الدكتور علي القاسمي : مرافئ على الشاطئ الآخر روائع القصص الأمريكيّة المعاصرة (12)

إشارة :
يسر أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ ، وفي كل يوم جمعة مباركة ، بنشر فصول كتاب العلّامة المبدع الكبير الدكتور علي القاسمي “مرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية المعاصرة” ، وهو كتاب بانورامي نقدي شامل يضم 22 قصة لكبار الأدباء الأمريكيين في القرن العشرين مع تقديم لكل كاتب: حياته وأسلوبه. فشكرا للميدع الكبير القاسمي على تفضّله بالموافقة على نشر الكتاب متمنين له الصحة الدائمة والإبداع المتجدّد.
أليس آدمز

( عندما توفيت الكاتبة الأمريكيّة ألِيس آدمز Alice Adams عام 1999، عن عمر يناهز اثنين وسبعين عاماً، كانت قد خلّفت وراءها عشر روايات و خمس مجموعات قصصيّة تضمُّ أكثر من مائة قصّة قصيرة. وحازتْ على جائزة الإنتاج المستمرّ الخاصّة التي لم يحصل عليها من قبل إلا الكاتبة جويس كارول أوتس والكاتب جون أبدايك، وذلك بعد أن ظهرتْ قصصها اثنتي عشرة مرّة في السلسلة السنويّة “القصص الفائزة بجائزة أوهنري”، وكانت روايتها “امرأة جميلة” قد حققتْ أعلى المبيعات.

ولِدت أليس آدمز عام 1926 في ولاية فرجينيا ونشأت في مدينة تشابل هيل في ولاية كارولينا الشماليّة ( وتعدّ هذه المدينة من أكثر المدن الأمريكيّة ثقافة إذ يَعتبر أهلُها الكتّابَ أبطالاً شعبيّين). وتزوَّجتْ مباشرةً بعد تخرّجها في كُلّيّة رادكليف، ولكن زواجها آلَ إلى الفشل، فتمّ طلاقُها وتولتْ تربيةَ ولدها الوحيد وحيدةً، واضطرتْ إلى العمل في أعمال متعدّدة، ولم تتفرَّغ للكتابة إلا في سنِّ الأربعين. وفي بداية سنوات الثمانينيّات درّست ( بتشديد الراء) في جامعة كاليفورنيا في ديفيز لمدّة قصيرة.

تدور قصص هذه الكاتبة ورواياتها على الحبّ وعلى المرأة: مُحبّةً، وكارهةً، وما بينهما، وعلى نضال النساء من أجل أن يتبوّأن مكاناً لائقاً بهنّ في هذا العالَم، مثلما ناضلت الكاتبة لتتبوأ مكانتها الأدبيّة المرموقة. ويشبّه بعضُ النقّاد أسلوبَ آدمز الفنيّ بأسلوب الكاتب الأمريكي الشهير جون سكوت فتزجيرالد مع عبق فضاء الجنوب الأمريكيّ.)

تواطؤ

كانت الفتاةُ الصغيرة، نان، التي جاءتْ لتسكن مع عائلة ترافيس المكوَّنة من جاي وزوجته ماري في مزرعتهما، نحيفةً جداً لدرجة أنّها عندما كانت تذهب للسباحة في البركة، تبدو أخاديد عميقة بين ضلوعها الصغيرة. وكان خدّاها الهابطان بلطفٍ غائرَين مجوَّفَين، وعيناها مثل عينَي إحدى ضحايا مجاعةٍ ما، أو ربّما مثل عينَي فتاةٍ قاست من مَرضٍ طويل مُنهِك. ومن أجل هذا، وانطلاقاً من الرغبة في تسمينها قليلاً ووضْعِ شيءٍ من اللحم على تلك العظام، فقد أرسلها أبواها إلى عائلة ترافيس في تلك العطلة الصيفيّة. وكانت لديهما رغبة غير معلنة كذلك في الإحسان لماري وجاي ترافيس اللذين لم يُرزقا بأطفال.

لقد تمّ ذلك منذ وقت وقبل أيّ حديث عن اعتلال أو اضطراب في المأكل، فلم يفكّر والدا نان، وهما يملكان صيدليّة في بلدة صغيرة ويمتّان بصلة قرابة بعيدة لماري ترافيس، في أنّ حالة نان تتعلّق بالأعصاب أو بأسباب عاطفيّة، على الرغم من أن نان تبدو لهما ذات شهيَّة اعتياديَّة وتأكل قدراً معقولاً من الطعام، ومع ذلك فإنّها ظلّت نحيفةً بشكلٍ سقيم.

وكانت نان، وعمرها ثلاثة عشر عاماً، صبيّةً لعوب، نوعاً ما، وتتصرَّف بصورةٍ غير طبيعيّة، على الرغم من أنّها من حيث الأساس ذكيّة (إذ تتوفر على أعلى معدل ذكاء بين طلاب السنة الثامنة في بلدتها). وكانت نان تعتقد أنَّ مظهرها رائع، وتحسُّ بأنَّها تمتلك أسراراً عريضة مثيرة. ما أقواها وما أعمق سرّها، فلا أحد يعرف عنها شيئاً، حتّى ولا عشيقها في واقع الأمر. وهي لا تستخدم كلمة “عشيق” عندما تفكر في الدكتور ثيرستون، القسّ الذي تقوم هي أحياناً بدور جليسةِ أطفاله في منزله، ذلك الرجل الذي فقدَ صوابه، وجنّ حبّا بها، كما تقول هي؛ وهو بكلِّ تأكيد يتصرّف على تلك الصورة، إذ إنّه يلاحقها في كلِّ مكانٍ بسيّارته لمجرَّد النظر إليها وهي تمشي إلى منزلها عائدةً من المدرسة مع رفيقاتها. ويجتمع بها في داخل تلك السيّارة في لقاءاتٍ عند أطراف المدينة. وفي السيّارة يجرِّدها من ملابسها ليغطّي جسدها بقبلاتٍ من فمه بأنفاسٍ متصاعدةٍ كما لو كان يحتضر.

ويشكّل الدكتور ثيرستون (إذ إنّها من المستحيل أن تسميه بيل، كما تدعوه زوجته الغليظة) أحد أسرار نان. والسرُّ الآخر هو ما تفكِّر فيه على أنّه ” فقدان الطعام “، وهو شيءٌ تمارسه في الحمّام بعد وجبات الأكل باستخدام أصابعها. تضع أصابعها في بلعومها، وهي لا تشعر على ما يرام إذا تأخرت عن فعل ذلك بعد الأكل بمدّة طويلة. ويؤدّي فعلها ذلك الغرض، إذ إنها تأكل كلَّ ما تريد ومع ذلك لا يبقى منه شيء على عظامها سوى الجلد، ولا ينتج عن ذلك أيُّ ألم في أي موضع من جسدها. وكان الدكتور ثيرستون يقول لها: “إنّني أعبد جسمك الشاحب النحيل، ولا أتصوّره شيئاً دنيويّاً قطّ.”

والسيد جاي تريفس رسّام فاشل، ومن الصعب إجمال حصيلة حياته. فقد كان يوماً وكيلَ إعلاناتٍ تجاريّة ناجحاً، ولكنّه هجر زوجته وتزوّج من مساعدته، ماري، وتقاعد عن العمل في الريف ليمارس الرسم بجدّيّة، كما كان ينوي دائماً أن يفعل. ويأخذ بين الفينة والفينة شرائحَ شفافةً ولوحاتٍ إلى نيويورك، ولكن لم يتمخَّض شيءٌ من ذلك أبداً، وغالباً ما يعيش هو وزوجته على المقالات السخيفة التي تحرّرها ماري (وهي تعرف أنّها سخيفة) لمجلات نسويّة متنوعة يرأس تحريرها أصدقاء مارى القدامى منذ أيام عزوبتها في نيويورك.

وغالبا ما يشعر جاي، الذي تغلب عليه المرارةُ والحزن ويتّسم بالذكاء الحادّ، أنّه قد يكون أفضلَ حالاً لو كان يعمل في مشروعٍ تجاريّ يصبّ عليه جام ازدرائه، فهو يخشى أن لا يوفَّق في تفرُّغه الجادّ لتحقيق مواهبه الفنيّة ـ “على ما هي عليه”، كما كان يقول هو نفسه قبل الآخرين. وكان هذا العام عاماً سيئاً بالنسبة لجاي، فقد أُجريت له عمليّة جراحيّة في غدّة المثانة في شهر يناير/ كانون الثاني (هدية السنة الجديدة لديك عجوز، على حدِّ تعبيره مازحاً)، وهذا ما جعله ضعيفاً ومحبطاً بشكلٍ مضاعف. لم يُبَع شيءٌ من لوحاته، وانصرم الربيع المُمطِر الطويل، والآن لديهم هذه الصغيرة الجميلة النحيفة في المنزل وهي تراقب كلَّ شيء بحدّةٍ مثل قطة. ومع ذلك فالذي يحبّه جاي ترافيس حقيقة، الذي يعبده بكلِّ معنى الكلمة هو هذه المزرعة، هذا الفدّان من الأرض الواقع ّعلى سفح التلّ، بمروجه وبركه، وأشجار السنديان، والشوكران، والصنوبر النرويجيّ، والسياج الحجريّ المنخفض الذي يسوّره. ومخزن الغلال المتهاوي وساكنته من القطط نصف الداجنة والخفاش وأسرةٍ من البوم. وهو يحبّ منزله المنخفض المشرع للهواء ذا الغرف الطويلة التي تعبق فيها رائحة التفّاح والخزامى. ويتمشّى جاي في منزله وأرضه وبيده عصا من الخيزران، وهو يُلقي نظرةً على السياج (لماذا؟ ويتساءل: ماذا يحدث لسياج صخريّ قديم جدّاً؟)، ويحمل صحوناً من الحليب وسمك الطون إلى مخزن الغلال لتتغذّى بها القطط، ويجلس القرفصاء هناك، منتظراً لفتة مودّة من القطط، بل حتّى نظرة عطف منها.

كان يراقب نان نصف الشفّافة، وهي تخطر بنشاطٍ عبر عشب المروج، ثم تهبط إلى البركة مرتدية لباس السباحة الطفوليّ الصغير ـ وعندما تزيح المنشفة من على كتفيها تشعر برعشةٍ من نسيم الصباح الصيفيّ. ويذهب جاي أحياناً إلى مرسمه ويزيح الغطاء عن الخيش ويحدّق فيه وهلة.

وكان ينتظر دائما أن يرى من خلال نافذته ماري التي يحبّها حقّاً أكثر من أرضه وداره، أو أكثر من قططه أو أيِّ شيءٍ آخر يمكن أن يتصوَّره في الحياة.

ماري ترافيس امرأة نصف (وهي زوجة جاي الثالثة، على حدّ تعبيرها هي نفسها، فبعض الرجال لا يتّعظون أبداً)، وهي مكتنزة الجسم ولطيفة ولا يقرّ لها قرار، وهي لا تتمشّى كثيراً كما يفعل جاي، ولكنّها تجلس وتحدّق في الكُتُب والنوافذ، وأحيانا تنهض لتلمّع شيئاً ما، فقد عثرت على شمع تلميع عجيب له رائحة الخزامى.

أو تنهض ماري لتطبخ الطعام، فهي تحبُّ الطهي، وما تقدِّمه على المائدة في الحقيقة طعام شهيٌّ استثنائيٌّ غالباً ما يشكّل فتوحات مطبخيّة عظيمة، فقد كانت تعدّ أطباقاً شهيّةً مصنوعةً من الخضروات الطازجة، والحساء اللذيذ غير المعروف لتقدّْمه لجاي وحده، ومؤخَّراً لجاي ونان. وكانت تعدّ كعكا رائعاً، ولعلّها أمهر ما تكون في إعداد الكعك.

ولما كان والدا نان قد أخبرا قريبتهما ماري عن قلقهما على صحّة ابنتهما ووزنها، فقد أخذت ماري تراقب نان وهي تلتهم الفطائر المصنوعة من ثمر العِنبيّة التي تُقدَّم في وجبة الفطور، وتراقب ما تتناوله وقت الغداء من اللحم والجبن والفواكه، وتراقب مقدار الطعام الذي تتناوله أثناء العشاء والذي يعادل حصّة الكبار.

وسرّت ماري بإقبال نان على الطعام، واعتبرتْه ثناءً على مهارتها في الطهي، وتأكيداً على رأيها في تفوُّقها في هذا المجال (وهو غرور لا تخفيه). ولكن بعد ذلك دلّت الملاحظة اللاحقة التي قامت بها ماري بعناية أكبر أنّه لم يطرأ أيُّ تغيّر على وضعيّة اللحم الشفّاف تقريباً الذي يغطي تلك الضلوع الرقيقة. ولاحظت ماري كذلك الخفّة التي تتوجّه بها نان إلى الحمام بعد كلِّ وجبة طعام، وهو تصرُّف غير طبيعي كانت نان تلتمس له العذر في البداية بهَمْهمة عن طبيب الأسنان: “إنّه مهووس تماماً بضرورة تنظيف الأسنان بالفرشاة بعد كلِّ وجبة.”

