حوار نادر مع المبدع الراحل “فريد الله ويردي” قبل 50 عاما
كانت الساعة تقارب السادسة عندما طرقت باب البيت الذي يسكنه .. فخرج لي شخص يتميز بضعف البنية بما يقرب الهزال.عمره لا يتجاوز الرابعة والثلاثين. في عينيه بريق لا يمكن تفسيره بسهولة.. وصعدت إلى غرفته.. فجلب انتباهي وجود عدة «دنابك» مختلفة الأحجام مرصوفة إلى جانب بعضها.
وعلى مائدة متوسطة الحجم وضع دفتر كبير إلى جانبه قلم حبر مما يدل على انه كان منهمكا في الكتابة عند حضوري وكانت هناك بعض الصور الزيتية الحديثة «لبيكاسو» وصورة فوتوغرافية لـ»بارتوك» الموسيقار الهنغاري الذي صنع من الألحان الشعبية ألحانا عالمية يتردد صداها اليوم في كل مكان.
قلت له:
* ما هو الغرض من وجود هذه “الدنابك”؟
فأجابني بصوت هادئ رصين
– إنني ادرس عليها الإيقاعات الشعبية المختلفة وأسجلها بالنوتة، ورفع “دنبك” كبير وقلبه بين يديه وأردف قائلاً:
– هذا “الدنبك” يختلف عن “الدنابك” العادية من حيث التصميم.. فانا استطيع ان اخفض صوته عند الحاجة كما اخفض وتر الكمان مثلا بمعالجة احد المفاتيح وبهذا احصل على عدد من الطبقات الصوتية المختلفة. والدنبك هو الآلة الشعبية الاساسية. وانا ارى ألا يقتصر على ضبط الايقاع فحسب بل يجب إخراجه الى نطاق اوسع باعتباره آلة لها قابليات “تكنيكية” كالآلات الأخرى المستعملة في الاوركسترا.
قلت له ما رأيك في موسيقانا الشعبية؟
فأجاب والأسى بادٍ على وجهه
– نحن في مرحلة موسيقية بدائية. واكبر دليل على ذلك موسيقانا تعتمد على “الايقاع” بالدرجة الاولى، وحتى هذا لا نحسن استعماله. كما ان من النادر ان تشترك عدة “دنابك” في الضرب في آن واحد مع ان ذلك بالامكان تحقيقه كما هو جار في الاوركسترا.

قلت له:
* ما رأيك في الموسيقى الشرقية الحالية المتمثلة في موسيقى عبد الوهاب وفريد الأطرش الخ…
– إن العاملين في الموسيقى الشرقية اليوم لا يعرفون ماذا يصنعون ويعيشون في جهل مطبق لأهم لهم إلا جمع المال والدعاية لأنفسهم وهو يخاطبون العامة بموسيقاهم الرديئة ولا يعملون في سبيل رفع مستواها إن عبد الوهاب خطر على الموسيقى الشرقية وهو يقف حجر عثرة في طريق جميع المحاولات الرامية إلى انتشال الموسيقى الشرقية من “الوحل” الذي تعيش فيه كما انه يحارب دائما المواهب الجديدة بكل ما عنده من حول وقوة للمحافظة على مركزه الفني، إن كل الألحان التي صاغها هذا “المطرب” لا تتعدى التفاهات!.

بعد هذا الهجوم المفاجئ على عبد الوهاب ومدرسة انتقلت به الى سؤال آخر قلت له.
* ما رأيك في المقام العراقي؟ وبعد ان نفت دخان سكارته أجابني:
– المقام العراقي تأليف خاص استخلص من المقامات العربية نفسها.. وهو تراث تجب المحافظة عليه.. وكما ان السمفونية الخاصة لبتهوفن لا يمكن إضافة شيء عليها كذلك المقام العراقي يجب ان يبقى كما هو دون تطور.
* ما رأيك في قراء المقام هذه الايام؟
فضحك وأجاب:
– ان هؤلاء الذين لا يحسنون أداء الألحان التي تحتوي على النصف مقام، بطبيعة الحال يعجزون عن أداء المقام العراقي الذي يشيع في ثناياه الربع مقام.
إن قراء المقام الحاليين ليست لهم اية فكرة عن كيفية قراءة المقام والغناء بصورة عامة.
* هل تصلح اللغة العربية بوضعها الحالي للغناء؟
– لم يحاول العرب تطوير لغتهم عند الغناء أي أنها لغة “غير متموسقة” إذا جاز هذا التعبير.. أن اللغة يجب ان تصبح شيئا آخر عند الغناء ويجب أن يعنى عناية فائقة بطريقة إخراج الكلمات.. ولا يهم بعد ذلك ان يفهم الجمهور الكلام او لا يفهمه.. ان الجمهور لا يستطيع ان يفهم ما يقوله المتشدون في السمفونية التاسعة لبتهوفن إلا بعد قراءة شعر شيلر نفسه.
* هل يعني ذلك ان رشيد القندرجي قد فهم هذه الحقيقة عندما سار على خطة عدم إيضاح ما يقوله أثناء الغناء!؟
– الموضوع هنا مختلف تماما لأننا جميعا نعلم أن ذلك المغني كان هو نفسه لا يفهم الكلام الذي يغنيه.
* ومسألة الربع مقام في الموسيقى الشرقية هل يمكن تذليلها.
– أنا متفائل من هذه الناحية كثيرا وفي غضون سنة واحدة سأخرج على الناس بقواعد موسيقية جديدة للموسيقى الشرقية يمكن معها وضع هارموني لها . ولا انس أن أشير إلى جهود فنان آخر يعمل في بيروت من اجل الموسيقى الشرقية أيضا هو الأستاذ توفيق سكر الذي وصل فعلا إلى استخلاص بعض القواعد الموسيقية الجديدة.
* على أي من الآلات تجري اختباراتك..
– على الكمان والرياضيات في الوقت الحاضر.. وفي المستقبل القريب سيصل “البيانو” الذي يحتوي على الربع صوت.
الموسيقى الشعبية
* هل تستطيع أن تحدثني شيئا عن الموسيقى الشعبية وطرق الاستفادة فيها بما يسمى “الفولكلور”.
– الموسيقى الشعبية على نوعين.
* موسيقى شعبية شرعية (اوثنتيك) وتوكون من إنتاج موسيقيين بدائيين.
* موسيقى شعبية مبتدعة (كريتيف) وهي من إنتاج موسيقيين ذوي مؤهلات موسيقية واسعة.
الأولى تشبه رسوم الأطفال وتتميز بالبساطة وفقدان المهارة البلاستيكية في الإنشاء.
والثانية تشبه الرسوم المبتدعة التي تحو منحى البداءة بأسلوبها فقط ولكنها تتميز عن الأولى بالمهارة البلاستيكية في الإنشاء بالإضافة إلى المسحة البدائية والبساطة.
والموسيقى الشعبية المبتدعة على مذهبين تختلف الواحدة عن الأخرى بالزاوية التي ينظر منها الموسيقى إلى الموسيقى الشعبية الشرعية ومدى العمق الذي يتغلغل في دراستها وتفهمها ومدى استخلاص ما يتبلور لديه من قيم ليجعل منها موسيقى عالمية تحمل في باطنها بدور الشعبية الخالصة.
فمنهم من يأخذ عن الشعبية أسلوبها فقط ومنهم من يلبس الموسيقى الشعبية الشرعية ثوبا جديدا يسكبها رونقا خاصا نتيجة لم يستعمله من تكنيك عالمي في إعادة إنشائها. ومنهم من يتخذ حركات متميزة في الموسيقى الشعبية ويحاول ان يدخلها كعناصر غنى في موسيقاه المتطورة. ومنهم من يذهب مذهب “بارتوك” الموسيقار الهنغاري المعروف حيث يتخذ من المميزات الايقاعية والمقامات المستعملة في الموسيقى الشعبية والوان الآتها ويخلق بدوره على الخط الأسلوب العالمي موسيقى تحمل في طياتها بذور الشعبية او النبرة الشعبية.
هذا بعض ما دار بيني وبين فريد الله ويردي.. والمستقبل .. المستقبل القريب سيبين ذلك مدى ما يمكن ان يعمله فريد في حقل الموسيقى الشرقية.. إننا معه قلبيا.
م. العاملون في النفط سنة 1960
*عن صحيفة المدى