جبرا إبراهيم جبرا:
” ترفع عن كل مقام غير مقام الإبداع”
مي مظفر
تعود معرفتي بأستاذنا ومعلمنا جبرا إبراهيم جبرا إلى مرحلة مبكرة من حياتي، إلى منتصف الخمسينيات من خلال علاقة والدتي بزوجته لميعة العسكري، التي أصبحت فيما بعد صديقة مقربة لي أيضا. كان اقتران لميعة بجبرا حدثا اجتماعيا مدويا آنذاك، أثبتت فيه لميعة قوة شخصيتها وثقتها الكبيرة باختيارها. وعندما بدأت أخطو نحو بناء شخصيتي الأديبة، كان جبرا من أول من لجأت إليه. ثم تعززت علاقتنا أكثر بعد اقتراني برافع الناصري الذي كان جبرا شديد الإعجاب بفنه وشخصه، ولم يخف علينا ابتهاجه ولميعة بهذا الارتباط. وكان مستبشرا بمستقبل حياتينا معا اجتماعيا ومهنيا. أصبحنا نلتقي في المناسبات الرسمية والاجتماعية بالإضافة إلى تواصلنا بالعمل المشترك. لعلي من الجيل المحظوظ الذي نشأ في كنف مثقفي المرحلة الذهبية من تاريخ العراق الثقافي، بل الأوفر حظا لكوني كنت صديقة مقربة من النخبة ومنهم أستاذنا جبرا الذي تميز برقي الأخلاق والصبر والجلد والمثابرة، وظل نموذجا للمثقف الحر الذي ترفع عن كل مقام غير مقام الإبداع.
كان جبرا، الفلسطيني المولد والنشأة، قد أنهى دراسته الجامعية في كمبرج عام 1948، وما كان قادرا على العودة إلى أرضه الأم بعد أن تقسمت فلسطين وأعلن عن قيام إسرائيل. في إحدى لقاءاتنا في عمان، في التسعينيات، عندما كان يأتيها زائرا، أخبرني بعد أن تطرقنا في الحديث إلى ذكر الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري، فقال: “أنا شديد الاحترام لهذا العالم. هل تعرفين أنه كان سبب توجهي إلى العراق. كنا قد التقينا صدفة في الطائرة القادمة من لندن في 1948 حين جرى بيننا التعارف. كنت قد أنهيتُ دراستي في كمبرج وحصلت على الماجستير. تبادلنا الحديث وتحدثنا عن المأساة الفلسطينية، وحيـرتنا نحن الفلسطينيين في إيجاد ملاذ لنا. فعرض عليّ الدكتور الدوري المجيء إلى بغداد، بل حثني على ذلك مؤكدا أن وزارة المعارف مقبلة على إنشاء كلية للآداب، وتأسيس قسم خاص بالأدب الإنجليزي”. هكذا توجه جبرا إلى العراق، وعُيّن محاضرا في قسم اللغة الإنجليزية في دار المعلمين العالية التي كان الدوري عميدها آنذاك (أصبحت تعرف باسم كلية التربية لاحقا). ثم أصبح في مطلع الستينيات محاضرا في كلية الآداب، جامعة بغداد.
في فضاء دار المعلمين العالية تعرّف جبرا إلى النخبة من رواد الشعر والفن. هناك تعرف إلى جواد سليم الذي كان يدير المرسم الحر في الكلية، ولازمه طوال حياته، وكان له الفضل بتوثيق سيرته ومنجزه الكبير “نصب الحرية”. يومها كانت الحركتان الشعرية والفنية قد شقتا طريقيهما نحو الحداثة والسعي إلى تطوير مساريهما الرائدين في العالم العربي. وسرعان ما انسجم مع الأجواء الثقافية الغنية وتعرف إلى رموزها الخلاقة ليغدو فيما بعد جزءا لا يتجزأ من مسيرة الإبداع حتى نهاية حياته، فأخذ بقدر ما أعطى. لقد هيأ ارتباط جبرا بالنخبة من المبدعين العراقيين، كالسياب وبلند وفؤاد التكرلي ورفعت الجادرجي وجواد سليم وغيرهم، فرصة للدخول في صلب الحياة الثقافية الساعية إلى التجديد والابتكار، بعد أن وجد هذا الأديب والفنان، المتنوع بثقافته وإنتاجه، ضالته في العمل وسط بيئة خصبة والتفاعل معها. كما وجد المثقفون والفنانون والشعراء العراقيون منجم ذهب في هذه الشخصية الغنية بالطاقات.
ففي الوقت الذي كانت فيه اتجاهات الحداثة فنا وأدبا ما تزال عنصرًا غريبا على المجتمع العربي عامة، وضع جبرا يده في يد العراقيين من رواد الحداثة الشعرية والفنية والعمارة والموسيقى ليبشر بإبداعهم، وليضع نفسه وسيطا بينهم وبين المتذوقين، فأدار الندوات وألقى المحاضرات، وتجول في العالم العربي والغربي حاملا في حقيبته شرائح لأعمال الفنانين العراقيين، متحدثا عن ريادتهم وقدراتهم وتنوع إبداعهم، مؤكدا أن هذه القوة لم تولد من فراغ، وإنما هي امتداد حضارة عريقة ما إن أُدركت أعماقها حتى تحيّرت الأمم بسر عبقريتها.
حين يتحدث جبرا في أي موضوع، يجعلك تشعر أنك أمام أستاذ بارع قادر على إيصال فكرته بكل جلاء، لا من خلال حديث فوقي متعال، وإنما من خلال وضوح رؤية واحتواء عميق ينقله إلى مستمعيه بمحبة يسري خيطها بين المتكلم والمستمع. ولعل السر في ذلك أن ثقافة جبرا شاملة ومتداخلة، تجمع بين الأدب والفن التشكيلي والعمارة والموسيقى، ومعالجته لأي من هذه الميادين تنم، ولا شك، عن معرفة خبير ممارس ومتذوق في آن.
كثيرا ما كان يُطرح على الساحة الثقافية العراقية تساؤل حول تنوع نشاط جبرا إبراهيم جبرا، وتوزعه ما بين النقد والرواية والترجمة والشعر والرسم، ليليه تساؤل آخر: ما الذي سيبقى من الإرث الأدبي لهذا الأديب. وعلى الرغم من تمسكه بهذا الإنتاج المتنوع، بل المتلازم كما أرى، وكما أكد هو، اختار جبرا في نهاية المطاف أن يكرس جل وقته وجهده لكتابة الرواية التي وجد فيها الوعاء الأمثل لاحتواء الثراء المعرفي الذي يمتلكه، بما في ذلك استيعابها للطاقة الشعرية.
اعتمد جبرا إبراهيم جبرا في كتابة النقد الفني والأدبي على تبني الاتجاه التأثري أو الانطباعي الذي يتلمس من خلاله مواطن الجمال في العمل الإبداعي. كان انتقائيا في كتاباته، مع استثناءات لا تكاد تذكر. نقده لم يخضع لأي معيار سوى معياره الجمالي؛ ويكاد دوره في بث القيم الجمالية في كتاباته عن الفنون البصرية، يشابه دور الناقد الإنجليزي جون رسكن، الذي أحدث نقلة نوعية في التذوق الفني في القرن التاسع عشر الميلادي في أوربا بعد أن أنقذ النقد من سذاجة المعيار الأخلاقي وتعسّفه. وإذا تحدثنا عن إرث جبرا في النقد الأدبي والفني العربي، لاسيما العراق، تتجلى قيمته بل ريادته. إذ ليس بوسع أي كاتب أو باحث عراقي وعربي أن يلج هذا الباب من غير المرور بعتبة جبرا.

كما واكب باهتمام وشغف سير العملية الفنية التي قلما وجدت آنذاك من يحسن التحدث عنها بمهنية ومعرفة، ووقف بثبات يشارك بتطورها المتسارع لاحقا. ويعزى له الفضل في إصدار أول دراسة (1972) تتناول تاريخ الحركة الفنية المعاصرة والحديثة بأسلوب علمي وموضوعي إلى حد جعلها مرجعا أساسيا لكل من يتصدى لدراسة هذه الحركة الحيوية. وحين تأسست رابطة نقاد الفن العراق نهاية 1982 *، وضم مجلسها ممثلين عن الفنانين والمعماريين والآثاريين والنقاد، اختير الأستاذ جبرا رئيسا لها، وظلّ يمثل العراق في جميع الاجتماعات التي كانت تقام دوريا في مختلف أطراف العالم. وكان لي شرف اختياري عضوا في الرابطة منذ تأسيسها والعمل معه لبضع سنوات. وبعد، فحين تقرر إصدار مجلة فنية باللغة العربية باسم “فنون عربية”عن دار واسط في لندن،اختير جبرا ليكون رئيس تحريرها، وهي أول مجلة عربية من نوعها.
____
في كانون الثاني (يناير) من 1994، كنت مدعوة لحضور ندوة عن الإبداع الشعري في مدينة سوسة في تونس، ضمن وفد عراقي يضم الأستاذ جبرا وماجد السامرائي ومحسن الموسوي الذي كان يقيم ويعمل آنذاك في تونس. اتصلت به قبل يومين من السفر، فاستقبلني ببشاشته وترحابه المعتادين. فأخبرني أنه لن يستطيع الحضور لأنه لم يعد قادرا على تحمل مشقة السفر إلى عمان بالطريق البري، منفذنا الوحيد إلى العالم آنذاك. لكنه أرسل كلمته مع الأديب ماجد السامرائي الذي سيقرأها بالنيابة عنه. أصبت بإحباط شديد، فقد كانت هذه اللقاءات زادا لنا، نستعيد من خلالها متعة حياتنا الاجتماعية والثقافية الحميمة في بغداد. يومها لم ألمس من صوت جبرا، ولا من تدفق حديثه أي وهن، ولم أكن أدري أن ضحكاته في الهاتف، وانتظاره لقاءنا في بغداد، كان نهاية تواصلي الحي مع الأديب الكبير والصديق العزيز والمعلم المستنير الذي سيظل أبدا حاضرا في ذاكرتنا.
عمان – مي مظفّر
هامش :
*تأسست رابطة نقاد الفن لتكون هيئة عراقية لها ارتباط بالرابطة العالمية AICA التي كان مقرها في باريس.
الصديقة الغالية الاديبة مي مظفر
اهلا بعودتك للنشر واثرائنا بمقالاتك النقدية واسهاماتك الادبية والثقافية الرصينة.
تحية صادقة لك وللدكتور الفاضل حسين سرمك على جهده المميز واستقطابه الاسماء الثقافية الجادة.