إشارة :
سألتـْني الشعراءُ أيـن أميرُهم؟/ فأجبـتُ: إيليـّا بقـولٍ مطلقِ
قالوا: وأنت! فقلتُ :ذاك أميرُكمْ/ فأنا الأميرُ لأمةٍ لم تُخْلَقِ
يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي البدء بملف عن الشاعر العراقي الكبير “أحمد الصافي النجفي” الذي وصفه عبّاس محمود العقاد”: “الصافي أكبر شعراء العربية”، والذي كانت حياته ونهايته المأساوية وإهمال قيمته الشعرية ونضاله الوطني شاهد إدانة لنا جميعا بلادا وشعبا وحكومة. تدعو أسرة الموقع الأحبة الكتاب والقرّاء إلى إغناء هذا الملف بالدراسات والمقالات والصور والوثائق.
المقالة :
دراسة في تجربته ومختارات من أشعاره- أحمد الصافي النجفي: الغربة الكبرى لمسافر بلا جهة
هاشم شفيق
لم تنجب الكلاسيكية الشعرية العراقية شاعراً كتب القصيدة العمودية، ذات الحصيلة الفنية المختصرة، مثل أحمد الصافي النجفي. كان هناك شعراء الفخامة اللغوية والبناء الباروكي ـ الرواقي، كما كان سائداً لدى احمد شوقي ومحمد مهدي الجواهري وبدوي الجبل وسعيد عقل. ولو تأملنا البنية الشعرية التي أمتاز بها النجفي عن غيره لوجدناه في المعمار الجمالي هو أقرب إلى شاعر رعوي، شاعر مطبوع، وذو صنعة وفطرة وموهبة مترعة بتفاصيل الوجود والكون وسبل المعيش. شاعر سفر وتجوال، وطبيعة، فضلا عن كونه شاعراً مسافراً في الذات وفي كنه وجوده. فقصيدته الواضحة، المشذبة الخالية من الرنين اللغوي الفخيم، هي أهم ما ميّزه عن الشعراء النجفيين الباقين، مثل علي الشرقي والشبيبي ومحمد سعيد الحبوبي، واختلف كثيراً عن الجواهري بموضوعته الإنسانية، حيث التسامي على الأخذ والأعطيات، والتمنّع عن فن المدح والتكسّب عبر شعره. بل كان النجفي رجلاً زاهداً بكل معنى الكلمة، فهو شاعر عرفان حياتي وسغب وعوز، لكن هذا المصاب لم يذهب به ويستعطي ويستميل فتافيت الطغاة إليه كما حصل مع شوقي وقصته مع البلاط والملوك، وكما برع الجواهري فيه، منذ بدء حياته الشعرية وعمله في البلاط الملكي ومدحه للملوك والرؤساء الذين عاصرهم، حتى قبيل وفاته بمدحه لصحافي عربي مقيم في لندن.
المهم في الأمر هنا، ليس التقليل من أهمية الجواهري وعظمته الشعرية، ولكن الشيء بالشيء يذكر كما تقول الحكمة، فهو أيضاً نجفي كما الجواهري، وطاف الدنيا، ولكنه كان فقيراً، ساتراً حاله بكلمات قصيدته ومعانيها الكثيرة. جال في مصر ولبنان وسوريا وعشق الأخيرة، فله فيها مطرح ووساد هنيء، فهو كان يبحث عن دفء المكان ويهرب من السلطات والحكومات والأغنياء وذوي الجاه والمِكْنة، ولم يألف غير الأزقة العتيقة والمقاهي الشعبية والفنادق الرخيصة. كان النجفي شاعراً حتى في لباسه وزيّه العربي الذي أبى ان ينزعه، متوحداً كان، وأعزل وهارباً من وجوه الأصدقاء والغواة والنقاد ورواد الصحافة، مائلاً إلى جلسة مقهى مع الشاي والتأمل، ومراقبة الوجود عبر سرحانه الدائم في الكون وصنائعه، مكتفياً بما يقدمه النادل له من قهوة عابقة.
التقيت النجفي مرة واحدة في مقهى المختار عام 1975 في قلب دمشق، كان قريباً من الواجهة الزجاجية، ويقرأ في جريدة، فوجئت حقاً بمرآه، ولما وجدته وحيداً استجمعت كل ماضيّْ قراءاتي له واندفعت إليه، رامياً عليه السلام، مادّاً يدي له، هو كان جالساً لم يقم ولكنه دعاني للجلوس فجلست، ظنني أحد الصحافيين المتطفلين، ولست معجباً، أو تلميذا سابقاً تربّى على أشعاره وأنا لم أزل في الثالثة عشرة. لقد وجدت دواوينه أمامي في منزل أختي، وكان مختلطاً مع دواوين مختصرة أخرى للمتنبي وأبي نواس وأبي العتاهية، وحين وجدته شاعراً حياً، لم يزل يعيش بيننا، احتميت به كونه معاصراً وليس غائباً منذ أكثر من ألف عام. من هنا تولهي به وقراءتي له دفعة واحدة عبر ديوانين على ما أذكر وهما «حصاد السجن « و «هواجس»، وكان له الأثر الكبير على بداياتي الكلاسيكية وقرزماتي الشعرية ومحاولاتي العروضية الأولى. كان الشاعر لحظتئذ بلباسه العربي الذي عُرف به، وبدا لي رقيق الحال، ذا هندام غير معتنى به، ناحلاً، بوجه طويل وعينين حادتين وأنف دقيق وطويل كالصقر، تحدّثت معه بضع كلمات عن شعره وإعجابي به، استغرب الأمر من شاب في مطلع العشرين، قرأ له ديوانين في سِنِيّ الصبا الأولى، وحفظت له بعض الأبيات الدالة عن الحياة والوجود والعدم. وقبل أن استرسل في الأبيات الأخرى دهم مجلسنا شاعر لا أعرفه، ولكن عرفت فيما بعد أنه محمد بدوي. كان ثملاً كعادته وخارجاً للتو من الحانة المجاورة للمقهى، تلك التي تعطي الشراب وقوفاً، وتخلو من مقاعد للجالسين، وكانت تقع تحت دائرة السينما ومجلتها المعروفة.
بعدها قرأت وبعد مرور عامين على هذا اللقاء الحالم والسريع، أن النجفي قد أصيب بطلق ناريّ، خلال أيام الحرب اللبنانية، فعاد إلى العراق، ولم أعرف بعد ذلك نهاية حياته كيف كانت وأين انتهت.
الظلم الذي وقع على النجفي كان كبيراً، بسبب تعفّفه، وعدم انخراطه في تجمّعات وحلقات ومجالس أدب وسياسة. لم يكن شاعر تجمّع ما، أو حلقات وخلايا سياسية وحزبية، كما هو حال صنوه صالح بحر العلوم الذي أطلق عليه الحزب الشيوعي العراقي شاعر الشعب، وهي مرتبة أدنى قليلاً من التسمية التي أطلقها الحزب على الجواهري الذي كانت تسميته بـ «شاعر العرب الأكبر». كانت هناك في تلك الأزمنة الغابرة والمحفوظة في الذاكرة، تسميات والقاب للشعراء العرب مثل «شاعر النيل» و «شاعر القطرين»، وهذا كان يطلق على خليل مطران، أو أمير الشعراء على شوقي، وغيرها الكثير من النعوت والصفات الكبيرة، مثل الشاعر الفيلسوف للزهاوي والشاعر الثائر للرصافي وشاعر الجبل لبدوي الجبل وشاعر الغزل لنزار قباني، إلا الصافي النجفي، كونه شاعراً، صافياً في لغته، وغير زخرفي في صناعته وغير ميال إلى التفصيح العالي، في بناء جملته الشعرية القصيرة والمكثفة، فكانت تطلق عليه تسميات، مثل الشاعر المشرد والوحيد والفقير والمسكين، وهي أصلا لا تطلق فيما مضى إلا على الشعراء الأصيلين والحقيقيّين، أي غير أولئك الصنّاع المهرة ـ الطاعنين في حسن السبك والصياغة والإفراط في الجزالة اللفظية، كما هو موجود لدى الجواهري. بيد أنّ الصافي النجفي، كان مثل شعراء التروبادور، أو الشعراء الزاهدين من شعراء الهايكو الياباني المهاجرين صوب الفصول والطبيعة من أجل كتابة بيتين أو ثلاثة، ومن هنا سُمّي بتسميات متواضعة، كونه ليس الشاعر العملاق والمتجبّر والمُهيمن، وكانت تلك التسميات حقاً تليق بمقامه وحياته البسيطة والمتواضعة، حياة العزلة والهروب من العامة، وهي إنْ اقتربت منهم، فهي حياة غرفة في فندق وكرسي في مقهى لا غير، أو منزل متهالك وبارد في حي القيمرية الدمشقي. لا حزب هناك يرفعه في التظاهرات، ولا تجمّع سياسيا يُلمّع صورته ليل نهار، ولم يكن موالياً لسلطة وإمام، بل كان موالياً لذاته، لنفسه المتذمّرة والمتشككة والهاجرة لحياة الناس، أولئك الغارقين بالقيل والقال والمال والطعام والجنس. كان الصوفي المثالي، البوذي غير المنتمي للبوذية، العرفاني بفطرته الشعرية وليس المتصّوف عن علم ودراية ودراسة، بل كان المتأمل حاله ومعنى وجوده. تُرى هل عرف كنه وجوده بعد هذه الرحلة الطويلة مع النفس والوحدة والانفراد بالوجود؟ هل وصل إلى تلك الأقانيم والأحوال؟ وهو المترجم الناجح والكبير لرباعيات عمر الخيام التي كانت من أفضل الترجمات من الفارسية إلى العربية.
في الشعر كما في الأدب وبقية الفنون، يظهر في فترة من الزمن ويبرز شاعر وفنان يمتلك موهبة ليست قليلة، فتقف حينها الحياة بكل طاقتها لتعمل لأجله، وتسخّر كل طاقتها من أجل أن ترفع من شأنه وتُعلي من قامته، فيظهر في الوقت ذاته أيضاً غاوون كثار ومساندون وصانعو نجوم محترفون، ليكون هناك بعد ذلك شاعر العرب الأكبر، لتغطي حينها قامته الكبرى التي لمِّعتْ كثيراً على شعراء مجاورين لا يقلون أهمية وموهبة عن الشاعر الأكبر. فشاعر مثل بدوي الجبل وهو شاعر كبير دون شك، كان قد غطى في وقته على شاعر مهم وكبير ونادر ومطبوع مثل الشاعر السوري نديم محمد، وكذلك كانت الآية وقد تجلت في مصر حين غطى ظل أمير الشعراء على شعراء كبار مثل علي محمود طه وغيره، وفي العراق كان هناك عبد الأمير الحصيري، فلكونه صعلوكاً وشاعر خمر وطرقات، فهو سيتضاءل أمام الشاعر الأكبر، شاعر الجماهير والأسطورة التي صنعتها الجموع ورفعت صورته عالياً، وردّدتْ قصائده الدهماء لينتشر في الثورات والمد الشعبي والتظاهرات الجماهيرية.
كانت مناسبة هذه الكتابة الآنفة أعلاه، هي صدور كتاب «أحمد الصافي النجفي ـ الغربة الكبرى لمسافر بلا وجه» وهو مختارات قام بجمعها وتصنيفها وكتب مقدمة ضافية لها الشاعر محمد مظلوم، ليوضّح كما وضّح كاتب هذه السطور الملابسات والمشاكلات والأمور التي لازمت حياة الشاعر النجفي. والمختارات هذه كانت قد انتخبتْ من دواوينه التي صدر أغلبها في بيروت ودمشق مثل «حصاد السجن» و «هواجس» و»أشعة ملونة» و»الأغوار» و «الشلال» و «الأمواج» و»شرر» و «اللفحات» و «الحان اللهيب»، وغيرها من الكراريس والمدونات الشعرية التي صدرت كلها في أعمال كاملة عن وزارة الثقافة العراقية في عام عودته إلى العراق 1977 في بغداد.
ففي إشارته لفساد العالم يقول «يا مالُ يا مانح الألقابِ والرتبِ / حتى م تختصّ بالألقابِ كلَّ غبي /
كفى المعالي هو اناً أنْ تكون لنا / أنتَ الطريقُ لنشر العلم والأدبِ / المجدُ في الضفة الأخرى وليس له/
الا العبورُ على جسرٍ من الذهبِ / ».
أحمد الصافي النجفي: «الغربة الكبرى لمسافر بلا جهة»
أعدها وقدم لها: محمد مظلوم
دار الجمل، بيروت 2015
415 صفحة
*عن القدس العربي