مؤيد البصام: “ميسلون هادي” في حلمها الوردي (القاني)

مرت شعوب عديدة بتجارب الحروب والاحتلالات، وغزيت أراضيها ودمرت مدنها وانتهكت محرماتها، على أيدي برابرة ومحتلين، وتحدث لنا التاريخ القديم والمعاصر، عن الذين استقووا بالمحتل وخدموه من أبناء البلد المحتل، فكانوا أشد قسوة وأكثر إيلاما من المحتل على أبناء شعبهم، وكتب ورسم ونحت المبدعون ضد احتلال أوطانهم وكشفوا عن معاناة شعوبهم، وكان نضالهم بسلاح الحرف والفرشاة والأزميل،  اشد وقعا في مواقع من السيف والمدفع، وكانت الرواية في زمن وقوع الحدث الأقل إنتاجا في معيار القصيدة والرسم، الأ بعد مرور زمن على الوقائع التي تتحدث عن  لحظة وقوع الحدث، قد يكون المبدعون كتبوا شعرا او قصصا قصيرة او نصوصا، لكن القلة من كتبت الرواية إثناء الاحتدام والصراع، باستثناء بعض الكتابات هنا وهناك، ولم تشكل من الكم ما يذكر كما في الأنساق الأخرى، ويمكن الاستثناء كما حدث مع المبدعين الفرنسيين الذين كتبوا  دواوين ومجاميع قصصية وروايات ضد الاحتلال النازي لبلدهم أثناء الاحتلال، وبدون أن يضعوا أسمائهم عليها خوفا من بطش السلطات النازية المحتلة، أواثرة لبلدهم وشعبهم، باعتبار ما يقدموه  جزء من المقاومة التي تتطلب التضحية، فلم يعرف إلا اسم روائي واحد من الذين كتبوا ضد الاحتلال وشاركوا شعبهم النضال والكفاح عبر القلم، فالرواية عالم كوني زاخر بالإحداث والشخصيات والأمكنة، مما يتطلب التوقف والروية، واستحضار المعارف والتجارب والتحليل الذاتي والموضوعي للحدث بعيدا عن العواطف عند الشروع في كتابتها، وكلما مر الزمن على أي احتلال لبلد ما، ظهرت قيمة الرواية لمحمولاتها الشمولية واكتسابها البعد الجمالي والفني في أفق متسع، وما تحمله من رؤية فكرية للحدث وإبعاده النفسية والاجتماعية والاقتصادية، مختلفة عن الإبداعات الأخرى، ففيها السمات العاطفية والعقلية معا، ولكنها مع الإبداعات والأنساق الثقافية الأخرى، تمثل  شكل المقاومة التي يخوضها الشعب ضد الاحتلال، وفي احتلال العراق أعتقد الكثير من لم يكن لهم ثقة بشعبهم وطلائعه المبدعة، أن فكرة الاحتلال تحرير، التي جاء بها الأمريكان ومن معهم من الاستعماريين ومن ساعدهم من المحسوبين على الشعب العراقي  وأرتضوا أن يكونوا ماسحين لجزمة اليانكي، وطبلوا وزمروا لترويج فكرة احتلالهم كونه تحرير، ولكن بدأت المكتبة تزخر في كتب مبدعي العراق  المقاومين للاحتلال وكشف زيف إدعائه، وعدم ظهورها في الفترة الأولى للاحتلال ولم تر النور وقتها لأسباب عديدة، كما حدث في مقاومة الشعب العراقي المسلحة التي نهضت في الايام الأولى للاحتلال، ليس هذا موضوعنا الذي نخوض فيه، ولكن ما ظهر لحد الآن يكشف زيف الدعاية الإعلامية لاحتلال العراق، وما واكبها من ظهور عشرات المدعين بالثقافة والإبداع الذين جندهم المحتل إما بالإغراءات المادية، او الذين تطوعوا بمحض إرادتهم أملا في الحصول على مكاسب آنية على حساب شعبهم ووطنهم، اعتقادا بما أطلقه المحتل من وعود كاذبة وزائفة لجر هؤلاء لخدمة مصالحه، او من الذين لايملكون أي موهبة سوى موهبة دجلهم التي تظهر في كل العهود والعصور لاستغلال الفرصة،وبما أن الفعل المضاد الذي أعتقده غالبية المبدعين العراقيين أنه يمثل التصدي للمحتل وثقافته، بالحماسة لتثوير طاقات الشعب وجر من يقف منتظرا، وإشاعة العاطفة والرومانسية في تذكر الماضي ومقارنته بالحاضر، شكلت السيرة الذاتية الروائية أغلب الإعمال التي تتحدث عن هذه المرحلة  في حياة الشعب العراقي المحتل من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وأعوانها من الأجانب والعرب والعراقيين، وهو ما يوقفنا على رواية القاصة والروائية ميسلون هادي الصادرة في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات عام 2009 ب (146 ) صفحة من القطع المتوسط، باسم ( حلم وردي فاتح اللون )، التي تمثل مع ما صدر من روايات وإعمال ذات طابع مقاوم، وليس قص عن حالة او سرد خالي من القصدية لنقل التجربة الجمعية وليس الذاتية ، أمثالها ( الظلال الطويلة ) لأمجد توفيق ( وما بعد الجحيم ) لحسين سرمك و(المجندة الأمريكية ) لأنعام كبه بجي، والسيرة الذاتية الروائية ( هيت لك إقليما ) لوداد جوراني ، والسيرة الذاتية المشوبة بالمذكرات الشخصية ( قيامة بغداد ) لعالية طالب، وما بين السيرة والمذكرات ( أحلام امراة نائمة ) لانتخاب عدنان، و للطفية الدليمي وآخرون، ولهذا فان رواية (حلم وردي فاتح اللون) وما ذكرناه وما لم نذكره من عناوين لاعمال صدرت ما بعد الاحتلال تنضوي ضمن أدب المقاومة، الذي ينكره ماسحي الأرض أمام المحتل.

            دلالة المعنى والعنوان

                        عنوان الرواية يخفي دلالة المعنى الذي ذهبت أليه الرواية،  )حلم وردي )، يحمل فنتازيات الرؤية بخصيصة اللون الذي يستعمل للفرح والبهجة والنشوة، وفيه من موسيقى الحواس ما يجعل الرائي يعيش لحظة الحبور، لكن الكاتبة تستدرك للتوضيح على هذا التشكيل الجمالي بالقطع في تكملة جملة العنوان ، فتقول ( فاتح اللون ) وهو ما يعني أنه لم يأخذ الإشباع اللوني فظل اللون الأبيض البارد هو السائد وخفت اللون الأحمر لضعف تدفق الدماء التي تجدد حيويته، إذا كان رسما حديثا او رسما جاءت عليه عاتيات الدهر نتيجة الإهمال فبان باهتا، وبما أنها تنقل لنا حدثا لم يجف حبر كتابته، او ما أريق من دماء لحظة حدوثه، ونناقش أبتداء من الرأي الأول ، لم يأخذ حالة الإشباع الكامل، بالأخص وهو يؤرخ إلى الحلم الوردي الذي تركته العلاقة الروحية والعاطفية مع شخصية ياسر في  الراوية، وهي محاولة  لجلب الانتباه إلى الجانب العاطفي من الحدث، وتوهمنا في العنوان عما تريد أن تقوله في خطابها السردي، من إحداث الرواية التي تمثل القاعدة الكلية للمنحى السردي بما حمله من آلام وإحداث  تؤرخ إلى شعب تحت الاحتلال، وتنحاز في عنوانها إلى جزء من الأهوال التي عانتها خلال وجودها في البيت الذي أستا جرته بعد عودتها من ليبيا عندما كانت تعمل  مدرسة هناك، ووقت ظهور ياسر وأمه في حياتها، وعلى الرغم من أن العنوان ينحاز إلى الحدث الدراماتيكي في حياة البطلة الذي حول منحى السرد، من وصف لحالة الاحتلال، إلى تجاذب عاطفي بنى وجوده من خلال الحدث الذي حول الكيانات البشرية و الأشياء إلى وجهة غير وجهتها، وهو ما يجعلنا أن نرى، أن مجموع الإحداث والتضمينات، هي الأساس في البناء السردي الذي أرادت الكاتبة أن توصل خطابها ألينا، وهو ما عاشته من أحداث جسام في زمن محدد وفي مكان محدد، يشكل الأهمية المضمونة في عالم رواية ( حلم وردي…….) كما سنأتي لاحقا على ذلك.وبهذا يتخلى العنوان عن تسيده في حركة السرد كونها قصة عاطفية او سرد ذاتي، بإعادة الأصل إلى المتن الحكائي بأنها تروي قصة الاحتلال وليس قصة الحب، الذي ولدها حدث الاحتلال وقتلها قبل إن تنمو، فجعل الحلم الوردي باهت، ضاعت حرارته وخبا لونه، بفعل من قتل الأحلام.
 
                 وقائع تنبني عليها وقائع

                             تحمل الكاتبة نصها في متنها وبنائها الحكائي وظيفة حامل الرسالة، وأن السرد عمليات تحريك داخلي لمواضع العناصر، الرواية تسرد الحياة عبر لقطات غير مباشرة تنساب بروي تلقائي عن الحياة في بغداد قبل وبعد الاحتلال من خلال الحوار الذي تجريه مع الآخرين او في التضمينات التي تسردها، والعناصر في داخل النص هي لدعم موقف الوظيفة الأساسية وتبيان تحولاتها ، وهذا التحول الداخلي لمواضع العناصر التي لجأت إليها الراوية، تكثيف للحدث وإعطائه البعد المتداخل بين الحلم والواقع، بين الماضي والحاضر، وهي في استخدامها تقنيات القص والتداعي والتضمين، أنما أرادت أن تجمع العناصر المبعثرة والمتعددة في وحدة واحدة، نحو هدفها الأساس ( ماذا فعل فينا الاحتلال ) وليس ما فعلناه نحن بأنفسنا كما أراد الاحتلال وأعوانه إيهامنا، وفي حوارها مع ألحدائقي عمار الذي يشير لها بالرمز كونه مفهوم لديه، ويظن أنها هي الأخرى تعرف ” أتفهمين قصدي؟ من الجماعة. لم أفهم قصده، ولن يحدث هذا أبدا، في زمن أصبح فيه الفهم عديم النفع وغير ذي بال . ” ص44 ….ثم تعود بعد فترة غير طويلة لاستخدام نفس المصطلحات أن كانت للسخرية، أو الاستعمال المتداول. عندما تتحدث مع الصباغ تحسين ” قال أية جماعة ؟ ضحكت وقلت: بكيفك.. الكل جماعات … ولا احد يسال او يريد أن يسأل .” ص55 . وفي آخر المطاف تؤمن بجماعتين المحتل وأعوانه، وشعبها وأبناء وطنها،  ” ولكن هذا لم يمنع من أن تجعلني أشعر باننا جماعة واحدة أمام هؤلاء الغرباء، وبان علي أن أحميه من هؤلاء الطارئين. ها هم، مثل شهر أذار المهذار الذي جاءوا فيه، يدخلون كالنمور ويخرجون كالحملان. ” ص142 ، فهي بمحاولتها جمع هذه القصص المبعثرة والروايات التي تشاهدها أو التي تروى لها، تجعل منها الذخيرة الأساسية للمتن الحكائي، فهو نص روائي شامل، حاولت كاتبته أن تلم بطريقة فنية بمجمل الظواهر الغريبة والشاذة التي برزت على السطح وقلبت الحياة العراقية رأسا على عقب، وخلال جميع الفصول لم تهبط إلى مستوى التقريرية على الرغم من تشعب النص وحاولت أن تطوع  اللغة  وتبتسر في الإحداث، لتزيح المباشرة عن سردها، بواقعية شديدة التعبير .
                            ليست الرواية سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق لوقائع البطلة والراوية، ( فاديه ) بالرغم من أنها شاركت شخصيا في أغلب الحوادث والفواجع وأقساها بشكل مباشر او عبر المشاركة الجماعية، وما قدمته الرواية هو جمع الحكايات والقصص المبعثرة، لتكشف عن بشاعة الاحتلال ليس بمفهومه عبر القوة التي جاء بها وأستخدمها لإسقاط نظام واستبداله بنظام أفضل كما أدعى،  عبر أعلامه ( أنه جاء من أجل خلق جنة للشعب العراقي، وإخراجه من الجحيم الذي يعيشه )، والتي ظهر بعد الاحتلال،  أن ما جاء به الجحيم بابها صوره، الشر الذي نشره في أعماق المجتمع ليقطع أوصاله، حينما تصرخ أم ياسر في وجه الحرس الوطني الملثم” أنت عراقي وإنا عراقية…لاتدع هذا الأمريكي يفرق بيننا ” ص66 ، إيضاح للبعد الفكري الذي أرادت الراوية أن توصله لنا، وكما يقول توشفسكي ” النظام الوقتي والسببي للإحداث باستقلال عن الطريقة التي نظمت بتا تلك الإحداث او أدخلت للعمل ” أما المبنى الحكائي للسرد الروائي الذي لجأت إليه، هو القصة نفسها على المستوى الفني، أنها تقتنص حدثا أوأحداثا، فيهم سحر السرد القصصي في تبيان خفايا لايمكن إدراكها ظاهريا، تجسد عوالم مادية غير مرئية من الهواجس التي تنتاب المرعوب والخائف، ” ولشدة ما تملكني الجزع، كنت أنظر إلى وجه أحدهم الذي كان يوجه لي كلمات قبل خروجه، وكلماته تصل إلى سمعي، ولكني لأفهمها من الذهول والقلق ” ،ص67. تنقل لنا ضياع المرعوب في لحظة الكشف عن ضعف الإنسان، أن الرواية تنطلق من أساس ثابت، أننا شعب واحد.              
                            تروي لنا ميسلون حكاية الأستاذة ( فاديه ) في كلية الزراعة التي غادرت العراق للعمل في ليبيا، بعد أن ضاقت الحياة بالعراقيين نتيجة الحصار الذي فرضته أمريكا والعالم الغربي وشاركها حكام الدول العربية في ذلك الوقت لتركيع العراق، وخنقه وجعله يرضخ لما تمليه عليه القوى الرأسمالية، والذي سيؤدي هذا الحصار الخانق إلى ما أريد له، وهو تخلي الكثير من العراقيين عن مبادئهم وتمزيق مجتمعهم، وصولا إلى لحظة الاحتلال وقبول بعضهم فكرة الاحتلال بعد أن ضاقت بهم السبل، وبسبب عدم وضوح الرؤية للقيادات العراقية وتمسكها بالسلطة، استطاعت هذه القوى من احتلال العراق بالسهولة التي شهدناها في الغزو الأمريكي الأخير، وميسلون في روايتها تروي لنا هذا الحدث عبر الرمز والتورية، تفصح عنه بعض الأحيان وتخاتل أحيانا أخرى للضرورات الجمالية في الخطاب، وعند عودة فاديه من ليبيا، لاتستطيع من سكن دارها الذي كانت تسكنه مع أهلها، الذي يقع في المناطق الساخنة التي جعلها الطائفيون وأعوان المحتل للذبح والقتل، فتنقذها صديقتها التي كانت تعمل معها في ليبيا ( سارة )، لتشير لها باستئجار البيت الشاغر بسفر أهله، وهو في الحقيقة عم سارة الذي ترك العراق هاربا إلى سوريا، وفي وحدانيتها تكتشف وحدانية المجتمع الذي كان صاخبا وحركته الدائمة، بما يرمز له جرس الباب عندما كان يقرع وباستمرار” فهذا الجرس المنطوي الصامت منذ سبع سنوات يبدو أنه نطق وقال كلمة حق” ثم تستطرد لتوضح سبب سكوته ” عافوه وخرجوا فرارا من النار والدمار إلى الشتات وبلدان الجوار..” ص6 ، ركزت نقطة الدلالة والرمز في بؤرة مكانية محددة، البيت الذي أستئجرته والشارع الذي تسكنه، وتشعبت من خلالهما إلى المدينة ( مدينة بغداد ) وما يحدث فيها، ثم تتحول لشمول العراق ككل فيما يحدث، وهو نفس الخط السردي الذي اتخذته بطريقة اللامباشرة لتوضح حقيقة التجانس والالتحام الاجتماعي الذي يكون المجتمع العراقي والذي كان يعيشه العراقيون قبل الاحتلال، ولكن بعد تسلم أعوان المحتل زمام السلطة، انهارت قيمية المنظومة الاجتماعية، بفعل ما جاء به الاحتلال وأعوانه ، ومحاولتهم خلق منظومة قيميه اجتماعية واقتصادية وفكرية جديدة، وتتعرف خلال وجودها على جارتها ختام الصابئية، التي رفضت ترك العراق عندما طلب خطيبها أن تلحق به، وتعرف عمار الفتى الذي يعمل حدائقي في بيوت الشارع من أهالي الديوانية، والصباغ تحسين الذي أمضى سنين عمره يزين بيوت الشارع من مدينة البصرة، وصولا إلى الحدث الدرامي بمجيء عمار وأمه لاجئين هربا، لان عمار مطلوب القبض عليه في مدينة الموصل، وخلال المعاناة من جراء تكرار التفتيش للشارع والبيت من قبل القوات الأمريكية والحرس الوطني، وما يرافق هذه المداهمات من رعب وخوف وخصوصا الخوف على ياسر من الاعتقال في نفس الدار كونه مطلوبا، يتداخل الخوف والرعب لتكتشف ميلها العاطفي نحو ياسر  .
      
         المكان ودلالة الرمز 

                            أن اختيار الكاتبة المكان كان بقصديه، فقد جاء بالدلالات التالية، أولا : واحد من الأمكنة التي شيدت بعد ستينيات القرن الماضي، ويمثل المجتمع العراقي الناهض، حيث اختلطت فيه الأعراق والقوميات والأديان والطوائف، فلم يعد يهتم الفرد أن يعيش مع العائلة أو القبيلة ضمن تجمعات، أنما أصبح منفتحا للسكن أين ما تقع رغبته وإمكانياته المادية وتطلعاته الحضرية،  ويتعايش ضمن هذا المجتمع الجديد على أساس المواطنة ضمن مجتمع العراق، وتحت راية دولة العراق، وليس عائلته او عشيرته، وان كل واحد هو جزء من العائلة الكبيرة التي تضم العراق، والمنطقة سكنها من استحق من الضباط الشباب بما وفرته الدولة لهم، دون الأخذ بالاعتبار لطبقة او نسب . ثانيا: أن الكاتبة أرادت أن توضح استهداف خارطة العنف، كانت موجهة إلى بنية المجتمع الحضرية، من خلال المكان دلالة وبؤرة، والسكان الذين فروا علامة. ويعرف هذه النقطة جاكوبسن ب ( المكون البؤري في العمل الفني، فهي تحكم المكونات الباقية وتحددها او تحولها ) ، فهي على الرغم من امتداد فضاء الرواية إلى مناطق وأماكن بعيدة عن البؤرة، (البيت والشارع الذي سكنته ومدينة بغداد) ،  وامتدادها إلى مدن ومناطق مختلفة في العراق، إلا أنها تعود مسرعة إلى نفس النقطة المركزية، بالالتجاء روحيا، لتؤسس من خلال المكان حماية من تفجر الذات، وهي تشاهد جسد العراق يتشظى، تعود إلى المكان لإظهار عمق العلاقة بينها وبين تجليات الإحداث ، وهي النقطة الاستدلالية لتبيان المهيمنة في فهم وتحليل الشخصية الروائية وإمكاناتها التفاعلية مع الحدث ودينامكيتها، وثالثا وأخيرا بيت جد ياسر الذي سكنته لجوءا وبما يحمله من أرث تاريخي للذين سكنوه على مدى تاريخه، كعلامة على استمرار تواصل الأجيال، وهو الملجأ عندما ضاقت بهم السبل لياسر وأمه . وهكذا استطاعت أن توضح لنا أحداثا يكمن فيها الإبداع السردي، لكشف ما لايمكن كشفه ظاهريا، فهي قد جسدت عوالم مادية غير مرئية من الرعب والخوف والهواجس . وابتعدت عن الحذف الكلي للجزئيات، واستعملت الرموز لتوضيح المضمون، ” قدمه سحقت سيكارته على الأرض.. نظرت إليها، فانحنى عليها وقال : أينما يوجد الصباغون توجد ، أعقاب الشكائر..أنا آسف .” ص13 . ، أن استخدامها للرموز والعلامات ساعد في تكوين الرؤية المعمقة للحدث، وهو ما سعت إليه عبر تركيزها على المكان كدلالة توضيحية للعلاقة الاجتماعية، لتوصيل الخطاب.” صدفتي أنا مع الأصول والألقاب عجيبة، فجدي لأبي مسلم من بيت الرسام، وجدي لأمي مسيحي من بيت رسام ولم أجدهما قد اختلفا في يوم من الأيام “، ص134.
                         
                 بناء شخصيات الرواية
                  
                          على الرغم من أن الرواية أخذت مساحة واسعة في تحرك شخصياتها في المكان، من دولة ليبيا حيث كانت تعمل بطلة القصة عند غربتها،  إلى  سوريا حيث لجأ الهاربون  من حرب اقتتال الأخوة التي أفتعلها المحتل بواسطة عملائه ، ثم إلى مدن العراق، من الديوانية مدينة ألحدائقي عمار، إلى شمال العراق مدينة الموصل سكن صديقتها سارة ، وأربيل ودهوك حيث هربوا من حرب العصابات والمليشيات، إلا أنها حصرت شخصيات الرواية في ثمانية أشخاص من ضمنهم الراوية، ونوعت في أنتمائاتهم على الرغم من اختلاف وضعهم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وهيأة الجهد الأكبر لتوضيح أهمية التنوع في بنائية المجتمع العراقي وتلاحمه، وأبرزت شخصية ختام في كل تصرفاتها، التي اعتبرتها الراوية شاذة في البداية، ولكنها بالتدريج أوصلتنا إلى معنى شخصية ختام وأصالتها وانتمائها إلى العراق وطنا وبيتا، وهو ما سيجعلها تتحول في السكن ليضمها مع ختام هذا الاتحاد الذي تجسد، منذ اللحظة التي تحدثت ختام مع القائد الأمريكي للمجموعة التي تفتش ” قالت بحزم وغضب أشد : هذا بيتي، أنت ماذا تفعل هنا ؟ ” ،ص50. أن جميع شخصيات الرواية يتصفون بالطيبة والنخوة والالتزام، ولم تظهر لنا أي من الشخصيات التي باعت الوطن أو هادنت المحتل، وكل الذين تحدثت عنهم كانوا ضد الاحتلال، حتى وأن لم تفضي بهذه المعلومة عن عمار والصباغ تحسين، ألا أنهما من سياق السرد يتكشف أنهما من هذا الشعب الذي يقاوم الاحتلال ولكن كل بطريقته، وشكلت الشخصيات الوعاء الذي مثل صورة المجتمع العراقي، وهي وأن وضعت شخصية ياسر في فصولها الأخيرة كشخصية محورية، معادلة لشخصية الراوية، إلا أنها وضعتها كصورة تمثل الجيل الذي عاش قبل الاحتلال وما بعد الاحتلال، وما تعيشه من صراع داخلي، ” وعشت صراع البداوة والتحضر في أن أفصل بين أثنين لايمكن الفصل بينهما في ديني وثقافتي ” ، ص132 . وفي هذا الصراع الذي يطرح نفسه للمناقشة تلخص ختام معالجة قطبي الصراع ” فلا تهتمي، أن يعتقل ياسر هنا أفضل من أن يسافر ويضيع هناك. ” ص136، وهذا يجعلنا نتوقف للاستنتاج إلى أنها جعلت جميع الشخصيات  مقنعة وتتصرف بتلقائية، ما عدا شخصية ختام وكذلك ياسر فهذه لظروفها التي جعلتها شخصية مركبة وياسر للظروف التي حكمت عليه أن تكون شخصية مركبة، وشخصية الراوية أهميتها ليس لكونها تروي القصة، ولكن للصفات التي منحتها، فهي عاشت لحظات السعادة في ظل مجتمع متحد، يعيش برخاء، فهي تحمل في داخلها ذخيرة، لكل أحداث العراق عبر عقدين من الزمن ونيف، عندما كان العراقيون يذهبون إلى لندن مثل ما يذهبون للنزهة إلى مدينة أخرى، وهي على درجة من الثقافة والاختلاط، بحيث تستطيع من تكوين الرأي، وهي ذاقت الغربة وعرفت مرارتها، كل هذه الصفات والخبرات، جمعتها لتكون شهادتها من الواقع وليس محض خيال، ولهذا فهي تجرنا لاكتشاف الأشياء الفعل وردة الفعل، مستخدمة أيحاءات الحوار، ليكون صادق النغمة وموحيا وحقيقيا، فهي تنقلنا معها في كل ماتصرفته ختام أمامها بما أوحته لنا وهي معنا بأنها تصرفات شاذة، ولكنها قبل أن تنهي الرواية تفسر لنا بتلقائية شخصية ختام، عندما تسالها، ” لماذا أحرقت كل تذكارات الماضي ؟ (فتجيبها ختام ) لم أعد شغوفة به، وأريد أن أبدأ من جديد.. إن البشر الذين يجمعون العنتيكات من حولهم سيتحولون هم أنفسهم إلى عنتيكه . ” ص 141 ، كما أنها أخلتها من أي أرتباط عاطفي، لتملأ الفراغ العاطفي كحقيقة وليس محض تخييل،  .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *