إنَّ أوَّل مؤتمر التأم فيه شمل الأدباء العرب في العالم العربي كان في ( بيت مري ) بلبنان عام 1953م ، تلبية لدعوةٍ موجهةٍ من قِبَل جمعية ( أهل القلم ) ، وبشخص رئيسها آنذاك الشاعر الراحل صلاح لبكي ، وحضرته وفود من مختلف البلدان العربية ، تغلب على معظمها الصفة الرسمية ، وتمثيل أعضائها لتوجُّهات الفئات الحاكمة فيها وآرائها بشأن ما تشهده منطقتنا من أحداث وتمتحن به شعوبها كلَّ مرَّةٍ من صروفٍ ودواهٍ ، على أنـَّه لا يعدم شخوص الأدباء الكبار فيه من ذوي المؤهلات المكتملة والمتمرِّسة والتي تملأ العين ، وما تجد غيرها جديرا ً بالإعزاز والفخار ، ومثله المؤتمر الثاني المنعقد بـ ( بلودان ) في سوريا إبَّان أيلول عام 1956م ، حيث تلاقتْ القامات الكبيرة ممثلة بـ : طه حسين ، وميخائيل نعيمة ، ورئيف خوري ، وفؤاد الشايب ، وشفيق جبري ، وشكري فيصل ، يوسف إدريس ، ومحمود أمين العالم ، وغيرهم .
وكان الوطن العربي قد أوفى ــ إلى حدٍ ــ على درجةٍ من الوعي وتطلع ناسهِ صوب استكمال ما ينقصهم من السيادة التامة والاستقلال الناجز ، فضلا ً عن توقهم للعيش الآمن الرخيّ في أوطانهم الزاخرة بالموارد وتخليصها من الاقتسار والنهب ، لا سِيَّما أنَّ ذلك الظرف واكب تأميم قناة السويس وما ترتب عليه من عدوان ــ كما هو معروف ــ جرَّ إلى سخطٍ واستنكار لمدبريهِ والقائمينَ به من دهاقنة الاستعمار واستهجان ٍ لأجرائهم وعملائهم وتقريع أذنابهم وذيولهم في هذه الربوع .
وتلتهما في المراحل التالية وفي سنوات متباعدة مثيلاتهما أي مؤتمرات تقام في حواضر وعواصم مختلفة ، لكنَّ السبب في توقفها وانقطاعها وتعطلها أحيانا ً يعزى إلى تأثرها بالعلاقات السائدة بين الحُكـَّام العرب ، ونصيبها المتأرجح ــ من آن ٍ لآن ٍ ــ بين التصافي والتجافي ، بين المرونة والتقاطع ، بين إبداء النيَّات الحسنة والرغبة الصادقة في المؤاخاة وتوحيد السياسة العربية في الانتصار لفلسطين وغيرها ، وبين التراشق ووصم أحدهم للآخر بالمروق والخيانة والضغط على شعبه وكتم أنفاسه والتخلي بالمرَّة عن قضايا الأمة ، وكذا تعود للسياسة فاعليتها في تحديد مصائر الأدباء ، وتعيين وجهاتهم في معالجة شؤونهم ، ورسم طريقهم في تطوير نتاجهم ، وتثوير إبداعهم ، وحسب القارئ أنْ يتملى ويستعرض لذهنه ما مرَّ به وإلى وقتٍ قريب ومتأخر من ماجريات تتعلق بالمواعيد التي تحدَّد من قبل هيئة وأخرى ، لعقد غير مؤتمر أدبي ، فيُرجَأ ويُؤجَّل ويُصرَف النظر عنه تبعا ً لهوى سياسي ونزولا ً على حكمه .
وبداهة أنْ تتغاير الأجيال الأدبية ، فينطوي جيل الشيوخ ، مغادرا ً دنيانا ، وملبيا ً مشيئة الرحمن ، بأنْ تنبتر آصرته بمن يألف من الأصفياء والعشراء ، لتتبدَّل وجوه الحضور في مؤتمرات الأدباء ، فيوحِّدوا كلمتهم بصدد قضايا أمتهم المصيرية والأخطار المحدقة بها ، وما ينبغي لهم تناوله في كتاباتهم وموضوعاتهم من حلول ووسائل لمجاوزتها وتخطيها ، بأنْ يشحذوا نفوس قرَّائهم ويفعموها بالأمل والتفاؤل ، ويشفقوا عليها من اليأس والنكوص ، قبل أنْ يتوخـُّوا من صنيعهم الأدبي مجرَّد الإدلال بتميُّزهم عن الأقران بكفايتهم وموهبتهم ، وكذا تنادوا لعقد مؤتمرهم السابع ببغداد بداية نيسان عام 1969م ، وجرَتْ استعدادات متنوِّعة من قبل ملاكات الجهات المسؤولة عن شؤون الثقافة والنهوض بحاضرها وواقعها من الترحيب بالوفود وتهيئة الأماكن التي تحلها وتقيم فيها ، ومن توجيه الدعوات لمَن يقع عليها اختيارهم من أدباء الداخل ، ليتشكل منهم الوفد العراقي ، وسواهم من أدباء البلدان العربية غير الرسميينَ ومَّن لم تدرجهم السلطات في بلدانهم ضمن الموفدينَ من قبلها لينطقوا باسمها ويصدعوا بسياستها ، وإنْ شاب ذلك تعتيم وتمويه بأنْ يوحوا بتفرُّدهم ويتظاهروا باستقلالهم الفكري ونأيهم عن التبعية لأحد ، ومن ثمَّ تشخيص موضوع الساعة ، الذي صار لزاما ً على مَن يرتئي من الأدباء المشاركينَ جميعا ً أنْ يكتبوا فيه وعنه ، فتتوزَّع آراؤهم حوله لتليها تعقيباتهم واستدراكاتهم وملحوظاتهم ونقاشاتهم ، لا سِيَّما قد مضتْ مدَّة تقارب السنتين منذ خيبة العرب في دحر العدوان الإسرائيلي في الخامس من حزيران عام 1967م ، حيث انفضح أمام الملأ كذب ما يدَّعيه بعض الساسة من جاهزيَّتهم واقتدارهم على ردِّ كيد المعتدي إنْ تحرَّش بحدودنا ، وزيف تشدُّق الإعلاميينَ من موظفي إذاعاتنا بأنْ نرمي أرتال العدو في البحر لتقتات بهم أسماكه وحيتانه ! ، فكان الموضوع الأساسي الذي أثِرَ تداوله في أروقة المؤتمر هو دور الأديب العربي في مكافحة الاستعمار والصهيونية ، وما عداه من مترادفات بخصوص إحياء التراث العربي وتحقيقه ونشره ، وغيره من هامشيات وجانبيات يبدو فضلة وغير ذي شأن ٍ ، وقد اضطلع بكلِّ هذه المجهودات والأعمال المبرورة مضحيا ً بوقته وجهده ، ومتحملا ً ما يستتبعها من عناءٍ وسهر ومشقةٍ كلُّ من الراحلين ِ الكاتبين ِ المترسلين ِ : عبد الحميد العلوچي ، وعبد الجبار داود البصري ؛ فقد خبرْتُ من الأوَّل موسوعيته ، وشغفه بالدراسات القرآنية ، واسترساله في الكتابة الجارية وراء المعاني ، ولا يوقفها حرصٌ ما على حسن الأداء اللغوي ، لذا انتفتْ منها السقطات والأغاليط ، وسلمتْ من الهنوات ، وتواتتْ له الطواعية بتمامها ؛ وشهدْتُ الثاني ينتهز الأحايينَ التي يتيح فيها لنفسهِ مهلة يتخفف أثناءها من انشغاله بشؤون المؤتمر ، ليعدَّ بحثه عن الأدب التكاملي الذي نوي إلقاءه فيه يومها ، غير مفتكر ٍ بما يلزم للكاتب وقتها من تفرُّغ ٍ وتهيُّؤ واستنادٍ إلى مرجع ٍ ومصدر .
وجرَتِ العادة أنْ يُفتتح المؤتمر بآي ٍ من القرآن الكريم ، ويُدشِّن جلسته الأولى المخصوصة لخطب رؤساء الوفود بعده ، هو رئيس البلاد ملكا ً كان أو أميرا ً أو رئيس جمهورية ، لذا خطب الرئيس أحمد حسن البكر معلنا ً أنَّ كلَّ شيءٍ من أجل المعركة ، وأنَّ على العرب جميعا ً أنْ تتضافر جهودهم ويتناسَوا شقاقهم واختلافهم ويصنعوا شيئا ً لمحو آثار نكسة حزيران ، ليطرأ على ذلك الشعار من بعد انفضاض المؤتمر وإثر إياب الوفود لأوطانها ، تحريفٌ وتحوير على لسان الكاتب المصري أنيس منصور بأنْ ( كلْ شيئا ً من أجل المعركة ) على سبيل الاستهزاء بالخطب العنترية والمزايدات التي سمعها من بعض الوفود والتبجُّحات بمساعي حكوماتها لموالاة استعداداتها ، وتجهُّزها ليوم المنازلة الوشيك مع الغاصبينَ العُتاة ، والشعار الجديد ( كلْ شيئا ً من أجل المعركة ) ما توفق أنيس منصور في صوغهِ وابتداعه من وراء تغييرهِ بعض حركات أحرف الكلمات في ( كلُّ شيءٍ من أجل المعركة ) إلا جرَّاء انبهاره بالموائد المطهَّمة المنصوبة والمُعدَّة لأعضاء الوفود ، حيث انهمكوا في أكلات واحتساء مشارب لمْ يألفها أغلبهم في مواطنهم ، ولو أحصِي ما أنفق في سبيل تهيئتها من مال ٍ طائل ٍ لأربى على الحصر والتعداد ، ولاقتصر محاول الإحصاء على إشادتهِ بكرم العراقيينَ وطيبة سرائرهم ، وامتداح سخائهم ، فردَّ عليه من طريق الإذاعة مذيعُها الشاعر المتفنن إبراهيم الزبيدي عاتبا ً أو لائما ً ورافضا ً لهذه القالة أصلا ً .
وجيءَ بعددٍ جم ٍ ووافر من حملة الأقلام بين منصرف للكتابة حول موضوعاتٍ تاريخيةٍ صِرف ، وبين شاعر وقاص وهاو ٍ للنقد في ميدان الشعر والقصة ، وثالث كاد يمَّحِي من الذاكرة لتطليقِهِ الأدب وعزوفِهِ من مدَّة عن التمرُّس ومزاولة أيِّ من فنونهِ لتمثيل الأدبية العراقية ، أمَّا لِمَ حشَّد كلَّ هذا الرهط المرحوم عبد الجبار داود البصري ــ علما ً أنـَّهم متعدِّدو المشارب والاتجاهات ، متنوعو الميول والمقاصد ؟ ، أ ليستمعوا لمزيدٍ من التنديد بالرجعية ورموزها ، ويروضوا ذواتهم ويتشبَّعوا بكلمات مناقضة ومباينة لها في دلالتها من قبيل التقدُّمية وأشباهها ؟ .
ولا غرو أنْ ابتدر الشاعر القادم من النجف الشيخ عبد الغني الخضري حين افتتاح مهرجان الشعر العربي عُقيْبَ مؤتمر الأدباء مباشرة وفي قاعة الخلد نفسها ، بأنْ صارحَ الجمهور متفكها ً ــ هذه المرَّة ــ أنـَّه صار من يوم لقائه بهم ذاما ً للرجعية وكارها ً لأربابها ، ومشغوفا ً كلِفا ً بالتقدُّمية وأنصارها من جرَّاء ألفتهِ لهم وتعاطفهِ هو ونزوعهم وتطلعهم ، والأسلوب الساخر لا يخفى على مجتلي ذينكَ التوضيح والبيان ، وإلا فقد كانتْ صفة الانتقائية هي الراجحة في تعيين أعضاء مؤتمر الأدباء العرب الثامن بدمشق بعد مدَّةٍ وجيزةٍ ، فقد شمل نخبة من ممثلي التيَّارات والأحزاب من دون النظر لقابلياتهم ومواهبهم سوى لقانة بعضهم وترديدهم لألفاظ بعينها دون غيرها ، من قبيل : ( الميكانيكية ، والديماغوغية ، والصراع الطبقي ) ، وبذلك شُرِّع لتقاسُم الغنائم والامتيازات وإيثار المحاصصات وتغليبها على ما سواها منذ ذلك التاريخ البعيد نسبيا ً ، وفي كلِّ ما ننوي إنجازه وتنفيذه من أعمال ومشروعات ، وناهيك بما نجم عن الاحتلال من سوءات ورزايا تسبَّبَتْ فيها هذه المحاصصة المقيتة طويلة العمر .
ومن طرائف مؤتمر بغداد حضور الدكتور غالي شكري الذي انبهر الأدباء العراقيونَ الشباب ــ ممَّن كانوا وقتذاك في أوَّل الطريق ــ بكتاباته النقدية وفصوله الموزَّعة في مجلات ودوريات شتى ، إلى أنْ تنكروا له ، ونصلوا من فائق إعجابهم بطروحاته ، بمجرَّد أنْ استوى عودهم ، واستحصدَتْ شكيمتهم ، وشاع في غير مقالة ــ بالحقِّ وبالباطل ــ عن سطوهِ وانتحاله نتاجات غيره .
كذلك غمزُ الدكتور علي جواد الطاهر لخيري حمَّاد المترجم الفلسطيني الراحل ــ في مقابلةٍ صحفيةٍ ــ أنـَّه تكلم كثيرا ً ! ، بذريعة أنـَّه ألقى كلمة في جلسة الافتتاح أنحى فيها على العرب توانيهم وعدم جديَّتهم في نصرة فلسطين ومواجهة الخطر الصهيوني ، وشفعها بخطبة ثانية شكر فيها رئيس الجمهورية لتبرُّعهِ للمنظمات الفلسطينية بمال ٍ مجز ٍ ، لتشتري به السلاح أو تنفقه على فقراء الشعب الفلسطيني وجياعه ، ثمَّ وقف في يوم ٍ تال ٍ لإلقاء بحثه على المجتمعينَ عن دور الأديب العربي في مكافحة الاستعمار والصهيونية ، ونصَّب نفسه كأنـَّه واحدٌ من أهل الدار ووقف إلى جانب وزير الإعلام عند الأبواب الخارجية للنوادي لتوديع الضيوف بعد انفضاضهم من الولائم التي تقام فيها بحكم كونه من الهيئة العليا لاتحاد الكـُتـَّاب العرب ، علما ً أنَّ هذه التصرفات لا تليق به كونه المترجم البارع لكتاب ( الأمير ) لميكافلي ، وترجمته فاقتْ بروعتها سائر مثيلاتها من ترجمات ، ومنها الترجمة القديمة لمحمد لطفي جمعة ، الكاتب المصري الشهير ، ومحامي الرئيس المصري أنور السادات في المحاكم أيَّام اتهامه باغتيال أحد السياسيينَ المصريينَ غداة إقصائه من الجيش بعد منتصف أربعينيات القرن الفائت .
وكانتْ خطبة الدكتور سهيل إدريس قادحة بحقِّ الأدباء الشيوخ ، ومتزلفة لشبَّان الأدب ، فردَّ عليه الجواهري عبر قصيدتهِ ( يا ابن الفراتين ِ ) الملقاة في مهرجان الشعر بعد المؤتمر ، إنـَّه ما قصد بتعريضه سواه :
وَصَـاحِـبٍ لِيَ لم أبْخَسْـهُ مَـوْهِـبَـة ً وَإنْ مَـشَـتْ بـِعِـتـَابٍ بَيْنـَنـَا بُرُدُ
نـَفـَى عَـن الشعر أشْيَاخا ً وَأكهـِلة ً يُزجي بذاكَ يَرَاعَا ً حِبْرُهُ الحَردُ
كـأنـَّما هـو فـِي تـَصْنِـيْـفِهـِم حَـكـَـمٌ وَقـَوْلـُهُ الـفـَصْـلُ مِيْثاقٌ وَمُسْتندُ
وَمـَـا أرَادَ سِـوَى شَـيْـخ ٍ بـِمُـفـْـرَدِه لـكِـنـَّهُ خـَافَ مِنـْهُ حِـيْـنَ يَنـْفـَردُ
…………….
ومن غرائبه أنَّ المرحوم الأستاذ منير البعلبكي صاحب دار العلم للملايين ، وذا الفضل العميم في نشر المطبوعات العربية ، ومترجم روائع القصص العالمي والآثار الاستشراقية ، ومعد المعاجم ؛ لم يلتفتْ له أحد أو يدعه إعلاميُّ لحوار أو ندوةٍ في التلفزيون ، بل بدا أو كان منزويا ً وزاهدا ً في الكلام ، ومعرضا ً عن المماحكات ، وإدلال هذا وذاك بعوارفهم وصنائعهم الأدبية ، وكان يستجيب لرغبة هيئة المؤتمر في السفرة إلى النجف وبابل والبصرة ، ولا يسترعي نظر غيره في ذلك أو يُنبئ عن شخصه وهويتهِ ، وكنتُ دانيَ الصلةِ به ومزامله في بعضها بحكم موافاتي مجلتهِ العلوم ( المُحَكـَّمَة ) الرصينة ، والتي وكل للشاعر العراقي بلند الحيدري مهمَّة تحريرها في شوطٍ تال ٍ ، قلتُ بحكم موالاتي النشر فيها وقتذاك ، ومنه عرفتُ أنـَّه اشتغل مدرِّسا ً في مدارس العراق أيَّام زمان في بداية أربعينيات القرن الماضي على الخصوص ، وأرجِّح أنـَّه أقام في البصرة زمنا ً ، بدليل إقرار الراحل الدكتور فيصل جريء السامر بتتلمذه على يديه في شبيبتهِ واستفادته الطائلة من علمهِ الغزير ، كما أفادني البعلبكي نفسه أنَّ عهده ببغداد في السابق ليس كما يلحظه الآن فيها من ازدهار وتوسُّع وعمران ، بينما انصرف الصحافيونَ بتغطيتهم لوقائع المؤتمر من خلال اتصالهم بالأدباء الشباب من الوفود ، وأهملوا الأدباء الكـُمَّل بما فيهم بعض الرواد الأوائل .
وللمراقب المنصف لما ساد المؤتمر طوال أيَّامه من جو ٍ مفعم ٍ ومليءٍ بالحوار الهادئ بين المختلفينَ اجتهادا ً ورأيا ً في لجانه ، لولا أنْ تحفظتْ إحداها ورفضتْ اقتراحا ً للوقوف حدادا ً على روح الدكتور جورج حنا ، كأنـَّها تطرب لغيبتهِ النهائية عن هذا العالم ، فحتى في الموت لا يسلم المرء من إيذاء لئام البشر ، وحسبه أنـَّه لا يتحسَّسه ؛ قلتُ لنا أنْ نشيد بحضور الدكتور عبد الله سلوم السامرائي ــ وزير الإعلام حينها ــ وفاعليتهِ ، غير أنـَّه حُلـِّئ عن هذه المرتبة ومات بعد سنين موتة محفوفة بالغموض ، علما ً أنـَّه انصرف في تلك الآونة لإنجاز دراساتهِ وأبحاثه في التاريخ الإسلامي وما عمَّه وتوزَّعه من فرق وتياراتٍ ومذاهب ونِحَل شتى ، فضلا ً عن مساهمتهِ في ميدان الإبداع الأدبي من نحو القصة والرواية ، يخصُّ بها ــ من آن ٍ لآن ٍ ــ صفحة ( النافذة الفكرية ) لجريدة ( العراق ) المحتجبة ، إلى جانب تعقيباتهِ وتحليلاتهِ للأوضاع السياسية ، والتي لم تستهو ِ أحدا ً من الخاصة وتعجبه ، لما تزخر به من نقدات لاذعةٍ تعفُّ عن القدح والذمِّ الصريحين ِ ، وتدنو من التعريض والإيماء الخفيين ِ ، وأبرزها وأجرؤها هو الإشادة البليغة والامتداح الصريح الجهير لجنرال الجيش السوداني ( سوار الذهب ) ، ودورهِ في التهدئة وإسكات الفوران والهياج وإطفاء نائرة الغيظ هناك ، والتزامهِ بوعده المعلوم المقطوع أمام الجمهور الغاضب ووفائه وبرِّهِ بهِ حال انتهاء مدَّتِهِ المحدَّدة .
كما لا بُدَّ من التنويه بتصدِّي الشاعر المعروف الأستاذ خالد الشواف ــ وكان يومها موظفا ً مرموقا ً في ديوان وزارة الإعلام ــ لإدارة اجتماع أعضاء الوفد العراقي في المؤتمر عشيَّة انعقاده ، مصارحا ً إيَّاهم برفض اللجنة المؤلفة والمنوط بها مراجعة الأبحاث المقدَّمة في موضوعاته واعتراضها على ما ورد في تضاعيف بحثين ِ أو ثلاثة من حجج ودلائل قد تضرُّ بالعلاقات العربية أو تخدش الشعور العام ، وأغلب الظن أنـَّه لم يرد أنْ يتكرَّر الشجب والاستنكار اللذان لحقا بالدكتور صلاح خالص في مؤتمر الأدباء الأسبق بالكويت ، حيث لم يُصَادف قبولا ً ورضىً من المجتمعينَ ما خاض فيه حول الصراعات الطبقية الملازمة للعهود العربية والإسلامية الدابرة ، وعبثا ً ما ساجله به المرحوم هادي العلوي وذياده عن مشروعية حقِّ صنوه في أنْ يعبِّر عن آرائه وأنظاره ومكنوناته على وفق ما يشاء ؛ وكان يجلس جواره في هذا الاجتماع الاستثنائي الأستاذ سالم الآلوسي ــ الشاغل حينها منصب المدير العام لمديرية الآثار والسياحة المرتبطة بالوزارة نفسها ــ وكلاهما محسوب على التيار العربي المُبَرَّأ من وصمة الدَخل والتحرُّش بموروثات بقية الأجناس والعناصر ، والمتعفف عن أيِّ انحياز وتعصُّب ، وجُلُّ بغيته أنْ تعيش الجماعات في أوطانها كرائمَ في إخاءٍ وتسامح ، ولا تطول غيرها بالانتقاص والازدراء ، وبعد مرور وقت غادرا موقعيهما في الوزارة المذكورة ، مع العهدة للثاني بالإشراف على خزانة الكتب والوثائق .
أما الأستاذ حسن العلوي الذي اضطلع بمهمة عريف الحفل في اليوم الأوَّل ، فقد أمتعنا بتعليقاته المتوالية والطريفة ، وامتلأت نفوس بعضنا هلعا ً ورعبا ً كلما دعانا إلى تدبُّر مصائر جواسيس الصهيونية المعلقة جثامينهم يومها بأعمدة الكهرباء في الباب الشرقي ببغداد ، ونحن أضعف خلق الله إنسانا ً ، ونبتغي أنْ نعيش بحالنا وكفانا ما جنينا به على أنفسنا من جرينا وراء السراب ، وليتنا كنـَّا عميا ً كي لا نبصر الأردياء والثقلاء والبغضاء والطالعينَ من طبقات الأرض بعد يوم 9 / نيسان / 2003م ، ليتصدَّروا على رأس الحركة الأدبية ، وعُدَّتهم الألفاظ الخشنة والكلمات المسمومة ، يلهجون بها في المحافل بمناسبة وبدونها .
وعجيبة العجائب وغريبة الغرائب ، أنْ كان من بين أعضاء الوفد العراقي الأديب المحامي أنور شاؤول صاحب مجلة ( الحاصد ) التي كانتْ تصدر عام 1928م ، وهو شاعر معروف ومن أبناء مدينة الحلة في الأصل ، ومن اليهود العراقيينَ ، نزح إلى بغداد وأمضى حياته مسالما ً ، ولم يجد في نفسه رغبة في هجران موطنه والذهاب إلى إسرائيل ، منخدعا ً بمغريات اليهود وأساطيرهم ، وكان يغشى المنتديات الأدبية ، وفي مهرجان الشعر العربي المُقام إثر المؤتمر مباشرة ألقى قصيدة يستنكر فيها الصهيونية ، ويُعلِن عن محبَّته واعتزازه بوطنه العراق الذي احتضنه وتربَّى فيه ، والذي يستمع له ساعة إنشاده يصدِّقه حتما ً ، إذ يتلمَّس عفويَّته وصدقه وطيبة نفسه ، غير أنـَّه غادر العراق بعد مدَّة وجيزة وذهب إلى إسرائيل ، مقدِّما ً هديَّته لرئيسها ، وهي كتاب مذكراته في العراق ! .