رحل موسى كريدي على نحو ٍ مفاجىء وقبل ان يستكمل مشروعه الابداعي تماما ً. لقد بلغ عمر تجربته في القصة ثلاثة عقود من السنين ، اثمرت اربع مجموعات قصصية ورواية واحدة ، نشرت جميعاً بين العامين 1968 و1994 ، كما اهتم بكتابة الشعر اهتماما ً واضحا ً في السنوات الاخيرة من حياته بشكل خاص . وتأتي مجموعة ” الغابة ” القصصية لتشكـّل اضافة ً تضع امام دارس اعماله فرصة اخرى للغوص بشكل اكثر عمقا ً في تجربته والتعرف بصورة افضل على ملامح هذه التجربة . صدرت هذه المجموعة عن دار الشؤون الثقافية العامة في العام 2004 ( اي بعد ثماني سنوات من رحيله ) وتقع في ثلاثين قصة ( بينها تسع قصص قصيرة جدا ً كتبها جميعا ً في العام 1987 ولم يعاود كتابة ما يماثلها فيما بعد على حد علمنا . )
ان قصص المجموعة تحمل سمات المنحى الاسلوبي الذي اعتمده في اعماله ، وهو منحى ً يقترب من الواقعية ولكنه لا يقع في فجاجة المباشرة . ولم يسبق نشر هذه القصص التي كتبت بين العام 1978 والعام 1996 ( وهو عام رحيله ) في اي من مجموعاته الاربع الصادرة مع انها كانت قد نشرت في عدد من الصحف والمجلات العراقية .
سبق لنا ان كتبنا في مناسبة رحيل موسى كريدي ان رحيله المفاجىء يمكن ان يقود الى التساؤل عما اذا كان القاص قد اتخذ من مظاهر المرح الخارجي والضحكة المجلجلة وحب المزاح والنكات والغناء ، وروح المماحكة والجدل المتوثبة فيه ، ستارا ً يخفي وراءه احساسا ً داخليا ً بالفجيعة . ولا يصعب على من يستقرىء تجربته وثمارها القصصية بشكل خاص ، ان يأتي رده بالإيجاب على مثل هذا التساؤل . ففي الكثير مما كتب ثمة ما يشي بأن عالمه الابداعي مسكون بهاجس الموت . ولهذا الهاجس حضوره المتكرر : تارة ً يبدو كثيفا ً ، دبقا ً ، يلتصق بالنص ويثقل انفاسه ، واخرى رقيقا ً شفافا ً ، يعلن عن حضوره ثم يمضي مثل طيف عابر . والموت عند موسى كريدي له صوت ورائحة ووجود مادي ، مرئي ومسموع وملموس ومحسوس ايضا ً ، وهو بهذا يضعه معادلا ً للحياة حين يمنحه كينونة كائن حي . لقد حلـّق هذا الهاجس مثل طائر لا يستقر في مكان ، في فضاء مجموعاته القصصية الاربع بدء ً من مجموعته الاولى ” اصوات المدينة ” ( 1968 ) ، وهو يتجلى من خلال مفردة او عبارة وصفية او تشبيه او استعارة لفظية ، او من خلال سلوك الشخصيات ومصائرها وطبيعة الاحداث واماكن وقوعها والنهايات التي تؤول اليها ، ويجد له حضورا ً في العديد من قصص ” الغابة ” . ففي قصة ” حلم ” يتهيأ لمدرس اللغة العربية بشير الجابري انه يلتقي اباه في الشارع : يحدّثه ويسير معه ، مع ان اباه كان قد مات قبل سبع عشرة سنة . اما بطل قصة ” الغابة ” فيقول ” اقبلت الريح وحملت معها الى باحة المنزل المنشاة بالدم رهجا ً من مسحوق ناعم دقيق شبيه بغبار جثث قديمة ” ( ص 28 ). وفي هذه القصة ادانة صريحة للحرب بما تنطوي عليه من موت وخراب ، وتذكرنا اجواؤها بأجواء قصة ” عربة الليل ” التي نشرت في مجلة ” الآداب ” البيروتية لأول مرة في العام 1968 ثم اعيد نشرها في مجموعة ” خطوات المسافر نحو الموت ” الصادرة في العام 1970 . في قصة ” الغابة ” يُجبر بطل القصة على نقل حمولة مجهولة في عربته ، فيتوغل في غابة ( وللغابة دلالتها الخاصة هنا) يحاصره قلقه على ابنه وابنته وزوجته ” وانا اسير، بتّ لا افكر فيما احمل بل اني رحت ابحث عن ولدي . ماذا حل به ؟ هل نجا من الموت ؟ اهو مثلي الآن لم يهتد بعد الى بيته ؟ مر ّ بي كهف تطلعت في احشائه . لم اجد سوى جماجم مبعثرة خلال اخاديد معتمة رحت اتلمس بعضها . هل اجد جمجمة ولدي ؟ هالني ان اجد جنب هذا الركام خراطيش رصاص وبقايا عظام بشرية ” ( ص 24 ) .
القلق المأزوم
ان اغلب شخصيات موسى كريدي تبدو مازومة بالقلق والضجر والخوف من المستقبل ، ومهزومة داخليا ً ، وقد تجد في الموت منفذا ً للخلاص من ازماتها وهزائمها الداخلية . ففي قصة ” ضيف ” التي اهداها الى صديقه الحميم الروائي مهدي عيسى الصقر ، يلتقي الراوي بصديق سكير ويذهبان الى بار . لايعجبه وضع صديقه فيقول له ” انت تموت ببطء ” ( ص 77 )، ويصدف ان يجالسهما زائر غريب ما يلبث ان ينخرط في البكاء ” سوف اموت بين لحظة واخرى … سألحق به اليوم او غدا ً ” ( ص 83 ) ، وهو يعني اخاه صاحب الورشة الذي قتل غيلة ً على ايدي قتلة مجهولين ، ولكن دون ان يفصح الزائر عن سبب عملية القتل مما يفتح امام القارىء اكثر من احتمال للتأويل . وفي مشهد قصصي يصف ما اصاب امه ” مرّة ً قالت اختي انها رأت امي ممدة على سريرها في غرفتها . كان ذلك في الليل ، لا تعرف إن كانت امها تحلم ساعتها ام كانت بين النوم واليقظة حين لمحتها تعتدل نصف جالسة ثم تميل قليلا ً نحو حافة السرير . وفجأة ً مدّت كفين راعشتين نحو شيىء مجهول ثم قالت : خذ … خذ… وبدل ان ترتد الى مكانها سقطت المسكينة على وجهها اسفل السرير وسال دم ” ( ص 86 ) .
وبين شخصيات قصص المجموعة من ينوء بعبء الشيخوخة ويتمنى الموت للتخلص من هذا العبء . فبطل قصة ” في اقصى الصالة .. خلف المسرح ” يختلف ، وهو في الثالثة والسبعين من عمره ، مع زوجته وينتقل الخلاف بينهما الى المحاكم ، نسمعه يهتف امام القاضي ” يارب متى ؟ وكان يعني هذا انه يسأل الرب متى يأخذ امانته ” ( ص 95 ) ( ويتكرر الامر نفسه مع عمة بطل قصة ” منزل في ضاحية ” العجوز ) . يذهب بطل القصة ليبحث عن زوجته في بيت خالتها ولا يجدها ” فقد اخذ يدب على عصاه مبتعدا ً خطوات وحين لامست يده الاخرى الاطار المواجه للمدخل بدا انه لم يستطع اجتياز العتبة . اما سعيد ( ابن خالة زوجته ) وامه فقد جمدا في المكان غير انهما بعد اقل من دقيقة سمعا سقوط شيىء على البلاط ” ( ص 104 ) . وتختتم القصة بهذا المشهد القصصي الذي يومىء الى خاتمة حياة بطل القصة من خلال عبارة توحي بذلك . ويحدث الشيىء نفسه في خاتمة قصة ” خروج على القاعدة ” . فثمة ايماءة الى نهاية احد الملاكمين المأساوية في حلبة ملاكمة حيث ” دارت الارض دورة غير اعتيادية حتى تفرق ما حملته من اشياء . اختلـّت مواقع الجهات الاربع . كل متحرك ثبت والثابت تحرك . لا شيىء يثبت وجود الحلبة . لا مكان لحكم يراقب بعينيه الصقريتين . لا ظل حتى للخصم وهو في عرسه الاخير، لا احد سمع شيئا ً حين هبط الغسق الصامت على الارض . تطوّح الجسد العملاق وبرد تماما ً . ” ( ص 169 )
واذا كان لسطوة الموت حضورها المتواتر في مناخ قصص موسى كريدي ( وقد تجلت من خلال النماذج التي اوردناها ) ، فإن ثمة ملمح آخر يتواتر حضوره هو الآخر ، يتمثل في ميل القاص الى انتقاء احداث وامكنة يكتنفها الغموض ، في محاولة منه للتوغل في المجهول وامعانا ً منه في الرغبة في الكشف عن اسراره وخفاياه ، وهي اسرار وخفايا يظل بعضها طي الكتمان . وقد يحفل بعض مشاهده القصصية بما هو غرائبي مما قد يوحي بتأثره باسلوب الواقعية السحرية حيث ينصهر الحلم والواقع والخيال معا ً . ففي قصة ” الكهف ” ، حيث يستحضر حكاية اهل الكهف من خلال اشارته الى سورة الكهف في القرآن الكريم ، يقدم لنا الراوي ــ وهو القاص نفسه هنا ــ سردا ً لرحلة قام بها عبر كهف مشهور في سلوفينيا ، وهو لا ينسى ان يدين الحرب مرة ً اخرى ولكن ببعدها العالمي هنا ، فقد ” كان كهف بوستويّيا مقاتلا ً سريا ً ، مقاتلا ً في الظلام ، ولطالما كان مخبأ ً لمقاتلي سلوفينيا انفسهم ” ( ص 10 ) . ويرسم صورة توحي بالمقارنة بين عالم الداخل وعالم الخارج : عالم الكهف وعالم المدينة ” وبدا العالم لنا خارج اطار الكهف قاسيا ً كالحديد غريبا ً متوحشا ً ، مكتظا ً بالديدان واللصوص والقتلة وتجار الحروب ” ( ص 11 ) . وعلى حين غرة يجد هو ومن معه ، انفسهم وسط الظلام ” لقد ارغمنا الظلام على التوقف . سبحنا جميعا ً في ظلام مطلق مكتنز شعرنا لحظتها اننا نغترب في كون مجهول . لعل اكثرنا لم يلمس في يقظته مثل هذا الظلام الذي احاط بنا من كل صوب . ” ( ص 8 ) . غير ان الرغبة في الكشف عن اسرار المجهول كانت تدفعه للتوغل عميقا في ذلك الكهف . وفي قصة ” انتظار ” القصيرة جدا ً يضع القاص امامنا واحدة من الصور الغريبة التي تتوافر على ما هو غامض وغير مألوف ، قد تذكـّرنا بصور ماركيز الغرائبية . فبطلة القصة ” كانت كلما مالت نفسها للغبطة ، ازدادت مخاوفها ، وحدث ما كانت تخشاه فقد رأت فيما يرى النائم ذات ليلة ان زهور الغاردينيا في حديقتها تتحول الى اصابع من طين وان منقارا ً بلون الرماد ينزل من برج في السماء مجهول ما بين الاصابع ” ( ص 19 ). ويجد بطل قصة ” الغابة ” نفسه محشورا ً في وسط يكتنفه الغموض حيث يجبر عن طريق السخرة ( وهو ما كان شائعا ً ايام الحروب ) على ان ينقل بعربته حمولة مجهولة ( يتبين له انها اعتدة ) كان مجرد الكشف عنها يكلفه رأسه ” اياك والكشف عما في داخل العربة فهناك من سيطوح برأسك إن اعلنت عن حملك ” ( ص 23 ) ، فلم يعد لأصابعه ” ان تعمل او تفك اللغز وسط رذاذ احمر ذي بخار ثلجي .
صدى الصوت الخفي
طار في الرذاذ نسر بعين واحدة “( ص 24 ) . ويتوغل القاص في رحلة داخل نفس البطل ليكشف عن محنة هذا الانسان البائس المحاصر بالقلق والخوف والجوع والموت في زمن الحرب . وينطوي تعبير ” رذاذ احمر ” الذي يتكرر حضوره في القصة ، على دلالة موحية فهو يشي بلون الدم الذي طغى على كل الالوان في زمن الحروب المتتالية . ان في مضمون هذه القصة وطبيعة احداثها ما يومىء الى موقف القاص المعارض للحرب لاسيما ان القصة كتبت في العام 1987 وكانت الحرب العراقية الايرانية ما زالت مشتعلة آنذاك . ويجد بطل قصة ” منزل في ضاحية ” الاعزب نفسه مضطرا ً لترك البيت الذي كان يسكنه مع عمته التي هي في خريف العمر كما يقول ، بناء ًً على رغبتها فقد كانت ” كلما اخلدت للسكون سمعت على مقربة منها خلال كرسي ٍ ما ، او تحت منضدة ٍ ما ، صدى ذلك الصوت الخفي . الصوت المجهول . صدى صائح غريب يتصف بغموض تحسبه عميقا ً وهو قريب ، وتحسبه خفيا ً لكنها تسمعه فيذكـّرها بعالم الاموات ويحصل احيانا ً ان تسمعه كما لو انه دوامة ماء او ريح موغلة في مستنقعات من الطمي . يظهر ويختفي دون وقت . لا احد منا يعرف حقيقة مصدره ” ( ص 33 ) .واذا كان ما تسمعه العمة او ما يخيل اليها انها تسمعه ، انما هو نتاج مزيج من مظاهر الشيخوخة والاحساس بالتوحد ، فإن القاص يجري عملية تبادل مواقع بينها وبين البطل حيث ان رنينا ً لهاتف مجهول يتواتر حضوره وصوتا ً لشخص غريب ونقر اصابع على الباب جعل عدوى سماع الاصوات الغامضة تنتقل اليه فنسمعه يقول ” ظل سؤالٌ ما يتردد في داخلي ادى بي الى التوهان في ظل غابة مجهولة ” ( ص 49 ) ويدفعه ذلك الى ان يحزم حقائبه للبحث عن ملاذ آخر . ويلوّن القاص خلفيات العديد من لوحاته القصصية بلون الظلام وكأنه يريد ان يجسد عتمة الحياة التي تحيط بشخصياته . فمفردة “ظلام ” بما توحي به ، تتكرر هي وما يرتبط بدلالتها من مفردات ، في العديد من قصص المجموعة ( وهذه سمة واضحة في اغلب اعمال موسى كريدي ) . ويتجلى هذا التكرار بشكل خاص في قصة ” الغابة ” وقصة ” الكهف ” وقصة ” الطنطل ” التي يستلهم فيها المخيلة الشعبية .
ان في الشواهد التي اوردناها ( وفي غيرها من الشواهد التي تعج بها قصص المجموعة ) ما يؤكد على ان هاجس الموت كان يبسط سطوته على تفكير موسى كريدي وعلى مخيلته ايضا ً فتجد هذه السطوة انعكاسا ً لها في مجمل ما يكتب وهي التي تقف وراء توغله في عالم الغامض والمجهول من الوقائع والأحداث وكأنه يحاول الكشف عن لغز تعايش النقيضين : الموت والحياة .