فتساءلت ماري وهي دقيقة الملاحظة وذكيّة ما إذا كانت تلك الكلبة الصغيرة تتقيأ ما تأكل. أليس ذلك مقززاً للنفس ناهيك بالخسارة الماديّة؟

وعلى الرغم من أنَّ عائلة ترافيس كانت فقيرة، فإنّها مولعة بإقامة الحفلات أيام الآحاد عموماً. ففي حوالي الساعة السادسة مساء، يبدأ الناس بالوصول بسيّاراتهم القديمة، من كلّ جهة كما يبدو، وهم يحملون طناجر الطعام أو سلال الفواكه أو عُلب الحلويّات. أو قناني المشروبات؛ فهذه الحفلات تتضمَّن عدداً كبيراً من قناني المشروبات، كما لاحظت نان. وكما كانت تنوي أن تقول لأُمّها فإنّهم كانوا جميعاً يشربون مثل الأسماك. وكانت نان تحوم مثل شبح متقشِّف في الأكل والشرب حول أطراف تلك الحفلات. وكانت غالباً ما ترتدي الملابس البيضاء كما لو كانت تؤكِّد اختلافها عنهم.

كانوا يأكلون ويشربون ويرقصون، أولئك الكهول المؤمنون بمذهب اللذّة.

كانوا يرقصون وهم متقاربون، وغالباً ما يرقصون على أنغامٍ بطيئةٍ تصدر عن اسطواناتٍ فيها خدوش، وأغانٍ قديمةٍ لم تسمعها نان من قبل. وكانت نان تجلس غاطسةً في كرسيٍّ جلديٍّ عتيق مع كتابٍ ثقيلٍ في زاوية خافتة الضوء في غرفة الجلوس، وهي في الحقيقة لا تقرأ شيئاً وإنّما تنظر بين الفينة والفينة إلى ما يجري أمامها ـ وهو ليس بالكثير عادة.
حتّى جاءت تلك الليلة التي غَنّت فيها ماري.

كانت نان منهمكةً في قراءتها أكثر من المعتاد (فقد كانت تقرأ رواية “ذهب مع الريح”)، وقد بلغت جزءاً كانت تظنّ أنّه ممتع، حيث راح رايت يقبل سكارلت، ورفعتْ رأسها بدهشةٍ عند سماع صوت البيانو الذي لم يعزف عليه أحد من قبل، فرأت أحدهم يعزف موسيقى أغنية تعرفها عنوانها “زهرة العسل”، وكانت هذه الأغنية أثيرة لدى والدها.

ثم فجأة نهضت ماري ووقفت هناك بجانب البيانو وراحت تغنّي…
” لا … لا أحتاج … السُّكَّر
يكفي أن تمسّي الفنجان بأناملكِ…”

كانت ماري تغنّي وتضحك، والخجلُ بادٍ عليها، ومع ذلك فقد كان صوتُها دافئاً واثقاً طافحاً بالشهوة ـ آه إنّه لصوت شهوانيّ. وكانت ماري ترتدي فستاناً أزرقَ جديداً، أو لعلّه قديم. وكان ضيّقاً وكانت بعض أجزائه اللامعة تغطّي النهدَين الكبيرين والردفَين الممتلئَين. وأخذت نان تراقب المشهد وتنصت:

” ما أحلى الشاي عندما تصبّينه أنتِ”

وصارت تحسّ بمشاعر حادّة لا تعرف لها اسماً، وتشعر باضطراب لا تفهم له سبباً. شعرتْ بأنّها على وشك التقيؤ، أو الصراخ، أو الإمساك بركبتَيها حتّى يُصبح جسدها كرةً مكورة ـ وتبكي، وتبكي، هناك في زاويتها المنعزلة نصف المظلمة. فهل هذا الشعور هو الحبّ؟ هل وقعتْ في حب ماري؟ وفكّرتْ بأنّه أكثر من ذلك، فهي تريد أن تكون ماري نفسها. تريد أن تكون هناك في دائرة الضوء، حيث يضحك الجميع ويصفِّقون. تريد أن تغنّي، وتريد أن تكون ممتلئة الجسم. آه، ما أغرب هذا الشعور المفاجئ، إنّها تتشوَّق للحم يكسو جسدها، لتُصبح ممتلئة الجسم مثل ماري.

“هل كانت زوجتاك السابقتان جميلتَين مثل ماري؟”

شعر جاي بأن الجواب المناسب هو: ليس هذا من شأنك. ولكنه ذكّر نفسه بأن نان مجرّد طفلة، إضافةً إلى أنّها ضيفة عندهم تؤدّي نفقاتها. ولهذا اكتفى بالإجابة بصورةٍ غامضةٍ ما أمكن:
“لا، ليس تماماً.”

كانا يتمشَّيان ببطءٍ حول حافة البركة عند الشفق في شهر آب/أغسطس. وكان جاي يمسك بعصاه، وكانت نان ترتدي سروالاً قصيراً أبيضَ وقميصاً خفيفاً ضيقاً. ولم يلاحظ جاي من قبل أن لها نهدَين. وقد بدا نهداها الصغيران وكأنّهما ليسا حقيقيَّين، كما لو كانت قد حشت شيئاً في حمالة الصدر الصغيرة ـ وخطر لجان، بعد تدقيق النظر، أنّها لا بدّ أن تكون قد فعلتْ ذلك، لقد حشتْ حمالة الصدر بشيءٍ ما، ولكن لماذا؟ لماذا بحقِّ السماء؟ ولماذا جاءت خلفه على تلك الصورة وأفسدت عليه نزهته ووحدته؟

وأصرّت هذه الطفلة الملعونة على توجيه السؤال إليه:
ـ “هل كانت زوجتاك نحيفتَين أم غليظتَين؟”
ـ “آه، كانتا تميلان إلى البدانة، فقد أحببت دائماً قليلاً من اللحم.”
وقاطعته بلهفة قائلة:
ـ “يوجد ذلك الرجل في بلدتي، أتعرفه؟ رجل يستخدمني أحياناً هو وزوجته للجلوس مع أطفاله عندما يتغيّبان عن المنزل. إنّه قسّ، هل تصدّق ذلك. وهو مهووس تماماً بنحافتي. إنّه مفتونٌ بي، فهو يتعقّبني أينما ذهبتُ.”
ـ “يجب أن تتجنّبي هذا الرجل، يا نان. قولي له أن يبتعد عنكِ. أخبري والدكِ عنه.”
ـ “آه، سأفعل، فمجرّد التفكير فيه الآن يجعلني أشعر بالرغبة في التقيؤ.” وتضحك نان كثيراً على هذه الملاحظة التي تتقزّز منها النفس.

وقال جاي لماري ذات مساء وهما يتعشّيان بعد ثلاثة أسابيع من تلك النزهة والمحادثة مع نان:
ـ “إنَّه أمرٌ محيّر تماماً.”
كان ذلك في الليلة ما قبل الأخيرة من زيارة نان، وكانت قد أوت إلى فراشها مبكِّرة، تاركةً جاي وماري يكملان ذلك العشاء الوداعيّ؛ لم يكونا يحتفلان برحيلها (ليس بشكلٍ ظاهر) وإنّما كانا يحتفلان بنجاحٍ حقّقه جاي، فبعد سنوات من الجفاف المهنيّ، استطاع وكيل أعماله أن يبيع لوحةً كبيرة، منظراً طبيعيّاً (في الحقيقة تمثّل اللوحةُ المنظرَ الطبيعيّ لمزرعة جاي، المرج والأشجار القريبة من مرسمه). ولم يتمّ بيع اللوحة فقط وإنّما تلقّى جاي طلباً برسم أربع لوحات لمناظر طبيعيّة. وكان هذا موضوع حديثهما أثناء ذلك العشاء. ولمّا لم تكُن نان معهم فقد تمكَّن جاي من الكلام بانشراح عن حظّه السعيد وخططه وشغفه بالعمل.

وفي نطاق الاحتفاء، أجادت ماري حقاً في إعداد طبق شهيّ من المحار، وطبق مرق بلحم الضأن كانت تسميه مرق العشرين نوعاً من الخضروات، وسلطة برتقال، وحلوى الشكولاته. ولمّا كانت نان قد شعرتْ بالإعياء فإنّها أوت إلى فراشها قبل أن يأتي دور حلوى الشكولاته ( “قد أعود لوقت قصير فيما بعد، لذا أرجوكِ أن تحتفظي لي بشيءٍ من الحلوى، يا ماري.”) ـ وهما يناقشان الآن هذا التحوُّل الذي طرأ على نان وعادات أكلها، ووصف جاي هذا التحوُّل بأنّه مُحيّر تماماً.

وواصل كلامه قائلاً:
ـ “أُقسِم أنّها تأكل الآن أقل من السابق، وفي الوقت نفسه فإنًّ وزنها يزداد.”

لقد صاغ ما قاله على شكل سؤال تقريباً وطرحه على ماري التي قبلتْه واقتصرتْ على القول:
ـ “أظنُّ أنّني أفهم ذلك.” وابتسمتْ.

ثم، وفي وقت واحدٍ، فقدا اهتمامهما بنان، والتفتَ كلٌّ منهما إلى الآخر كما لو كانا مفترقَين لبعض الوقت. ونظر أحدهما إلى الآخر بنوعٍ من الدهشة والسرور ـ ولأنَّ ذلك الشعور بدا لهما مضحكاً فإنّهما راحا يضحكان.

وقال جاي وهو ما يزال يضحك:
ـ “ألا نرقص قليلا؟”
وهذا ما فعلاه، فقد وضعا بعض أسطوانات غلين ميللر من أيام شبابهما، وجيمي لونسفورد وتومي دورسي، وأخذا يرقصان. كانا يضحكان ويرقصان وهما سعيدان أحدهما بالآخر، ثم انتهيا متعانقَين على الأريكة مثل طفلَين.

وقد وجدتهما نان على تلك الحال نائمَين على الأريكة، وكانت ماري تشخر قليلاً في حين كان جاي يتنفَّس بعمقٍ ورأسه ملقىً على صدرها.

وألقت نان عليهما في البداية نظرةً سريعة وبشيء من التقزُّز، ثم اتجهتْ إلى المائدة التي تكوَّمت عليها بقايا الصحون، ولم يدُر في خلدها أن تنظِّفها أو ترتّبها. وكانت هناك قطعة كبيرة من حلوى الشوكولاته فتناولتها كلَّها بتؤدة. وفكّرت نان في أنّهما يستطيعان تناول هذه الحلوى اللذيذة مرّة في الأسبوع على الأقل، وهذا يعني زيادة رطلين أو ثلاثة بكلِّ تأكيد.
ثم اندست عائدةً إلى فراشها حتّى دون أن تنظّف أسنانها، وواصلت حُلْم يقظتها أو خطّتها: ففي الصيف القادم عندما يكون لها جسم ممتلئ وناعم ـ مثل جسم ماري ـ ستعود إلى هذه المزرعة، وسيقع جاي في حبّها بجنون. وسيتبعها إلى كلّ مكان، كما يفعل الدكتور ثيرستون. ولكنّها ستقول لا، ولا تسمح له حتّى بتقبيلها. أنتَ مِلك لماري. وعندما تكتشف ماري ما فعلته نان ستقول: يا لها من فتاة رائعة، يا لها من فتاة طيّبة حقّاً، وجميلة وممتلئة الجسم. وحينئذٍ ستغادر نان مع صديق يخصّها هي وسيحزن لفراقها جاي وماري. وسيردّدان سنة بعد سنة: آه لو كانت نان معنا مرّةً أُخرى هذا الصيف !

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

2 تعليقان

  1. طارق الحلفي

    انه لكرم استثنائي من موقع الناقد العراقي في ان يقدم لنا مثل هذه الذخيرة الرائعة .. ان دلل هذا على شيء فنما على حرص الموقع والقائمين عليه في ان يتحفونا بالافضل دائما.. فشكرا لكرمكم هذا والشكر موصولا للعلّامة المبدع الكبير الدكتور علي القاسمي

    طارق الحلفي

  2. علي القاسمي

    الأخ الكريم الأديب المتألق الأستاذ طارق الحلفي المحترم،
    أشكرك من القلب على كلماتك الطيبة، وأنا أعتز بكلماتك التشجيعية الكريمة.
    لقد بذلتُ جهدا استثنائياً لانتقاء القصص الراقية تقنياً والتي تمثل الثقافة الأمريكية ومشكلاتها الاجتماعية.
    ولا يقدر مثل هذا الجهد إلا كاتب متمرس عميق الثقافة مثلك.
    فشكراً لك مقروناً بمودتي واحترامي.
    محبكم: علي القاسمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *