حوارات في مائة سؤال مع شيخ القصّاصين
س1 : أستاذ أنور ، أكتب بإيجاز عن حياتك .. بداية كتاباتك .. عمّن تأثرت بهم ، وأثرت بهم من الكتاب والأدباء ، عن رحلة العمر الطويلة ، التي بدأتها بحب الأدب والأدباء ، إلى درجة أصبحت فيها هماً حقيقياً ، وصل إلى درجة العشق والوله .. وعمّن كتب عنك ، من الكتّاب والأدباء والنقّاد ..
ج1 : من مواليد الموصل في 6/5/1935 والدي كان مأمور مركز للشرطة ، وأول ما وعيت هو حبه للقراءة – التاريخ والحكايات خاصة- وكان يقرأها بصوت مسموع .
التأثيرات كثيرة لا يمكن تحديدها ولكنني أستطيع القول أنها كانت ألف ليلة وليلة والزير سالم وتغريبة بني هلال ومريم الزناريّة وتودّد الجارية وأنا لم أقرأ كأقراني طرزان ومغامرات شارلوك هولمز بل كنت أكرهها واستخفها ، ثم قرأت لأدباء مصر محمد عبد الحليم عبد الله ومحمد حسين هيكل في رواية زينب وكل كتب طه حسين وسلامة موسى ونجيب محفوظ ويوسف الشاروني وأمين يوسف غراب والعقاد والمازني وأنور المعداوي ويوسف إدريس ومن لبنان جبران خليل جبران ومن سوريا حنّا مينا ومن الأجانب تولستوي ودستويفسكي وتشيخوف وشولوخوف وتور جنيف وبوشكين وغوغول وفلوبير وموباسان وبلزاك وهيجو ورسول حمزاتوف في رائعته السردية داغستان بلدي وجنكيز أيتماتوف والقرغيزي في روايته الرائعة ” في انتظار البرابرة ” والذي توفي قبل فترة قصيرة .
س2 : أنت من مواليد 1935 وفي رأيي أنك تعود إلى عقود أبعد ، عبر مناهل الثقافة والأدب التي نهلت منها بعمق ، وهناك – حتماً – ثمّة رسالة في عقلك أطلقتها لأكثر من نصف قرن .. ما هي حسب اعتقادك ، وإلى أي مدى استطعت أن تؤثر في الآخرين ، وعلى قنوات الثقافة والأدب في هذا البلد ؟
ج2 : التأثير في الآخرين وعبر أكثر من نصف قرن وارد حتماً فمجموعاتي القصصية الثمانية وما تناثر من النشر في مختلف الصحف والمجلات الموصلية والعراقية والعربية من قصص بالإضافة لمساهماتي في مجموعات مشتركة مع أكثر من (1000) مقالة في مجال النقد لأدب الكبار والصغار والتراث الشعبي والنقد المسرحي والتشكيلي وكتابات عامة لخمسين عاماً لابد أن تترك أثراً في الآخرين ومن النقود التي كتبت عني وتجاوزت الخمسين وعن آراء الآخرين فإني مطمئن أنها تركت أثراً طيباً وايجابياً .. أما التشخيص لهؤلاء الآخرين فمسألة ليست سهلة إذ أن الأدب والقصّة وتأثيرهما شيء عام وموزع على كثيرين وفي مختلف المناطق وعرفت ذلك من عشرات الرسائل التي أتلقاها من عموم مدن العراق .

س3 : ما هي تأثيرات المفردات التالية :
الحدباء .. قره سراي .. باشطابيا .. القناطر .. شارع النجفي .. المجانين والحب .. أيهما أكثر على عطائك الأدبي ؟
ج3 : الحدباء : المدينة والجريدة اسمان حبيبان رائعان في عقلي وضميري وقد تكون الغلبة فيهما للمدينة العريقة تراثياً وأدبياً وحضارياً..
قره سراي .. باشطابيا .. القناطر .. شواهد الماضي الجميل المترع بفن العمران والحياة ..
شارع النجفي دفق المعرفة ونهر الكتب والمطابع والصحف والمجلات وعبق الذكرى الحزينة لخمسينيات القرن الماضي بثرائه الحياتي
والأدبي ..
المجانين حزني ووجعي وعذابي .. هؤلاء الحفاة العراة بدشاديشهم الوسخة الممزقة ومع حيرة قسوة ليالي ونهارات البرد الثلجي وشواء شموس الأصياف اللاهبة ومع الجوع وخواء جيوبهم وقذارة أبدانهم وأمراضهم التي لا يعرف بها أحد حتى أصحابها .
س4 : نصوصك الأدبية ، في القصّة القصيرة ، لا تخلو من معالم التراث والشخوص الموصلية ، التي بقت بصماتها حاضرة في ذاكرة المدينة .. فهل هذا يعني ، الارتكاز عليها ، أولاً ، ثم النهوض نحو أفق المستقبل ، حتى يكون الأساس الذي يقوم عليه ، صلباً ، لا يتهدّم كونه يستمد قوته من الجذور .. أم مجرد صور مخزونة في العقل ، كلوحة فوتوغرافية ، خالية من الروح ؟
ج4 : الاستناد في كشف حالة أبطالي وشخوصي هو لتنبيه وتذكير الآخرين بهم وألا يعتبرهم الآخرون رواشح زائدة لا قيمة لها ، وأن يلتفت الجميع إلى احتضان إنسانيتهم المهدورة في دنيا البشاعة وقسوة وظلم الإنسان واللاعدالة والتعامل بغرور وافتقار مع مثل تلك النماذج الذين هم أولاً وأخيراً بشر يسعون مثلنا على هذه الأرض ، الفارق فقط هو أنهم فقدوا إنسانيتهم .
س5 : كيف تنظر إلى الصداقة .. ومن هم أصدقاؤك ، وأي دور كان لهم ، في كتاباتك ، وهل أثّروا بك ، أكثر مما أثّرت بهم ؟
ج 5 : يمر الإنسان في مختلف أدوار حياته بالعديد من الأصدقاء .. قد يتغيرون بفعل الزمن أو بفعلهم هم ، وقد يلازم الإنسان صديق وفي ونقي لسنين طويلة .. مررت بصداقات عابرة أو عميقة طيلة عمري السبعيني ، ومنذ خمسينيات القرن الماضي صارت غالبية الأصدقاء من الأدباء رغم أنني أعتز بصداقات عدد من الناس البسطاء وحتى من الأميّين بصداقات وفاء وصدق تتغلب في جوهرها الإنساني وطيبها وتواصلها على كثير من صداقات أدباء ظلت سطحية وهامشية لغلبة النفعية عليها .. شيء طبيعي أن أتأثر وأؤثر في الآخرين عبر هذه الصداقات ، أما الأسماء فلا أستطيع حصرها وهي كما قلت لغالبية من الأدباء والأساتذة والتربويين من معلمين ومدرسين . ذكر الأسماء مسألة شائكة ومحرجة إذ أن بعضاً من هؤلاء لا يستحق الذكر وضاعت معه سنوات طويلة عندما افتقدوا من الجميع التعامل الإنساني الأليف .
س6 : كيف بدأت كتابة القصّة عندك ، وهل كانت بمحض الصدفة ، أم عبر رحلتي ، شغف القراءة ، وولع الشباب بالثقافة العامة آنذاك ؟
ج 6 : يقال إنها الوراثة ويقال إنها الموهبة وتنوع القراءة .. أنا أرى أنها مزيج من الوراثة والموهبة والمتابعة .. أنا لم أكتب أول قصتي شروق 1958 بمحض الصدفة بل بتأثري بقصص الآخرين ورغبتي في أن أكتب قصّة وقد حاولت وفعلت ، وقد يكون لعشرات الحكايات التي سمعتها من والدتي وعجائز الأسرة وعجائز الجيران في محلة الكوازين القريبة من الميدان أثرٌ في إثارة هذه الرغبة وأضيف لها رغبة والدي في الحكي الجميل بطريقة قصّصية مثيرة فيها كل عناصر التشويق ، علماً أن أبي كان عسكرياً ولكنه كان عاشقاً للكتب والتاريخ والحكايا .
س7 : هل يستطيع الكاتب من خلال تجربته السياسية ، أن يكتب قصّة أو رواية ، ترقى بمستوى الإبداع ، إذا فرضت عليه قيود إلتزامه السياسي أو ما يسمى بأدب الإلتزام ، وكيف ؟
ج7 : لست مع الإلتزام بكل أشكاله ؟ فالأديب طائر حر التحليق ، فلماذا نقيده بهذه المسميات ؟ صحيح أن كل الحياة سياسة والسياسة هي ألوان من هذه الحياة ، ليكن الأديب بعيداً عن هذه المدلولات والعناوين ويكفيه أن نمنحه الحرية ليبدع قصصاً وشعراً ومسرحاً وفناً تشكيلياً وموسيقى ، شرط أن يمنح موضوعاته من محليات مدينته الوهّاجة بتلاوين التراث والحكايا والنبع الحضاري ، وأن يرى أيضاً كل العراق وهو يكتب ، وأن يسعى بتجميل الحياة وتخفيف العبء عن المهمومين بكتابات تستمد ملامحها من محبّة الآخرين والتعاطف معهم ، أما شكل الكتابة وأساليب التعبير فهي أدوات لا غير .. المهم هو الجوهر .
س8 : جيل الأربعينيات ، الخمسينيات ، الستينيات والسبعينيات – وإن كنت لا أميل إلى مثل هذه التسميات – ممن أثروا هذه المدينة بنتاجاتهم وساهموا ببناء صرح الثقافة مع الرواد الأوائل ، هل استطاعوا برأيك أن يرفدوا جيل الشباب – الذين ولدوا بحروب وعاشوا في حروب وسيموتون في حروب – بتجاربهم ، أن يتآلفوا في منهج واضح .. أم حدث تصادم بين الجيلين ، كل يرفض الآخر ؟
ج8 : لم يحصل أي تصادم ، بل هو تواصل إيجابي بين جيل الرواد قبل 1900 حتى ثلاثينيات القرن الماضي ثم الأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات وحتى 2010 ، كل موحّد يكمل بعضه بعضاً ، وتطوير وتحديث ومعاصرة واعتزاز بمجهود الرواد الأوائل موصولة بسلسلة الحاضر . أنا معك ضد هذه التقسيمات خمسينيات .. ستينيات .. سبعينيات .. ولكن النقاد ومعهم حتى الأدباء والقراء أوجدوها واخترعوها كمسألة نقدية بحتة ودراسية حسب العقود .
س9 : هل تؤمن بالصدف ، وهل أتاحت لك الصدفة أن تحظى بالتعرف على مجموعة قصص لم تنشر لأديب لم تقرأ له ، وقرأت له بعد ذلك وتألمت لكونك لم تلتق به من قبل ، وما كان انطباعك عن تلك القصص ؟
ج9 : صدف الحياة جميلة وكثيرة ، ومن هذه الصدف أن أحظى – والفضل في ذلك للقاصّة كليزار – بالتعرف على مجموعة قصصية لكاتب لم أقرأ له مادة منشورة متفرقة أو مجموعة ، وأنا أستطيع أن أصف نفسي بأنني قارئ متمرس منذ أربعين عاماً .. قلما تفوتني مجموعة جديدة أو كاتب جديد .. وأقرأ كل المجلات الأدبية الصادرة عندنا وما يصلنا من خارج القطر من مجلات أدبية وكثيراً من الصحف أو أغلبها أو كلها أحياناً ، منذ الخمسينيات وحتى الآن أعاني من آفة القراءة ومن هذا الذي يسمونه المرض الجميل أو المرض اللذيذ ، وليس عيباً من الكاتب ألا يكون معروفاً وليس عيباً في الناقد أن لا يعرف الجميع أو يصل أو يتصل بكل الوجوه والأصوات .. قد تبدو هذه المقدمة مبررة ولكن – غير المبرر – أن يضيع الإبداع هكذا وألا يعرف بعضنا بعضاً أو لا يعرفنا أحد من الناس أو لا نعرف حتى أنفسنا .. عشرون قصّة أغلبها سبعيني وفيها ما تجاوز إلى الثمانينيات وفيها من الإبداع والأصالة والتماسك ونقاء الرؤية واستيعاب الفن القصصي ومعه الحياة بكل شروخاتها وعنفوانها وهمجيتها وإنسانيتها أو لا إنسانيتها وغير ذلك الكثير والكثير مما نعرفه ويعرفه المتعاملون مع هذا الفن فن القصّة .. ومع عمق التناول وجدية التفاعل ومحاولة فهم أسرار الحياة ودقائقها ، فإن صاحب هذه المجموعة غير معروف وقد يكون عيباً فيّ أو فينا ، وقد يكون صاحب المجموعة معروفاً ونشر قصصاً كثيرة في واحدة أو أكثر من مجلات الأديب ، الأقلام ، الأديب المعاصر ، فنون وغيرها أو في مختلف الصحف ولم نقرأ له شيء مستحيل أن يكون ذلك .. فهذه القصص تعدل بعددها وقيمتها الفنية خمس مجاميع وهي في نظري ورأيي المتواضع أو غير المتواضع تعدل وتتفوق على عشرين مجموعة وأكثر مما صدر أو يصدر .. فهذه القصص تحمل تجربتها الحيّة وتحمل معاناتها التي هي معاناة كاتبها وإخلاصه لفنه القصصي .. ليس معقولاً أن تبقى هذه القصص حبيسة سجل ودون أن تنشر ولماذا لم تنشر ولماذا لم نقرأ له ، وهو يكتب منذ السبعينيات وبهذا الشكل الحيوي الجميل الملتصق بالحياة وبشكل خاص فيما يتعلق بتصوير العاطفة الإنسانية الخالدة : الحب .. هذه العاطفة البشرية الخالدة على مر القرون ، ولا أريد أن استرسل ولا أريد أن أكون ناقداً بالمعنى الحرفي – فالنقد شيء آخر غير هذا – ولكنها سياحة استمتعت بها وانطباعات خرجت بها فليكن ، سيقولون هذا أيضاً نقد وهو نقد انطباعي ، وسيقولون نقد تأثري تنفصل بالمادة المنقودة وتتأثر بها فليكن ، فلقد خرجت متأثراً من قراءة المجموعة بانطباع جوهري ملخصه أن غانم البجّاري قاصّ مبدع متمكن وأن عالمه واقعي مزروع برومانسية لم تفسد هذه الواقعية وأنه يحمل صفة القاصّ والروائي في وقت واحد معاً : القاصّ لفهمه فن القص والروائي إذ يمتلك نفساً طويلاً وصبراً وحواراً متماسكاً وخيالاً مع سرد مفتوح لعالم واقعي لا تفوت القاصّ فيه دقائق التفاصيل المادية والنفسية مع تجربة حياتية متمرسة بالوقائع والأحداث، أليس هذا كافياً لتجربة كتابة رواية أو روايات ؟! ، ولا أعرف إن كان قد فعل ذلك أو جربه ، والذي عرفته من خلال قراءة القصص أن كثيراً منها يصلح لأن تمتد فيه الحياة أكثر ليكون رواية بفصول متعددة ، خاصةً بأنه يملك معرفة الفن الروائي الذي هو غير فن القصّة القصيرة ، إذ أن أغلب قصصه تملك أجواء روائية لو توسعت قليلاً وتشعبت وامتدت – كتشعب الحياة وامتدادها – واستطالت وتوغلت أكثر في عمر الزمن والأشخاص والأحداث والتجارب الحلوة أو المُرّة أو كلاهما معاً لدخلت – بجدارة – في عالم روائي ثرّ مفعم بالحيوية وحركة الحياة .
س10 : لنعد إلى بدايتك الأدبية ، هل كانت على شكل خواطر ، أم بدأت بكتابة النص القصصي لمجرد شعورك باكتمال الحدث في ذهنك؟
ج10 : قبل القصّة كتبت مقالات متنوعة نشرتها في فتى العراق وصحف العاصمة ، وأول مقالة كانت قبل نشر القصّة وهي من وحي العيد ظهرت في فتى العراق في 8/8/1955 أي قبل أن أنشر قصّة شروق وهي أولى قصصي سنة 1958 ، وفي دار المعلمين العالية بجامعة بغداد وأنا في العاصمة نشرت في صحفها عِدّة خواطر بعنوان: صور قلمية وبأسلوب قصصي ولكنها لم تكن قصصاً .. فهي دون التسمية ، صور قلمية مأخوذة من خضم الحياة اليومية لي وللناس الآخرين ، أما النص القصصي شروق وما بعده فكنت متأنياً في الكتابة ليس لمجرد الشعور باكتمال الحدث فقط ولكن مع محاولة أن تكون قصصي فناً فالإبداع الفني هو الذي يخلق قصّة ناجحة مقروءة .