلم، وما واجهوه من مصاعب وتحديات في هربهم من مكان إلى آخر. والرواية تمثيل لجانب من تاريخ المسلمين هناك والصراع الحضاري الذي خاضوه ضد المسيحيين، لاسيما في نهاية الحقبة العربية والسقوط الدراماتيكي لدولتهم الزاهرة. وتتبعثر الحكاية في سياق وحدات سردية غير مكتملة ونهايات مفتوحة على الاحتمالات، لتتشكل بعد ذلك في إطار سردي متماسك. وكان يمكن لهذا أن يجعل من رواية مخيم المواركة رواية بوليفونية ( متعددة الأصوات ) بامتياز لولا المحمول الإيديولوجي الذي يُظهر الرواية منحازة لوجهة نظر واحدة ترى في الآخر ظالماً ومتجنياً وقاسياً ومخرِّباً وغير نظيف في مقابل الأنا المتسامحة والمتفهمة والحانية والبانية والنظيفة، حيث لا توجد، في الرواية، شخصية عربية إسلامية سلبية واحدة. ولا أدري لم لم يختر الروائي شخصية مضادة ( اسبانية كاثوليكية )، واحدة على الأقل، لتكون من ضيوف المخيم، لها وجهة نظر مختلفة فيما جرى تاريخياً، كي يتجنب ( الروائي ) تهمة الانحياز لوجهة نظرِ ( نا )، وليجعل القارئ، في النهاية، هو الحكم على ذلك الصراع الفارِق والإشكالي؟.
أخيراً، ما يُحسب لجابر خليفة جابر في روايته ( مخيّم المواركة ) أنه كتبها بلغة سرد متدفقة، صافية، من غير معمّيات أو زوائد إنشائية كثيرة. فشخصياً ما يُزعجني في كثر من الروايات العراقية هو الإسهاب الذي لا مسوِّغ فنياً له، مما يجعل القارئ ينفر منها. وهذا باعتقادي ما يشكِّل أصل الداء في الرواية العراقية الحديثة. مع استثناءات، بطبيعة الحال. فيما توفر تلقائية اللغة السردية وسلاستها فضلاً عن مستويات السرد المتباينة والمتعاضدة، في رواية جابر خليفة جابر، عنصري؛ جمال البناء والحكاية المثيرة..