المستنسخات النصيّة
في السرد القصصي..تعميق الدلالة من خلال التضاد والمقابلة
حسين عبد الخضر
روائي
دخلت المستنسخات النصية المقتبسة والمضمنة لتكون أساسا للبناء الفني في قصة ( رحلة الشاطر كلكامش إلى دار السلام ) للقاص علي السباعي والمنشورة في جريدة الزمان في عدديها ( 2505 و 2506 ) ، بزخمها الإيحائي لتبرز من خلال علاقة التضاد والمقابلة للنص المستنسخ مع النص الأصلي للقاص ، ثيمة العمل بشكل أكثر عمقا ، فبوضع تلك المستنسخات أمام الواقع الحالي للإنسان ( كلكامش ) والمدينة ( بغداد ) يظهر لنا حجم الدمار والخراب الذي لحق بالاثنين وهو ما أرادت القصة التعبير عنه بأسلوب سردي متقن لتنتج نصا غير مألوف في قدرته الإيحائية واستخداماته للرموز الدلالية بالاعتماد على حبكة بسيطة لقصة واقعية بإحداثها ولتستنزف كل طاقة النص التعبيرية ، فتكون علاقة المتلقي بالنص علاقة تفاعلية بتحفيز خزينة المعرفي أولا لفهم النص وبإقامة الروابط مع الواقع ، كون النص يتكلم عن تجربة معاشة مما يجعل منه نص قضية ، هي قضية الاحتلال الذي فتك في بالبلد وأحاله خرابا .
تبدأ القصة باستنساخ وتحريف للنص القرآني ( يوسف اعرض عن هذا ) فيرد في القصة ( كلكامش ، لا تعرض ) وبينما يكون النبي يوسف ( عليه السلام ) نبيا من الصالحين والفائزين يأتي الأمر إليه بكتمان ما حدث فإننا نرى كلكامش الذي هو من الخاسرين يؤمر بقص ما جرى له في دار السلام للناس ، ويأتي هذا التحريف لخدمة الغرض من القصة وهو الإظهار وليس الإخفاء ، إذ لا حكمة في إخفاء ما يسببه الاحتلال من دمار للبلد أو دار السلام التي يقابلها ( زليخة ) في النص ، لتكون هي الرابط بين يوسف وكلكامش والسبب المسوغ لتحريف النص القرآني في هذا الاتجاه . لكننا نجد أنفسنا أمام آمر مجهول هنا بينما الآمر بالإعراض معروف لدينا في النص القرآني ، وعليه فليس بالتأويل البعيد ان نزعم ان الآمر لكلكامش هو ذاته ، فان القاص يمتلك دائما الحافز الذاتي لسرد قصته .
وبعد ذلك تبدأ الشخصية الرئيسية ( كلكامش ) بسرد قصتها مع التنبيه إلى طريقة سرد القصة ( سأقص عليكم ما رأيت وما شعرت به ، تماما كما رايته وشعرت به ) / النص . وتبدأ بالكشف عن طبيعتها المضطهدة والخائفة والمستلبة ، ولما كانت شخصية كلكامش المضطربة في النص الأصلي تتحرك باتجاه الفعل فان كلكامش دار السلام يحركه الاضطهاد باتجاه الخمول واللا فعل ( ولقد أنفقت جل وقتي وأنا في رد الفعل ولم أكن أبدا فعلا ) / النص . وبهذه العلاقة المتضادة في استخدام الرمز يكشف لنا القاص ما يعانيه الإنسان العراقي ( البطل المفترض ان يهزم الموت ويعود بعشبة الخلود ) من سلب لصفاته الأصلية ، فهو إنسان يعيش تحت وطأة الخوف من قناص الجندي الأمريكي المسددة إلى قلبه ويدفن رأسه في الرمل كالنعامة ، كلكامش المنبوذ والمتهم بالإرهاب من قبل أبناء وطنه .
ومن خلال مقابلة النص المستنسخ من كتاب ( بغداد مدينة السلام ) لابن الفقيه الحمداني بما يقصه كلكامش عن بغداد الحالية ويستعير لوصفه إضافة إلى ما تطرحه القصة أبيات الشاعر السومري ( واحسرتاه على ما أصاب لكش وكنوزها / ما اشد ما يعاني الأطفال البؤس / أي مدينتي / متى تستبدلين الوحشة بالفرح ؟ ) ، يظهر التضاد الواضح والمؤدي إلى بروز علاقة النفي ، فكأن بغداد بحاضرها علامة على موت بغداد التي تكلم عنها النص المقتبس ، فهي مدينة لم يبق منها إلا الأعمال الفنية لفنانين قد رحلوا ، تخلد مجدا غابرا ، أما الناس فيها والذين ورد في النص المستنسخ عنهم ( ولأهلها نوع من الرياسة ، وذلك انه قلما اجتمع اثنان متشاكلان وكان احدهما بغداديا إلا كان هو المتقدم في لطف الفطنة وحسن الحيلة ، لين العاملة ، جميل المعشر ، حلو اللفظ ، فليح الحركات ، طريف الشمائل ) / النص . فنجد إنهم قد تحولوا إلى ناس خائفين ومغلوبين وقساة أيضا .
وترد في سياق السرد مستنسخات نصية أخرى ، بالتضمين أو الاقتباس أو التحوير لتعزز من قدرته الإيحائية بما يعزز من إظهار موضوع القصة ، من خلال التضاد مرة ( لاحظ موقف بيكاسو وبتهوفن والموقف الافتراضي الذي يطرحه القاص على شكل سؤال موجه للفنان جواد سليم ) والتشبيه مرة أخرى وخصوصا تلك النصوص المقتبسة من القران الكريم مباشرة الذي يمثل احد المرجعيات الفكرية للقاص .
ويأتي الحدث الأخير في القصة ليمثل قمة التناقض بين ما يحصل لكلكامش الأسطوري الذي يستقبل بأكاليل المجد وتكتب له الملاحم وكلكامش الذي يموت تحت أقدام أبناء وطنه بينما رشاش الجندي الأمريكي يكون موجها إلى الجميع ، وهي نهاية متوقعة هنا بالنظر إلى سير الأحداث في القصة والجو العام لها .