رمضان مهلهل سدخان: نوافذ البريكان … نوافذ للسكون واللابوح

ثماني نوافذ هي تلك التي فتحها البريكان في قصيدته ” نوافذ ” التي كتبها عام 1984 والتي بدأها بـ ” نافذة فتاة ” وأنهاها بـ ” نافذة الشاعر ” وما بينهما انفتحت نوافذ لكسيح، لعجوز، للطفولة، لعامل وافد، للحب، ولمحطة. هذه النوافذ المجهولة حتى بوجود ما يشير إلى تعريفها لم تك تعج بالحركة بل غلب عليها طابع السكينة والهدوء والتأمل، أكساها الشاعر بشكل مقصود ببعضٍ من سكينته وهدوئه وتأمله المتأتي من انقطاعه التام إلى النظر إلى الكون وإلى كينوناته نظرةً فلسفيةً نأت به كثيراً عن دنيا الابتذال الشعري أو اجترار بعض القوالب التقليدية. وبذلك جاءت نوافذه، سواء تلك التي بدت مادية أم تلك التي شخصت مجردة، جاءت تلخّص دنيا هذا الشاعر الذي آثر على أن لا يوسّع حدوده مع بقية خلق الله ونسج حوله جداراً من العتمة والضبابية يتعذر اختراقه بيسر. فضلاً عن أنها نوافذ تبدو طارئة وقتية تمثل مقاطع مستعرضة للحظات زائلة، لكن الشاعر جعلها تنحفر عميقاً في ذاكرة المتلقي من خلال رسمه بكلمات متأنية، ملمحاً بارزاً لكل نافذة من هذه النوافذ. إذن، زوال لحظة تلك النوافذ لم يلغِ سرمديتها وديمومتها التي اكتنزت بالرموز والإيحاءات التي جعلتها تنفتح إلى مختلف التأويلات وعلى مستويات عدة. ومن بين ما عكسته “نوافذ” تلك القصيدة هو نصف البوح أو اللابوح ربما، وكذلك حالات السكون والوحدة واللاحراك التي سكنت اغلب مفاصل تلك القصيدة.

في البداية لابد من التنويه بأن عنصر السكون الذي خيّم على هذه القصيدة عبر نوافذها الثماني لا يعني الشلل والمَوات بل هو نوع من الترقب المفلسَف الذي ولّدته اللحظة الآنية في جسد كل موقف – نافذة – من تلك المواقف – النوافذ – التي تشكّل بمجملها مجسات تقود إلى عوالم ذلك الشاعر الذي لم يفتح نافذة سوى ” للضوء والريح وعطر الأرض ” لكنه عندما هجم منها ” صخب العالم “، أغلقها و ” كأنه لآخر الزمان”. وبالرجوع إلى تمظهرات اللابوح والسكون في هذه القصيدة، يبرز واضحاً تَرافقُ سكون الموجودات الجامدة مع الموجودات المتحركة – العاقلة وغير العاقلة – باندماج ذكي بين الإنسان اللاعب الرئيس وبين هذه الموجودات التي تؤثث هذه القصيدة بشخوص هدّهم التعب وأنهكهم طول الانتظار والسأم.

إنهم شخوص شبحية أثيرية لم يتكلف الشاعر كثيراً بالبوح عن مكنوناتهم أو الإفصاح عن ملامحهم مما حرّك، بشكل عمدي، فضول المتلقي ليجعله يرسم هو بنفسه ملامح كل شخصية بالاستئناس بالموقف الذي حشرها فيه الشاعر. هذه التقنية، أي إشراك المتلقي برسم الجزء غير البارز وإكماله بمقتضى تلميحات الشاعر، ألقت على كاهل ذلك المتلقي عبء الغوص عميقاً بين تلافيف تلكم الشخوص والأمكنة التي وُجِدت فيها للخروج بشيء ربما ينطبق مع ما كان الشاعر يرمي إليه.. أي أن في القصيدة طلاسم ينبغي فك شفراتها، وإلاّ بدت القصيدة عادية تتحدث عن فتاة وكسيح وعامل وافد … وما إلى ذلك.

هذا البوح الناقص يتكشّف في جميع تلكم النوافذ الموصدة المتجلببة بستار الليل في معظمها، فتبدو الشخوص في الداخل أسرى هذه العتمة المادية والمعنوية والسجن القسري الذي بدا مزدوجاً في بعض المواقف ليحيل الشخصية إلى مجرد ظل ليس إلاّ:

ومرة أو مرتين في هزيع الليل
يلوح عبر شاشة الستار
ظل الفتاة المائل الأسود

وحتى إذا ما انفرجت تلك الضبابية، يكون البوح ناقصاً والحدث نصف مرئي، عندما يطالعنا ” كسيح ” وهو في مستوى الجبهة ” يبرز في كرسيه / يواجه الشارع / يحاور الفراغ “. نصف البوح هذا ما يلبث أن يضيع في غياهب الظلمة مرة أخرى شيئاً فشيئاً ” حتى يسود الليل “، فينتهي المشهد ويبقى ظل نافذة أو ربما لا نافذة. ويستمر نصف البوح عندما يفتح ” نافذة عجوز” من دون أن يخبرنا عن الزمان سوى أن تلك العجوز تنظر لترى إن كانت الشمس قد غابت أم لا، والتي عندما تقترب ” من حافة النافذة / تلوح في الإطار / كصوت لعالم يموت.”

ونفس الشيء ينطبق على ذلك “الولد” العابث الذي يحاول مراراً أن يتسلق قضبان النافذة لكن على حين غرة ” تمتد من ورائه يدان / يُسحب للداخل..” فيتلاشى ذلك المشهد كلياً فتظل النافذة شاخصة تبكي زمناً قد ضاع. وكذا ” العامل الوافد ” الذي يحجب شعره الأشعث مجال الضوء، وكل حاجياته ” حبل وثوب واحد مغسول / زاوية المنضدة / قنينة ” و ” عدة ملصقات / من ورق الصحف”. وإذا كان للحب نافذة، فهي نافذة ليست ككل النوافذ، لم يفتحها ليرى ما بداخلها، بل جعل ينصت إلى ما يرشح منها من قهقهات وغمغمات وأصداء من سكون، مكتفياً بتصويرها من الداخل:

نافذة مسدلة الستائر
يرشح منها الضوء
وظل موسيقى
وقهقهات
وغمغمات طفلة
وصوت أطباق
وأصداء من السكون
نافذة زرقاء
تضيء في وجه ظلام الكون

وتترى النوافذ، وتترى معها حالات اللابوح في مفاصل القصيدة لننصدم بعامل المحطة المتعب الذي ” يظهر نصف وجهه في الضوء ” وكأنه تلاشى بين جداول السفر وكشوفات القطارات. أما النافذة التي جاءت باسم ” نافذة الشاعر “، فهي بلاشك نافذة لشاعر هذه القصيدة، تنطوي على فعلين حركيين: احدهما خاص بـ “الفتح” المؤقت الزائل وثانيهما خاص بـ “الغلق” الأبدي السرمدي كانغلاق تابوت. وبفعل الانغلاق إنما أراد الشاعر أن يحصّن نفسه ويقلّص حدود تعاطيه مع موجودات هذا الكون إلى الصفر. وهكذا فإن نافذة الشاعر:
يفتحها للنور والريح وعطر الأرض
ويهجم منها صخب العالم
يغلقها كأنما لآخر الزمان
ومثلما يُُغْلق تابوت إلى الأبد

هذا وقد امتزج نصف البوح أو اللابوح بسكون فرضَه الموقف المؤسَّس عليه الخط العام للقصيدة سواء بشخوصها أو بأشيائها. فالفتاة تُرى مرة أو مرتين، وبرغم هدأة الليل، لاتني بشيء في هذا المرور الأثيري. والكسيح يحاور الفراغ، وأخاله حواراً بصرياً ترقبياً لحين انسدال الليل ومن ثم الضياع في غياهب الظلام. والعجوز لا تقوى على الاقتراب من نافذتها إلاّ لمعرفة الوقت لتغطّ بعد ذلك في غيبوبة دائمية لتجسّد عالماً يموت. وبرغم عبث الطفولة، تخمد شقاوة “الولد” الذي يتسلق القضبان عندما ” تمتد من ورائه يدان” تسحبانه للداخل لينتهي كل شيء إلى لاحراك. وكذا العامل الوافد وعامل المحطة والشاعر، كلهم مشتركون بديدن واحد وهو التدرّع بالسكينة الجمّة وافتعال الهدوء.

أما أشياء هذه القصيدة فهي الأخرى تشي بالسكون الذي يكاد يكون مطبقاً: أصيص، زهرة واحدة، كرسي، ملصقات، ورق الصحف، قنينة… الخ. ومما عزّز ثيمة السكون أيضاً الأفعال المستخدمة التي تبعث أصواتها على الهدوء والبعد عن الصخب: تبزغ منه زهرة، تراقص الهواء، يلوح عبر شاشة الستار، يبرز في كرسيه، يحاور الفراغ، تمتد أحياناً يدٌ معروقة، تنظر العجوز، يحجب أحياناً مجال الضوء، … باستثناء الفعل يهجم في ” يهجم منها صخب العالم ” الذي جاء بصيغته الحاضرة إنما ليتساوق مع “صخب العالم” وكذلك ليعطي تبريراً على إغلاق الشاعر تلك النافذة مرة والى الأبد.

أخيراً، يمكن القول بأن تلكم النوافذ إنما جمعت بين المادي والمعنوي الذين اقترنا معاً في اندماج مثير لتشكيل رؤية واضحة تؤطّر لموضوع كبير، على المتلقي الانشغال بفهم أجزائه غير المصرّح بها. إذ أن جلّ هذه النوافذ جاءت موصدة محصّنة بأستار أو جاءت صغيرة بحيث أن رأساً أشعثاً ربما ” يحجب أحياناً مجال الضوء” من الوصول إلى الداخل الذي يحيل القاريء إلى عوالم فضّل الشاعر أن لا يهتك أسرارها أمام قارئه. وهكذا سرعان ما ترتسم صورة كولاجية سريالية اندمجَ فيها المادي مع المجازي، والداخل مع الخارج، والموت مع الحياة، والضياء مع الظلام، والأحدية مع التعددية. وفضلاً عن هذا كله، تبقى نوافذ البريكان نوافذ للأسى الشفيف وليس نوافذ للفرح الغامر، نوافذ للكتمان وليس نوافذ للبوح المباشر، نوافذ صُوِّرت من الداخل، لكنها رغم ذلك تنتظر مَن يفك شفرات شخوصها وأشيائها الموجودة هناك.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *