نجاح هادي كبة : قراءة في ديوان موفق محمد غزل حلي يموّسق السخرية والتحريض (ملف/2)

إشارة :
كانت شجاعة الشاعر الكبير “موفق محمد” في مرحلة الطغيان التي سبقت الاحتلال الأمريكي القذر لوطننا، لا نظير لها بين الشعراء الآخرين. كان يقف على منبر المربد، كالأسد، ويزأر أمام الجمهور من العراقيين والوفود العربية بقصائده العنيدة التي تقارع الظلم والقهر والإذلال، ويعود الى مدينته الحلة تاركا الجميع مشدوهين وفي قلق على مصيره. وهو يرصد كما يقول الآن مرحلة القضاء على العراق لا سمح الله: (أكتب الآن قصيدة في رثاء “مدني صالح” هي ليست رثاء له، وإنما رثاء للعراق الجميل الذي يتلوى بين فكوك الأسود، أقول في مقطع منها: وعزرائيل على دراجته الهوائية/ يتلفت مذعورا/ رافعا رايته البيضاء/ لملائكة الموت المفخخ). واحتفاء بمنجزه الشعري الباهر تبدأ أسرة موقع الناقد العراقي ملفها عنه وتدعو الأحبة الكتاب والقرّأء إلى إغنائه بالدراسات والصور والوثائق.
المقالة :
قراءة في ديوان موفق محمد
غزل حلي يموّسق السخرية والتحريض
نجاح هادي كبة
البيئة الخاصة والعامة
هو موفق بن محمد بن أحمد أبو خمرة، ولد بمحلة الطاق في مدينة الحلة سنة (1367هـ-1948م)، أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية فيها، حصل على شهادة بكالوريوس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية من كلية الشريعة، بغداد، عمل في التعليم مدرساً في عدد من مدارس الحلة، وفي نشأته أحبّ المتنبي والجواهري والسياب، وتأثر بـ (بابلو نيرودا)، نشر شعره منذ سنة 1967م بعد نكسة حزيران وهو من جيل الستينيات وهو جيل التجديد والتمرد الشعري والفكري الذي يطلق عليه (الموجة الصاخبة)، مارس كتابة الشعر ثم كتب الشعر الحديث ونشره في الصحف والمجلات العراقية مثل الكلمة والأقلام، والعربية مثل جريدة العرب. طبعت له مجموعة شعرية في الدانمارك بعنوان (عبديئيل) (المرزوك، 2012م، ج3? ص341).
شارك في المهرجانات الشعرية في العراق وسويسرا والكويت وأسبانيا.
شاعر ساخر
انتخب رئيساً لاتحاد الأدباء والكتّاب- فرع بابل سنة 2004م وهو عضو جمعية الشعراء الشعبيين في بابل، أصدر المجموعات الشعرية الآتية : عبديئيل، بالعربان ولا بالتربان، غزل حلي (الحداد، 2012م، ص : 294
يعد موفق من أبرز شعراء الحلة المعاصرين، فقد أقيم مهرجان للشعر في سنة 2007م على قاعة الفنانين برعاية حزب المؤتمر الوطني حمل تسمية (مهرجان موفق محمد) (عوض، 2008م، ج2 ص186).
موفق محمد شاعر ساخر قصائده فيها رفض ووجع لذلك فهو شاعر ملتزم كرّس شعره لخدمة أبناء وطنه خاصة وهو يذكرنا بشعراء الكدية والسخرية والهزل مع المفارقة الذين عاشوا في العصر العباسي.
وظف موفق محمد الشعبي أو العامي في شعره مثل الأمثال والكنايات والشتائم والحكاية وهو ما ميّز شعره عن غيره من أبناء جيله فهو في شعره نسيج وحده ، تطغى على شعره النكتة المرة والساخرة، قال عنه أحد النقاد : (انه شاعر يوظف وجع الكلمات بوخزاتها الدامية في الجسد وهذه الوخزات هي النكتة السوداء التي تستند إليها فكرة التندر القاسية المريرة في ظروف واقع قاسٍ ومرير، لهذا بدت قصائده مشحونة بالموت والتدمير والنهايات القاسية، فهو يقف عند تخوم نهايات الحياة المعفّرة بالعذابات والتحديات، إذ تنشطر الأشياء وتتحول إلى جذاذات عبر عملية تدمير واضحة) (المرزوك، 2012م، ج3? ص: 34).
من الملاحظات في تجربة موفق محمد (على سبيل المثال لا على الحصر)
التعلق بالمكان فهو أكثر الشعراء جنوناً بمكانه الحلة. ومحلة الطاق ونهر الحلة
وجسرها ، تعامل مع الأماكن بوصفها تجوهرات دلالية في النصوص وصاغ منها روحاً للجماليات الرمزية في اللحظة التي اكتشف فيها بأن جسر الحلة لم يكن وسيطاً للانتقال من مكان لآخر وانما ينطوي على دلالة الحوار بين نمطين ثقافيين وحضاريين الصوب الجديد/الحكومي والصوب القديم/الزراعي، وقد اتخذ النهر في نصوصه دوره الذكوري بعد انحسار دلالته المرتبطة بالموت… الحلة مدينة الشاعر والطاق مركزها وسرّة العالم
كله، الطاق ذاكرة المبدع وطوفان أحلامه وفتوته، محلة امتدت إلى الحلة والعراق وعرفت بتاريخها أسماء ورموز ثقافية خالدة حتى الأبد ومنهم طه باقر/محمد مهدي البصير/
عبد الجبار عباس/علي جواد الطاهر ، ونجح الشاعر في وصل كل هذه الأسماء مع تجوهر مقترن بالعالم طه باقر). (المعموري ، 2015م ، ص: 17)
ان الشاعر يستمد قوته وإبداعه من البيئة التي يعيش فيها، فالبيئة والوراثة من أهم مصادر الشاعر في إبداع قصائده، والحلة بيئة حاضنة للعلماء والمفكرين ولها تاريخ مشرق بعيد هو التاريخ البابلي والعربي الإسلامي ، وتاريخ قريب هو تاريخ العصر الحديث وكلا التاريخين جعل الشاعر الحلي مرتبطاً بالالتزام لما فيهما من صفات روحية ومادية سجلها التاريخ بمداد من العطاء والتقدم. فكانت الحلة ناصعة في تاريخ العراق تمتد إليه ويمتد إليها.
ديوان غزل حلي
ديوان “غزل حلي” لموفق محمد من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ضمن آفاق جديدة (7) يقع الديوان في (101) إحدى ومئة صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي على (12) اثنتي عشرة قصيدة منها : غزل حلي الذي عنون الديوان بها، وسري للغاية، أبواب، النور يرقص في سريري، صور شمسية…الخ.
الديوان بمجمله صرخة وجع عراقي على ما حلَّ بالعراق من خراب ودمار نتيجة الحروب، إلاّ أنه لا ينسى بلدته الحلة التي خصها بقصيدة طويلة “غزل حلي” هي فاتحة الديوان، قال متعلقاً بحب الحلة :
أرجو ان لا يخاف أحد
ها أنا أحب الحلة
فما زلت جنيناً في رحمها
أسمع صوت أمي
في هسهسة الخبز
وفي نهرها الهادر بالحمام
هذا النهر الذي مد ذراعيه وسحبني
برفق من رحمها
وخبأني وأراني ما في قلبه من تيجان
وكنوز
ولفّني في سورته
لكن نهر الحلة قد اكتسى بالسواد، لان النهر يلبس عباءات الثكالى ثكالى الحروب التي دمرت وطنه، قال :
حيث يفور الصبر
وتلبس الأمواج عباءات الثكالى
وتسير بخطا وئيدة
فترتبك النوارس فوقها صارخة
يا نهر أنّى لك هذا السواد؟
أنا أحب الحلة
أعشق رقتها التي تفوح برائحة العنبر
وحليب أمي وهي ترضع آخر العنقود
ولكن جسر الحلة على نهرها الجميل لم يعد ذلك الجسر الذي يربط القديم بالحديث بل صار يئن ويبكي لأنه صار سبيلا للعابرين إلى الحروب، قال :
واعتذر…أحبّ جسرها القديم
لم يحلق لحيته رفقا بالصبية
أسمع أنينه وهو يرى الجنود
العابرين إلى الحروب
محترقاً بالجمر الذي تتركه أقدامهم
على ضلوعه
أهذه دموع أمهاتهم؟
قال الجسر وبكى
ثم يرجع موفق محمد إلى ذاته فيتقمص صورة حمار ساخراً أمام هول انعكاسات الحرب على وطنه فيقول :
ألم ترَ ان لا حمار في العالم يشبه موفق محمد
فهو الوحيد الذي يسير على قدمين اثنين
هو في الستين من عمره
ولا يملك شبراً في المعمورة
ولا زاوية في زريبة
يخرج وحيداً عارياً كما خلقه الله
ويعود مثخناً بالجراح
جراء السياط التي تشترطها الأزمات
التي تعصف بالبلاد
هذه الأزمات جعلت الخواء النفسي والمادي يفتكان بالعراقيين أيام الحصار، قال في قصيدة أبواب:
فلا خبز في الدار
ولا أب يهبط من صورته في المساء
المساء الذي يلوّن الأفق
بنحيب الأرامل
لتشرق الشمس عراقية
تتطاير لحما ودما
ما من حصاد في وطنه سوى التوابيت، فيناشد موفق محمد صوت العالم، فيقول في قصيدة أبواب :
بابنا لم يحلق لحيته
فلقد اشتبكت بلحى الأزقة التي تنام
في التوابيت
أما آن لأبوابنا الملطخة بالدماء
والحناء
والعويل وبكاء العوانس
ان تطير بأثوابها
مبرقة مرعدة
ليرى العالم غيومه الجديدة
ثم يتوجع موفق محمد على أبناء وطنه من الخراب الذي حلّ بوطنه بشكل أكثر صراحة إذ يوظف الاستفهام، فيقول في قصيدة صور شمسية :
هل رضعنا حليب جهنم وتنشقنا
يحمومها؟
فاستأسد الجمر فينا…
ليأكل ما تبقى من لحمنا الذي
أخطأته الهاونات والأنوات….
لدرجة جعلت العراقيين يطلبون
اللجوء الإنساني إلى جهنم…
ثم يتجلى موفق محمد في صورة حكيم فيطالب بالحكمة لوقف نزيف الدم بين أبناء وطنه.
قال في قصيدة (No – PHoto) :
عمّ تتذابحون؟
والوطن يرفس تحت اقدامنا
أنحن الغريبون فيه أم هو الغريب فينا ؟
ألم نرضع حليبه؟
وتوسدنا صدره طويلاً
فلنحتكم قليلاً
قبل ان يصبح العراق مصنعاً لتعليب الرؤوس البشرية
وما من مستور غير المقابر
لابد من الإشارة إلى ان موفق محمد ملمٌّ بالتراث الشعبي من أمثال شعبية وألفاظ وحكايات وشتائم –كما ذكر سابقاً- منها في قصيدة تخطيطات جديدة لمؤيد نعمة، قال :
والنفط يخرج من بطون الأرض مشفوعاً
لا بما صنعت يداه
ولضاع شعب في المتاه
(والشايل البيرغ حمد واليلطم ابن كضيمة)
وقال في قصيدة ما تبقى من أيامه :
والوظيفة في الصباح
سوى الرعب وما يردده
الصبية وهم يجوبون
الأزقة في عرباتهم
(العدّة عراقي عتيك للبيع)
المصادر:
– الحداد، سعد (2012م) ، ديوان الحلة، أنطولوجيا الشعر البابلي المعاصر، منشورات بابل ، ط1.
– عوض ، عبد الرضا (2008م)، أدباء وكتاب بابل المعاصرون، ج2? ط1? دار الفرات الإعلامية في المسيب.
– محمد، موفق (د. ت)، ديوان غزل حلي، من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق، آفاق جديدة (7).
– المرزوك، صباح نوري (2012م) ، شعراء الحلة أو تكملة البابليات، ج3? ط2? دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة.
-المعموري، ناجح (2015م) ، شاكيرا تراقص موفق محمد، جريدة المدى،
ع : 336 س: 12? الأحد، 17 آيـــــار.

*عن صحيفة الزمان

 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *