قصائد اللقالق المهاجرة.. قفزة نوعية في عالم الشعر المعاصر
بقلم: الدكتور محمد خرماش*
قد يظن البعض أن تقديم الأعمال الإبداعية شيء سهل لأنه لا يعدو أن يكون بضع كلمات تقال في حق العمل وفي حق صاحبه، وغالبا ما تكون من قبل التمجيد والإطراء، لكن الأمر في حقيقته الحقيقية على خلاف ذلك تماما، لأن تقديم عمل إبداعي مثل ديوان شعر مثلا مسؤولية عويصة وحرج كبير تجاه العمل وتجاه صاحبه وتجاه المتلقي الذي ينتظره، وعلى المقدم أن يكون من المعرفة ومن التدقيق ومن الحصافة ومن النزاهة بحيث لا يغمط طرفا حقا ولا يتنكر لعلمه ومعرفته قبل هذا وذاك؛ وعندما وردت علي رسالة من السيد سوران محمد يطلب مني أن أكتب تقديما لديوان شعره الذي وسمه بـ “قصائد اللقالق المهاجرة”، لا أخفي أني تهيبت الأمر كثيرا لأسباب متعددة منها بعض الذي ذكرته آنفا والذي يجعلني غير متحمس عادة لمثل هذا التكليف الشاق، ومنها أني لم أكن أعرف الشاعر سوران ولم أكن قد قرأت له شيئا من قبل ، فلم أجد بدا من الاعتذار له ، لكن السيد سوران محمد عاود تذکيره وبدأت أقرأ “قصائد اللقالق المهاجرة” وأهاجر بدوري في أغوارها البعيدة، والواقع أني ومن وجهة نظري لم أجدها بحاجة إلى تقديم لأنها تقدم نفسها بنفسها بل ولربما كان ذلك أحسن تقديم تُقدم بـه، إذ يُخلَّى بينها وبين القارئ ليكتشفها ويستمتع بها أويستفيد منها دون توجيه مسبق أو مساعدة قبلية، ومن ثم نصيحتي الأولى لكل قارئ أن يقفز على التقديم ويتعامل مع القصائد مباشرة، وله أن يعود إليه بعد أن يكون قد كون رأيا حولها ، ومن باب الفضول ليرى فقط هل يوافق أو يخالف بعض ما جاء فيه من بعيد أو من قريب. ومن جهة أخرى تنبغي الإشارة إلى أن الشاعر سوران محمد قد قدم لديوانه بنفسه أو بغيره أولا حينما كتب في الصفحة الرابعة وتحت العنوان مباشرة ما يفيد معاركته زمنا طويلا لشيطان الشعر، وحينما ذكر بعض ما قيل عن قصائده مما يفيد في تصنيفها وتنميطها وتنسيبها، وتحديد زاوية النظر إليها وكيفية قراءتها؛ وطبعا فهذه الإشارات القبلية هي من قبيل العتبات التي ترافق النص، وللقارئ أن يتوقف عندها أو معها قليلا ليسترشد بها، كما له ألا يأخذ بها ويعتمد منظوره الشخصي وقدراته الخاصة في القراءة والمقاربة والتحليل.
وإلى ذلك فقد صاحب الشاعر نصوصه بعتبات أخرى ذات دلالات كبيرة، قد تبتدئ من العناوين مثل صقيع الزمن و وراء الجدار ورائحة التربة وغرف الفكر وآخر مساء الصيف ونهايات وغيرها، التي تتصادى فيما بينها وفيما بينها وبين أبعاد القصائد المختلفة، ولا تنتهي عند اللوحات التجريدية المرسومة بجانب كل قصيدة، والتي تطرح بدورها إشكالية قراءتها وتأملها أولا، كما تطرح إشكالية المزج بين الشعر والرسم وهو باب كبير في تلوين الإبداع وتشكيله وتفريعه، ومن ثم تكثيف الدلائل وغزارة المدلولات، وتعقد الفهم وصعوبة التأويل .
أما عناوين القصائد فمجملها يغرف من حوض العنوان الكبير الذي اختاره الشاعر للديوان كله وللقصيدة الثالثة منه (قصائد اللقالق المهاجرة)، ويصب في مجراه الذي يحيل على عالم الغربة والاغتراب ومعاناة الهجرة والبعد عن الوطن الذي يسري الحنين إليه في الأوصال، والذي يتجاوب شعورا ومضمونا مع ما يؤثث جل القصائد من أشياء الواقع الأليم ومعطيات النفس الكليمة ومعاناة القلم المقهور؛ بمعنى أن العناوين “استغوار( ” (mise en abîme للقصائد التي يمكن أن تُقرأ من خلالها، والقصائد ترجمة وتفصيل للعناوين بمضامينها ومحتوياتها، وكل يحيل على الآخر في المعاني والمرجعيات، فالصقيع والجدار والتراب والسلاسل والمساء والنهايات وبعض الأماكن وغيرها، “محطات” وحواجز تحيل على الضيق المادي والمعنوي وعلى المحدودية في النفس وفي المجال، وهي الموانع التي تقف في سبيل الانطلاق والانبساط فكرا وروحا وإنتاجا وأملا، وتكرس الكبت والقمع والانكماش، وهو المناخ الذي تمور فيه القصائد الحرى، والإشعاع الذي تبعثه للقارئ فتعديه بحالة التأزم والتساؤل والتطلع والانقباض، ما دام الشعر في المنظور الحداثي يخاطب النفس والوجدان أكثر مما يخاطب العقل والأفهام، فيعيش معها أو مع الشاعر تجربته في التربص والترقب والتأمل في معطيات الوجود والحياة، وفي تقلبات الدهر وصروف الزمان، وهي تجربة الشظف والمعاناة، معاناة الشاعر المفكر أو المفكر الشاعر الذي كُتب عليه أن يظل لاهثا وراء الحقيقة الهاربة والنفس المعذبة والرؤى الماثلة، كما اللقالق أو الطيور التي تهاجر صيفا وشتاء وتكابد ما تكابد، لكنها لا تملك إلا أن تفعل وتتحمل وتعاود الكرة والكرات . وسواء أكان الشاعر مسترفدا في كل ذلك مما عاشه أو مارسه أو تعرض له في ديار الغربة والسفر والتنقلات التي يتحدث عنها بذكره لبلدان المُهاجر العديدة أم لا، فإن القارئ واقع حتما وأصلا تحت تأثير حمولات القصائد الجامعة بهذا السبب أو ذاك بين زفرات المواجع ونشيج المعاناة وأنين الحيرة والارتباك:
سقف العقل يقطر
بتلك القطرات اللاتي
تسطع من بعيد
وكأنها النجمة الكاذبة (الديوان ص٣٤(
إن للعقل الذي هو أنعم النعم عند الإنسان سقفا لا يتجاوزه فهو مقيد و مكبوت، وما أكثر ما يعجز العقل ويحتار وذو العقل دائما في شقاء، وحتى هذا السقف المتدلي ينضح بقطرات قليلة غائرة معتمة مثل النجمة المزورة أو “الفجر الكاذب” بلا نور ولا رواء… كما تنضح قصائد سوران محمد التي تلف القارئ باستغراقاتها المثيرة وهو يعبر مسافاتها الطويلة، فليس الخبر كالعيان، و لا يمكن لأي تقديم أن يحيط بكل أبعاد وحقائق ما يقدمه ، ويكفيه من القلادة ما يحيط بالعنق، وقصائد السيد سوران محمد قلائد منظومة بوهج الروح وسمو الإبداع ولا تتأتى إلا لمن يعرف كيف يخطب ودها ويستسلم لجاذبيتها وغوايتها، فلغتها منتقاة وسلسة ودافئة، وأساليبها مرنة ومتناغمة، وصورها متراقصة ومتجددة. ومن المعلوم أن الشعر لا يقدم مضامينه على طبق من فضة، لكنه يقدم ما يساعد على الإلمام ببعض مقاصده ومراميه، و “قصائد اللقالق المهاجرة” ترسم إستراتيجية دقيقة في التكوين بإشاراتها الغامزة ونقلاتها المغرية واستعاراتها الحية وإحالاتها التلميحية لجر القارئ إلى عالمها الضبابي أو لتحفيز قدراته القرائية من أجل تفجير مكامن القوة الإبداعية فيها، ولينتج نص قراءته مثلما أنتج الشاعر نص كتابته ، وتلك دائما خاصية النصوص الغنية المفتوحة القابلة لتعدد المعاني وتعدد القراءات.
بقي أن أهمس عن قرب في أذن صديقي سوران محمد بل وألح عليه، وما دامت شعرية قصائده متأتية من لغتها وسبكها وصورها أكثر من غيرها، أن يعمل على تطویرها و تمتينها أکثر فأکثر کأسلوب خاص و جديد في عالم الابداع الشعري، وأتمنى له المزيد من العطاء، والتوفيق في الآل والمآل.
—————
* الدكتور محمد خرماش أستاذ النقد الأدبي و المناهج المعاصرة كلية الآداب و الـعـلـوم الإنـسـانـية جامعة سيدي محـمـد بـن عـبـد الله – فاس – المغرب
—