حسين سرمك حسن: “حسن دعبل” ..البحبوح .. دعاء الخراب

( القلعة الآن ..
لا تأنس الحكايات ولا الذكريات ولا الشعراء ولا الطوّاشين ولا الغرباء
تتهاوى بصمت وسكون ، لتكون واحدا من الأسوار غير المخلّدة بمكان مخلّد ، أو مقبرة دلمونية تطفو على الماء )
                                                      (حسن دعبل )
                                                    كتاب (البحبوح )

 .. و(البحبوح) دلالة ، كما يقول القاص (حسن دعبل) في هامش قصته الأولى من مجموعته (البحبوح)# ، هو دعاء تطلقه الأمهات في المساجد طلبا لتحقيق أمانيهن . يطلقنه وفق طقوس متوارثة هي في حقيقتها مزج ماكر تقوم به النفس البشرية بين المقدّس والمدّنس . فهذا الطقس يجري في الأيام الثلاثة الأخيرة من شهر رمضان حيث تتزين الأمهات ويلبسن أبهى ملابسهن ، ويذهبن لـ “الرقص” في ساحة المسجد ، حيث يتقافزن ويتكئن على رؤوس أصابعهن ، وهن يحجلن داخل الباحة ، على هيئة أشواط وصفوف ، يغنين ويزغردن بأمنيات وأدعية (ص 19) . وهذا المزيج المراوغ والمحكم بين المقدس والمدنس هو من بين أهم وأولى سمات نصوص حسن في عمله هذا . ولا أجانب الصواب إذا قلت إن الإبداع بأكمله ينطوي على تمرير هذه الخلطة التي كانت النفس البشرية ومازالت بأمس الحاجة إليها . هي خلطة تنطوي على روح تحرّشية بالمرجعيات المتعالية التي تسحق وجودنا فلا نجد غير الإبداع وسيلة لمدارة نرجسيتنا الجريحة . هذه النرجسية التي تشي بها بحياء صفحة التقديم (الصفحة الأولى من المجموعة والسابعة من الكتاب ) والتي يصف فيها حسن ساعة ولادته مولودا ذكرا لأب فقير ، في بيت في جزيرة تاروت في شرق السعودية ؛ بيت ينام في حضن البحر ، وبقعة تتوسد خاصرة دلمون (ص 7 و8) ، حيث يصف حسن “تعميده” ذي المسحة الأسطورية بالماء :                      (وعلى جرف ماء البحر بلّلته بكفّيها ، هلّلت ببكائه ، وغطت جسده الغرّ بملوحة البحر ، عمّدته بتسبوعة داخل الماء ، وهي تزغرد وتلهج بتسبيحات وأدعية ، وتعاويذ معوّذة من الشرر والحسد والضياع – ص 7) .                                                                      إن الكاتب يطرح تفصيلات ولادته بصورة قد لا تكون ذات صلة محورية بمضامين النصوص ، أو الضرورات الفنية للتقديم ، ولكن هذا – كما قلت – ما يتيحه الفن ويغيّب انتباهتنا عن مقاصده ، وتغييب الانتباهة الواعية هي واحدة من أهم أدوات الإستقبال الجمالي لدى المتلقي ، حيث لا نشعر بتراخي الصلات حين يذكر حسن مباشرة أنه أصدر كتاب “جمرة الضوء” – في بيروت في عام 1995 ، ثم “ما تيسر له” في بيروت أيضا ، في عام 2000 .
ولم يضع حسن “تجنيسا” معينا لكتابه هذا ، لا يوجد على غلافه ، ولا على صفحة تعريف الناشر الداخلية ، كما اعتدنا ، توصيفا لجنس النصوص كأن يكون قصصا قصيرة مثلا ، وأعتقد أنه أرادها هكذا ، نصوصا “مفتوحة” ، أو كما سمّاها “مفاتيح” في صفحة الفهرست ، فهي فعلا مفاتيح لتجربته الذاتية التي تنتسج خيوطها بنول التجربة الجمعية وتلتحم بها رغم تمايزهما الواضح . ولعل المفتاح الأساسي ، والذي قد يبدو عابرا في النظرة السريعة ، هو الصفحة الاستهلالية إذا جاز التعبير ، والتي ستجد فيها ، عند النظر المدقق ، الثيمات المركزية التي ستلتم حولها نصوص الكتاب . أرادها حسن نصوصا مفتوحة لكن روحها البنائي هو أقرب إلى القصة القصيرة المحكية بلغة شعرية جميلة شابها الإفراط أحيانا . وقد حذر الكثير من النقاد والباحثين والكتاب ، وأنا منهم ، من مغبة الإفراط في اللغة الشعرية حيث يجب أن تستخدم بجرعات محسوبة تبقي لغة الشعر للشعر ، ولغة السرد للسرد . ففي نص “رقصة النوروز” يقول الراوي – والنصوص كلها تحكى بضمير الأنا المتكلم – :                                                                                               ( كنت أراهم وأمشي معهم وأدور ، أدور حول جذع نخلة زيّنوها بأعلام وبيارق وأثواب كأستار عُلّقت للتبرّك والشفاعة والنذور . أدور معهم ، وهم يُسرجون توسّلاتهم برجاءات هامسة ونذور . لم أهمس للحيّة وهي تزحف بمكرها قربي ، ولم أتشفّ بليليت وهي ترتجف من شدّة الشبق . كنت صغيرا – ص 33) .                                                               وهنا ، وفي مواضع أخرى ، لا تستطيع إحالة الخطاب عن شبق “ليليت” بمرجعيتها الأسطورية المعروفة ، إلى فم ومدارك “صغير” يدور مع جموع قريته حول نخلة في رقصة طقسية . ووجود طقس الرقصة ، الولادي أو التعميدي أو العبوري ، والأخير حسب المفهوم “اليونغي” هذا ، يمتد ، كما افترضت ، من المفتاح الاستهلالي ، من الولادة المباركة لحسن ويتنقل على حلقات سلسلة النصوص . ففي النص الأول (أسرق القمر وأداري شحوبه بعزلتي) يعود طقس الإحتفاء بالوليد “المُنتظر” حيث ، وبعد شعائر ملامسة تفصيلات جسده من قبل النساء ، (.. كمن يدلّلونه بالزغاريد والبخور ، يأخذنني في أحضانهن ، أو على راحة صدورهن ، وهن يتهيأن للرقص والأغاني – لـ “دعاء البحبوح” – في باحات بيوت العبادة ، وكنّ يهرولن كما في البيت العتيق – ص 17 و18 ) .                                                                                       وأرجو أن يلتقط القاريء هذه الإحالة التي تزاوج ، من جديد، بين المقدس والمدنّس لأن لنا إليها عودة ، فهي “مفتاح” حاكم . تتكرّر الرقصة الطقسية في النص الثالث “رقصة النوروز” حيث يصف حسن الكيفية التي يضج بها أهالي القرية ؛ رجالا ونساء وأطفالا، وهم يلفون بحماسة ملتهبة حول النخلة المباركة مثلما تدور في باحة المسجد أو البيت العتيق ( أو – وهذا هو الأصل – في ساحة معبد سومري ، وهذا ما سنعود إليه أيضا ) ، الرقصة التي تحيّنت وتمظهرت عبر مئات السنين من مكر اللاشعور ، وعذابات الإنسان وقهره في خديعة الإنتظار المفتوحة و”العلاجية” في مسيرة الحزن الراهنة التي يمارس من خلالها أهالي حسن جلد ذواتهم بلا هوادة ، وهم ينشرون بيارق العزاء لاطمين صدورهم ، وضاربين بالأرض مرديات سفنهم .. وبإيقاع الحادي يصرخون :
“تابوتنا في أم قلّمة / وعزانا وصل الخُضر ” (ص 37) .
وإذا التفتَّ بإمعان وتفحّص إلى نسيج البناء اللغوي لنصوص حسن وعنوانات هذه النصوص ، ستجد “صنعة” مقتدرة في استلال عنوان النص اللاحق من إشارة لغوية من متن النص السابق . خذ على سبيل المثال إشارته ، في النص الثالث إلى الآباء الذين يضربون الأرض بمرديات سفنهم ، والتي يستثمر منها مفردتي المردي والأب في عنوان النص الرابع (مردية واحدة لا تكفي يا أبي) . وفي هذا النص (الرابع) يتحدث عن غوص المرديات في الطين واللجج ، ومنه ، ومن ثيمتها المركزية يصوغ عنوان النص الخامس (غواية الطين) . ليس هذا حسب ، بل إن الكاتب يعمد إلى الطرق على مفاصل ثيمة واحدة في أكثر من نص ؛ مثلا أشار في المفتاح الاستهلالي إلى أن أباه قد منحه اسمه – وهو تعسف أوديبي إذا ساغ الوصف – وسجله بورقة نفوسه باسم (حسين) ، وبورقة ميلاده مذيلة بـ (حسن) (ص 7) ، رغم أن هذه الوقفة تشي بدلالات دينية مختزنة ، لكنه يعود في النص الثاني (أعمارنا هي تلك الكواكب السيارة) ليقول إن (أسماءنا منحوها أهلنا بفظاظة ، وبلا معنى ولا تعب ، استنسخونا من فحولة أسلافهم وسلالاتهم – ص 25 ) معبرا عن الاستبصار العميق لخلط الهوية من خلال التلاعب بالأسماء . ويختم هذا النص بجملة (ويذبح الشاة وفاء للنذور- ص 28) ، ليعود إلى استثمارها في النص الثالث (رقصة النوروز) فيتحدث عن المرأة التي نذرت بأول حبلها أن تذبح شاة لبون (ص 35) … وهكذا . وقد يعتقد البعض أن هذه ملاحظة لا قيمة لها ، لكنها في الحقيقة مهمة جدا في ترصين دور الذاكرة في فعلها الاستقبالي للنصوص ، وتعزيز وحدتها ، فهي “قرائن – cues ” تحيل ما هو لاحق على ما هو سابق ، وتهيء مسارات شبكة النص التالي من نقطة إنطلاق على ساحة النص الأسبق وصولا إلى تأمين “أرضية” كلّية للنصوص محكمة الأواصر .  
# توظيف الموروث القرآني :
—————————-
في أكثر من موضع “تنسرب” شذرات من آيات قرآنية ، اختزنتها ذاكرة الكاتب العميقة بفعل التربية الدينية والثقافة العامة ، لكنها تأتي الآن موظفة لخدمة الأغراض السردية من ناحية ، وضمن سياق “شعري” من ناحية أخرى . هنا بعض الأمثلة :
– (كحلم ، يراودني عن نفسه ، فأمتنع متظاهرا بالتعفف والعجز والخوف من سوءة قميصي الذي قُدّ من فقره ) (ص 14) .
– ( وغطّوا الثقوب بفتيل وقار ، حبس اليم ، وعزله حاملا فلكهم على صفحة الماء . هل صنعوا الفلك بأعيننا ؟ )  (ص 45) .
– (والطين عُجن وشوي ولزب قبل أن يخرج بين الصلب والترائب ) (ص 53) . وكملاحظة سريعة لكنها ذات صلة بامتزاج المقدس بالمدنس فإن بعض التفسيرات الدينية ترى أن اللازب هو المخلوط بالمني !!  
# توظيف لموروث اأسطوري :
——————————
ولعل الأدق هو أن نقول إن حسناً قد طفت منبجسة من مكنونات لاشعوره الجمعي ، صور وأفكار ورموز ونماذج بدئية ، مرر من تحت أغطيتها أفكاره ورؤاه السردية . يتجلى ذلك في ثيمات نصّية ، أو في نصوص كاملة اشاد معمارها على هذا الأساس . والموروث المتسيّد هنا هو الموروث السومري بشكل خاص . فرقصة النوروز التي خصها بنص حمل العنوان نفسه ، تعود جذورها غائرة عميقا في تربة أرض سومر ، فهي تمظهر لأعياد الإحتفاء بانبعاث الإله “دموزي” الذي صار “خضرا” يلطم عليه الآباء بعد ذلك . في نص “مردية واحدة لا تكفي يا أبي” يسترجع حسن المشهد الأسطوري عن “المرديات ” التي استخدمها الملاح “أورشنابي” لينقل جلجامش المثكول بخله وصاحبه “أنكيدو” إلى “دلمون” حيث الجد “أوتونبشتم – نوح البابلي” الذي سيطلب منه نعمة الخلود – وهذه المرادي في الأصل وحسب ترجمة “طه باقر” هي مائة وعشرون مرديا طول كل منها ستون ذراعا وليست سبعة كما قال حسن في نصّه – .                                               ومن المؤكد أن لا فرادة في أن نرتد إلى الماضي السحيق ، أو نسترجعه مصنّما إلى حاضرنا الراهن . الأهمية تكمن في تثوير وتطويع الدلالات وفق هواجسنا الوجودية المؤرقة ، وفي مقدمتها ، بطبيعة الحال ، شبح الموت أو المثكل حسب وصف جدنا جلجامش الخائب وهو يعود كسيرا من (دلمون / الجنّة) . يتساءل حسن :                           ( ما سرّ دلمون ، إذا أخذتنا في سفرها وخلودها وسرّ عشبتها ؟!                                                ما سرّ دلمون بعد أن آلمتنا أوجاع أرواحنا ، وترمّدت أعيننا بأمراضها ، وضمور أعضائنا ، وهرم نسائنا وشيوخنا ؟!                                                                            ما سرّ دلمون ، بعد ذهاب فتوتنا ، وعطش أفئدتنا ، ونومنا العاجز ؟!                               طارت فاختاتنا ، ولم تدلل نخيلنا كما الملوك – ص 46 ) .                                            وهو بهذه الخاتمة يحيلنا إلى المثل السومري الذي وضعه كمفتتح لنصه والذي يقول : (يدللون ملوكهم كما تدلل نخيل دلمون ) ، في تورية مسمومة عن اللاتوازن الذي تفرضه العبودية . وهو يعيد جانبا من ذلك إلى الموقف الأوديبي الذي يجعل الأب المربك والمتجبر في الآن نفسه يسلم إبنه مردية واحدة :                                                                 ( مردية واحدة أمرني أبي بحملها . مردية واحدة تجلد ظهري الفتي وكتفي ، وتلوّحه وتصلبه بلواهب شمس قائظة ، ونديّة بمياه دلمون الصافية . هل أدرك أبي بضياعي وتيهي في أرخبيلاته ؟ لم يملك حكمة أوتنبشتم ، ولم يكن الملاح الذي يقود “فلكه” بعيدا عن الطوفان والغرق – ص 44 ) .                                                                      ويمكن القول أن الجوهر نفسه قد تحكم في توظيف أسطورة عشتار في النص العاشر والأخير “عشتاروت” .
# المكان :
————
أولى حسن دعبل المكان أهمية قصوى حتى يمكننا القول إن أغلب النصوص هي نصوص “بطلها” المكان ، وأن الكتاب بجملته كتاب عن “خراب الأمكنة ” ، خراب يعكس إنذلال الإنسان وقتامة مصيره الأسود . فحيثما وليت وجهك نصيّا ستجد رمزين مكانيين : البحر ودلمون (وهو مسقط رأس حسن ومكمن ولائه الأمومي كما أشار في مفتاح الاستهلال ) رمزا للنماء والرحم الفردوسي الذي يندثر ويتمزق ويتهالك حدّ أن يتحول إلى بقايا مطمورة يأكلها غبار الزمن وصدأ الخراب ، والصحراء المكفهرة رمزا للقهر وأخطبوط الفناء الخانق . والصراع بينهما مشتعل يرقبه الراوي منذ الأزل :                                                 (كلما أعود نهاية يومي ، عاصرا قرص الشمس في يدي ، كما برتقالة مؤجلة للبرد ، تحاصرني الصحراء العفنة بلونها الحالك ، قاتلة قلبي . أفزّ بلون موتها وأوقظ روحي العطشة لزرقة الماء التي غابت ، كعتبة الديار المهجورة . أطفيء اشتعال اليوم بغبن كظيم ، وأبحث عن طيور اللقالق والسنونو والطائر الحزين التي تأبى الرحيل ، لترشف آخر قطرة من الماء أو البحر ، التي تسربت بين كثبان الرمل وتسللت قرب أجنحتها المغبرة – ص 69 ) .                                                                                          ومع جور التاريخ الذي كتب تحولاته الجائرة بمخالب الطغاة والغزاة من برتغاليين وجندرمة عصملية وغرباء ، ينمسخ وجود الإنسان المحاصر مرسوما على وجه المكان الأغبر . يصور الكاتب هذا الصراع المرير الذي لا يهدأ في “دير دارين” و”مقهى العبيد” بشكل خاص . وفي الأخيرة يوصل لنا حسن خلاصة “فلسفته” الصراعية الهادرة هذه التي ينسحق مابين سندانها ومطرقتها الإنسان المستلب ، من خلال العبد الذي يُنبذ خارج المدينة ، فيبدأ بالعبث بشواخص “الماضي” من دور عبادة ودور مطمورة وحتى قبور .. يعبث بها بمعوله ليبيع حجارتها لأسياده كي يبنوا بيوتهم لتأتي النهاية الخرابية التي تنتظرنا جميعا : ( هذه الأسرار والكنوز تتناثر بيد وبمعول عبد منسي ، رمته أقداره ، وهو يهوي بجدران بيوت ومذابح مقدسة ، لتهوي الجدران بسقوفها ، وتدفنه رمالها بين جرار وقبور مخلّدة بالنسيان – ص 100 ) .      
ملاحظة أخيرة :
—————- 
 جاءت لوحة الغلاف والرسوم الداخلية التي رسمها الفنان (إياد القره غولي) معبرة عن مضامين النصوص ، وهو أمر افتقدناه طويلا حيث أصبح كل شيء – في ظل صرعات الحداثة – صالحا لأي شيء !!     
# البحبوح – ؟ – حسن دعبل – دار فضاءات – عمان – الطبعة الأولى – 2009 .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *