* استشارية الطب النفسي – بغداد
شرعت طبول الحرب تقرع وراودنا جميعا نفس الاحساس الغامض الموحش بطعم ورائحة الموت المرتقب الذي ذقنا مرارته في حرب الخليج الأولى , تطلعت من نافذه مستشفى الامراض النفسية الذي أعمل به و المطله على الحديقه الوسطيه أراقب الغيوم تتفرق ثم تلتقى في سماء رمادية بعد يومين من حلول العام الجديد 1991ولا شيء يمكن إن ينسجم مع مرادفة احتفال أو ابتهاج على الاطلاق فالكل يترقب الإخبار من أجهزة المذياع المتناثرة بين أيدي العاملين وكما عودتنا الحرب السابقة عادة ما يكون البث الصباحي لتلفزيون بغداد نذير شؤم حيث يقتصر بثه غالبا في أيام الاستقرار القليلة على الفترة المسائية وصوت المذيع الجهوري ذاته يتوعد العدو بسحقه وتدميره على أسوار بغداد وتتابعت سلسلة القرارات التعبوية الاستثنائية بضرورة إخلاء أجنحة المستشفى من الحالات الغير طارئة ومنع الأجازات للأطباء والموظفين وضرورة بقائهم داخل المستشفى إلى اجل غير مسمى عند سماع القنبلة الأولى التي سميناها –القطرة الأولى من الغيث ثم ينهمر ,من باب الفكاهة السوداوية –تطلعنا في أوجه بعضنا البعض ونحن قلة من الأطباء المتدربين في هذه المستشفى وممرضتين وممرض اشرف على الستين من عمره يحمل في جيبه أدويته الخاصة بالقلب والسكري والمفاصل –كيف ستكون شكل الحرب القادمة ونحن في مرمى نيران القصف الجوي لطائرات الشبح وغيرها من التسميات المخيفة – لقد تألفنا مرغمين على أصداء الحرب تأتينا من بعد مئات الكيلومترات في جبهة القتال ونراها بشكل أثواب الحداد واللافتات السوداء في الشوارع تبدأ بذات العبارة (الشهيد البطل ),أو أحيانا قليلة سيارات أجرة تحمل التوابيت الخشبية الملتفة بالعلم العراقي في طريقها إلى بيوتها أو المقابر لا فرق , ولكن الوقت امتحان عسير لكل ما ألفناه وصبرنا عليه وذقنا مرارته من قبل .
دلفت الممرضة تحمل تجهيزات الطوارئ المخصصة لإنقاذ الجرحى المتوقع استقبالهم ومعها ورقة مذيلة بتوقيع مدير المستشفى تطالبني بالتوقيع لتثبيت أاستلامها وخزنها ,فعلت هذا وأنا احلل ما تراه عيني من بضع لفافات من الشاش والقطن مع صناديق صغيرة تضم بعض الحقن المسكنة والمهدئة , نظرت إلى ما لدي وأنا أفكر بما قد جهزته أساطيل الدول الضاربة من عدة هائلة ,لا ريب أنهم قد أحسنوا التخطيط بفرض الحصار الاقتصادي الذي شمل الطب والدواء قبل الضربات العسكرية لتكن النتيجة بهذه الصورة ولن يستطيع أي جندي من البقاء حيا إلا بمعجزة ربانيه ,وما لبثت أن قالت لي بمرارة واضحة :
لا استطيع ترك أطفالي لوحدهم ,ليكم معلوما لديكم أنني لن أتمكن من القدوم إلى المستشفى أذا وقعت الحرب ونحن سنغادر بغداد إلى أحد القصبات المجاورة كما يفعل كل الناس العقلاء آنذاك لن يمنعني مديرو لا وزير .
حسناً ومن سيبقى أذن ؟ وماذا عن عائلاتنا وبيوتنا ؟لم يصغي لي أحد ولم تفلح تهديدات المدير بإيقاع العقوبات الإدارية على الغائبين بعد (النصر ) وأنتهاء الحرب , من قطع راتب ونقل الى دوائر بعيدة . ساد الوجوم الذي قطعه علين اندفاع احد المرضى الراقدين في طابق الرجال الذي خلا تقريبا إلا من قلة بانتظار ذويهم . كان عباس مريضا بالفصام المزمن (الشيزوفرنيا) في نهايات العقد الرابع من عمره يتمتع بشخصية هزلية وقد أصبح من رواد المستشفى الدائمين لتعدد مرات إدخاله وأحيانا ليس لحدوث انتكاسة كما هو الحال مع غيره ولكن لأسباب اجتماعية أو مادية أو حتى إذا أنشغل ذويه بسفرة أو زواج أو وفاة فهو يعد حقيبته ويعرف تماما إجراءات وتعليمات الرقود في هذه المستشفى التي تالف مع محتوياتها و ومنتسبيها بل وفي أحيان كثيرة يرافق المرضى الجدد ويدخل معهم إلى الطبيب الفاحص ليدلي بملاحظاته حول المريض المستجد حتى لتحسبه موظفا أو ممرضا لمهارته في تقمص دور الناصح والمرشد العاقل وبعد ان يأسنا من ترديد العبارة ذاتها :أرجع إلى سريرك ولا تجي هنا ,هذا بهو الأطباء فقط , صرنا نغض الطرف عن تردده علينا ساعده في ذلك هندامه النظيف وتأدبه في الحديث وفي أحيان عديدة نعده عونا لبعض المرضى المقطوعين الذين يختفي أهاليهم بعد إدخالهم إلى المستشفى مباشرة.
بدأ العد التنازلي يوما بيوم والوجوه ساهمة يتولاها القنوط وطوابير التزود بوقود التدفئة والسيارات وشراء المواد التموينية والادوية حتى اننا شغلنا بالحديث في هذه المتاعب الصغيرة لننسى الاهوال القادمة الينا عبر المحيط ويدور في خلد كل منا ماذا سيحدث وماهي النهاية ؟
فرغت اسرة المستشفى واصبحت جاهزة لا ستقبال الجرحى بهذا الدولاب الصغير المسمى خزانة الطواريء وسيارة اسعاف قديمة يتحايل سائقها على تفريغ الوقود منها في حاوية (جيلكان) لبيعه في السوق السوداء بما يعادل مرتبه الشهري للمرة الواحدة ولا من رقيب يجرؤ على محاسبته .
تراءت امامي كل هذه الصور الحالكة السواد ومريضنا المخضرم يأبى مغادرة مقره الاثير ومستشفاه المحبب وقال لي بلهجة الواثق : لن يبقى سواي هنا وراح ينهزمون الامريكان , يادكتورة لا تخافين هذه بس دعايات .
وضحكت في سري اذ يبدو ان قد حول فعالياته القيادية نحونا بعد أن خلت المستشفى من المرضى وباءت محاولاتنا بالفشل للاتصال باهله لاستلامه , وكان مستمراً على العلاج بالعقار المضاد للذهان مع حقنه يزرق بها عند حدوث نوبات الهياج وفرط الحركة وطبعا كان قد حفظ غيباً اسم الدواء والجرعة وتاريخ انتهاء الصلاحية .
بادرني قائلاً وهو يدخن سيجارته : –البارحة طمئني قريني الجني انه لن تقوم الحرب ولن يحصل اي اذى وراح نطلع منها سلامات ,هو يعرف الوضع زين.
-حقاً ؟ كيف هذا والاذاعات العالمية تصدح با خبار التحشدات العسكرية المهولة والتحليلات السياسية لا تنفك تؤكد هذا على مدار الساعة ,قلتها وانا اعجب لنفسي كيف اجلس صاغية السمع لهراءوتخاريف هذا (المسودن ) كما يسمى المجنون بلهجة القرويين العراقيين بل وانتظر منه حوارامطمئنا عله يطفيء بعض رعبي وانا استعرض مقولة خذوا الحكمة من أفواه المجانين .
وبعد ما يقرب من أسبوعين حدث الزلزال يوم 17-1 -1991وانا في بيتي ولاول مرة في حياتي اعرف الاحساس الخاص جداً باقتراب الموت والذي يجهله من لم يجربه وكانت ليلة ذكرتني بالبيت الشعري
وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بانواع الهموم ليبتلى
الا ايها الليل الطويل الا انجلي بصبح وما الصبح منك بأمثل.
وكرت السبحة لليالي السوداء ولكنها اخف وطأة مرة بعد مرة ,ا بسبب تعود أذاننا على أصوات أزيز المقاتلات وصواريخ سام والقذائف المضادة للطائرات واصبحت هوايتنا أن نميز فيما بينها ونعتبر ذلك نوع من التذاكي والمهارة ,كانت الضربات الاولى قد قتلت أحساسنا بالخوف أذ تطلعنا في صباح اليوم التالي وقد انقطع القصف الجوي لسويعات ,فأذا بنا أحياء ولكن بدون ماء أو كهرباء أو هواتف والشوارع مقفرة الا من اليات الجيش والشرطة والاسعاف وبعض العربات المدنية المسرعة بركابها الى خارج العاصمة ممن لم يهرب في الايام السابقة .
غادرت الى المستشفى بعد يومين حسب جدول المبيت المتفق عليه وقضيت الليلة الاولى لي خارج البيت ومعي ممرض واحد وممرضة وحارس واحد ينام قرب البوابة الخارجية وزميل من الاطباء حديثي التخرج وطبعا ,دولاب الطواريء والمريض عباس وقطعتان من الخبز الاسود البارد مع علبتين من اللحم المحفوظ وجهاز المذياع الذي لا نستغني عنه مع مصباح بطارية ومدفأة نفطية متهالكة وعدد من البطانيات .
ماذا سنفعل في هذا الليل الطويل سوى سماع الاخبار ,وهكذا شاءت الظروف أن نصبح عصبة نأكل ونجلس في نفس الغرفة ,هذه التوليفة الغريبة في زمن ومكان خارج الحياة البشرية السوية .
حلت بداية النهاية للقصف الجوي ووقف اطلاق النار ولم نعالج جريحا واحدا من المدنيين أو العسكريين , فضحايا القصف من المدنيين تم أخلاءهم وهذا متوقع الى المستشفيات العامة المركزية ولم تفيض بهم الى الحد الذي يستدعى اللجوء لمستشفانا الصغير المتخصص اما المحاربين الميدانيين والمنسحبين والهاربين فقد أبيدو بالكامل ومن جرح منهم داست عليه أقدام رفاقه وقددمرت عربات واليات الطبابة العسكرية بحيث يعجز أي من أفرادها مهما استبسل عن انقاذ أي جريح وأخلاءه مئات الكيلومترات الى المراكز المجهزة داخل العاصمة والمدن الرئيسية ,فليس هناك من قانون يحكم الحروب المجنونة الا غريزة البقاء .
عادت الحياة الى طبيعتها ودبت الحركة وانتظم دوام الموظفين والعاملين وأنيرت البنايات بالكهرباء في جو من الحزن يشابه حزن الانسان بعد بتر ساقه المصابه التي تهدد حياته ,ذهب الرعب وجاء الاسى, كشعور العائدين من دفن أحباءهم ,أستبدلنا الخوف والحزن بالامن والحزن .
جاء عباس وقد لملم اغراضه الشخصية استعدادا للخروج برفقة أخيه وبدا لي وقد أستقرت حالته العقلية أكثر من السابق وقال لي مودعاً: ألم أقل لك سنطلع منها سلامات ,انشاء الله العمر الطويل يادكتورة .