بريد السماء الافتراضي
حوار مع الشاعر العراقي عبد الأمير الحصيري
كتابة وحوار:أسعد الجبوري
ربما كان يدرك أن خروجهُ من مدينة النجف،وهي أكبر مقابر العالم مساحةً وقِدَماً،سيضع قدمهُ في الحياة،فيتخلصُ من روائح الجثث المحمولة في التوابيت ليل نهار،ليبدأ في عاصمة هارون الرشيد بغداد عصراً رومنطيقياً مُعطراً بماء الورد والكلمات،وشاهقاً بأبواب من ذهب .
إلا أن رحلة الشاعر عبد الأمير الحصيري،قطعتْ الخطَ الفاصل ما بين الموت وبين الموت نفسه،إذ سرعان ما انغمسَ الشاعرُ الشابُ في الكحول ،بعدما اعتبرهُ مُحرِكاً للإشراق.فيما كان المجتمع البغدادي رافضاً لمشهد المتشرد السكْران ،بعكسِ عبد الأمير الحصيري الذي تضخمتْ أناهُ في الخمرة إلى حدودٍ، أصبح استردادهُ منها مستحيلاً.فقد تشرّبت تربتهُ بتلك المادة الساحرة حتى التَشبّع،وفقاً لرغبة عارمةٍ ،أرادَ منها أن تقصيه عن الوجود المادي المثالي،مثلما أراد من الشعر أن يُدنيهِ من المجد معنوياً،وهو ما حصل وتحقق وحفر في التاريخ،فصار شاعراً بقامةٍ اشدّ هوّلاً من عمود كهرباء ،تتدلى منه الأسلاكُ عاريةً وسط الناس.
كيف يمكن الذهاب بحوار مع شخصية قائد صعاليك.قامتهُ زجاجةُ خمر تتموجُ،وروحهُ مواكبٌ تتصاعد بالقصائد التي لها وزن ووزن وثمالة .ما الذي يمكن للمرء أن يقوله للحصيري في أول ظهور له في السماء بمعية زنوبيا ملكة تدمر؟
ليس أفضل من أن نفتتحَ الحوار معه بالسؤال عن أدوات الحانة وطقوس الخمارات.لذلك صافحناه وجلسنا هادئين.وقفز السؤال فجأة:
■ لماذا اخترت أن تكون زجاجة خمر،وتمشي على الأرض؟
_ لست أنا من اختار ذلك. القدرُ السَكْرانُ كان هو المختارُ .وأيضاً هو من قررّ، فاختار لي قدري، كأن أكون رهينة الخمر والتشرد، كما فعل قديماً مع جدي المعري ،يوم أرداهُ رهينة المحبسين : رهين العمى ورهين البيت بالضبط.
■ وهل يشربُ القدرُ الخمرَ يا عبد الأمير ؟
_ يشربُ خمراً ويشربُنا نحن أيضاً دون ثلج ولا مازه.هكذا رأيتهُ: يضعَ الكؤوسَ على طاولةٍ بطول الريح،ثم يبدأ بالاحتساء حتى تصبحُ الأرواحُ زجاجاتٍ طويلةً تتداعى منها القصائدُ .

1942-1978
■ هل تصادقتَ مع ذاك القدر ،لتكون وإياه إلى طاولة واحدة في حانة الوجود؟
_ أجل.وأنا أعرفُ الكثير عن ذلك،فزمني ،جعلَ مني أن أكون النائمُ الأبدي في القعر، وترك القدرَ غطاءَ لقنينةِ الإطفاء والمسكن ؟
■ وكيف كان القعرُ يا عبد الأمير الحصيري :بارداً. أم عَملَ فيه الخمرُ ما كان في غير الحسبان؟
_ القعرُ عند السَكْران، أكثر ارتفاعاً من برج خليفة.تذكرْ ذلك ولا تنسى أهل القعر ،فهم عند الخالق خزائن عشقٍ وشعر واختراع .
■ وما الذي يخترعهُ السُكارَى ؟
_ كل ما على الأرض من مخترعات ،ربما هي نسخٌ عن خيال شعري أو شطح جيني قفز بطفرة وراثية من جينات شاعر إلى عالم في فنون الفيزياء أو التكنولوجيا بشكل عام . لذلك ،فالشعراء هم أول من كرمهم الربُّ بـ ((المخيّلات)) عندما وضعها بأعالي الأجساد، ولم يحشرها مع المصارين وبقية أعضاء البدن وقطع غياره.
■ أنتَ بدأت مُعمماً في مدينة النجف،وانتهيت في بغداد صعلوكاً لا تحدّ تشردهُ جغرافيا ولا تاريخ.فأي نوع من الاستعارة تلك التي كنتها ؟
_ لم أندم على شئ أبداً .فأنا رأيتُ في البوهيمية وجوداً شعرياً مُسنداً من أكابر الفلاسفة ومشتعلاً بنيران أهم شعراء الأرواح ،فيما كانت العمامةُ لغماً مزروعاً على رأسي.الألغام التي تُدفنُ تحت التراب مصائدَ للقتل ،تقابلها ألوفٌ مؤلفةٌ من العمائم أو الألغام المزروعة في الهواء في مهمة مماثلة تخصُ الفساد والدهاء وقتل الحداثة.
■ منْ كان من الشعراء مرجعيةً لكَ في التشرد والصعاليك؟
_ ما أن دخلتُ بغدادَ،حتى توهجت أنفاسي،وشعرتُ بأن جسدي راح يتشكلُ مثل شجرة متحركة، تملأ غصونها اللمباتُ،ساعةً تنيرُ لي درباً فأمضي شبقاً في شرايين الحياة،وتارةً أخرى تنطفئ ،فأكون في داخلي ليس غير أعمى يقودهُ الشعرُ بالصولجان العظيم.هكذا تجمعتُ على نفسي،وتفرقتُ عنها من أجل أن يكون الحصيري مرجعيةَ نفسه.
■ وهل كانت بغدادُ في الستينيات مهيأةً لمرجعية الصعاليك ؟
_ إذا كانت الصعلكةُ تقترنُ بالشعر،فبغدادُ لها تاريخ حافلٌ بالصعاليك.الناسُ في بغداد شعريون بقدر ما يملك الشاعر من حبّ تفيض به قصائدهُ .
■ وكنت تملك فيضاً من ذلك في شعرك؟
_ كلّ قصيدة لي ،هي مشروع لحبّ ما.أتعرِفُ لماذا ؟لأن الشعر نادراً ما يخون.وإذا ما حدث ذلك،يخرجُ من وجدان خبيث فاسد،ليدفن في مستنقعٍ آسنٍ،أو في مدفن للأفاعي.وما كنت خائناً يوماً ،ليندحرَ النورُ في قصائدي،مثلما لم تكنْ شعلةُ الأولمبياد متقدةً في قلبٍ مُثَلِّم كالقلب الذي يئنُ تحت أضلعي تماماً.
■ ربما لأنكَ كنتَ قطاراً يحملُ سككهُ على ظهره،ويمشي على الأرض متعثراً بثقل ثمالته ؟
_ أجل.فأنا لم أعرف كيف أرمي أقدامي على الأرض.خطواتي ظلالٌ تمضي بكل اتجاه ،وتجعلني متبخراً فوق وقائع العالم وأحداثه.كأن حذائي المتعب المتهرئ،هو الآخر يكتب شعراً على وجه التراب العراق الذي أشبعنا ألماً على مرّ التاريخ.
■ ولكنك لم تكن مغامراً في الشعر؟ إلا أن أحداً لا يجرؤ على معاملتك كشاعر كلاسيكي متيم بالقوانين القديمة وحسب .ما ردّك ؟
_ ما أن بدأتُ باستيعاب النظام الخليلي وما كانت تلزم الشعراء من فروض على مستوى العروض والقافية ،حتى بدأت بنبذ ما كان سائداً من حشو وقصص نمطية،لأخرج بنفسي من تلك مراحل الجاهليات النمطية في كتابة الشعر،إلى التركيز على الصور وجعل عوالم الشعر خارج تلك الأقفاص الخليلية القديمة .لم يصبح الشعرُ كلاسيكياً مترهلاً إلا بوجود تلك الأقلام التي برعت بوضع بيضها التقليدي على الورق فقط.فأن تكتب أقلامٌ الشعر،هي غير ما يكتبهُ الوجدان المعتق بالخيال والناهب للمساحات اللغوية دون قيد وشرط.
■ وما الذي اعتمدت عليه في بناء شخصيتك الشعرية ؟
_ لقد طهرّني الكحولُ من جميع قيود اللغة وأمراضها العسيرة ،لأكون شريداً على حسابي الخاص. وذاك جلّ ما رغبتُ به.
■ لماذا الإصرار على الصعلكة كموقف نهائي من الشعر؟
_ لأنني وجدتُ فيها فيتامين الروح الشعرية ليس غير.بل وأبعد من ذلك،حقق لي التشردُ فضولي بالاستغناء عن الحياة الضيقة المملة .فليس سهلاً أن تتشرد أنت في هذا العالم.ضع هذه الفكرة برأسك ولا تنسى .الصعلكة نظام اللاوجوديين .
■ وكانت الأسمالُ التي عليك، فلسفةً وجوديةً تتطابق مع ما في أعماقك من كائنات.أتعترف بشئ من ذلك القبيل ؟
_ ما عليك إلا أن توجه هذا السؤال للشاعر عروة بن الورد.
■ هل لأنكما كتبتما الشعر كمجازفات ،لا تليق إلا بمن أداروا الظهورَ للحياةِ بعزةٍ مثاليةٍ فارغة ،وكذلك بافتخار موروث ومصطنع ؟!
_ شئ من هذا القبيل.
■ كتب أحد النقاد عنك يقول : ((الحصيري كان شخصاً استعارياً حين استبدل النجف ببغداد لما فيها من أجواء منفتحة وجد فيها غاياته، والاستعارة لديه متلاحمة بالدراما. الاستعارة هي الصورة لدى البلاغيين القدامى لأنها هي الإنسان والمجال الواسع. والاستعارة مع الصورة تبلغ وحدة كونية متصوفة، ومن هنا كان الحصيري كائنا متصوفاً بالطبيعة .)) ما رأيك ؟
_ لم تشغلني الآراء .فما أشبهَ النقاد بالذئاب،منهم من يشم لحمك عن بعد،فيمتلئ بشهوة القتل.ومنهم من يغرز أنيابه بجسمك،ليدرك لذّة المذاق ،فيكتب عن افتراسهِ للضحية. أغلب النقاد أكلوني مستلذّين بشعري،ونادراً ما وجدتُ أحداً يعزف عن الجلوس إلى طاولة العشاء الأخير الخاصة بجسد الصعلوك عبد الأمير الحصيري ملك ملوك التصوف في حانات بغداد الرخيصة .
■ ما الخيط الذي يربط ما بين الحصيري وبين التصوف ؟
_ خط نايلون لا أكثر ولا أقلْ .
■ لماذا تؤكد ذلك ،وبهذه الطريقة التهكمية؟
_ لأن التصوفَ وظيفةٌ فاشلةٌ ،ولن يقدر عليها إلا الشعراء المؤرشفين بسجلات المرجعيات الدينية .وثمة فرق حادّ ما بين أن تكون شاعراً مهذباً يؤكل شعره مع لفات السندوتش،وبين أن تصبح ملهماً تطاردكَ الناسُ والشكوكُ والرياحُ تحت تأثير الانتشاء العظيم،لا كما يحدث عند المتصوفة ،ممن يصنعون الشعر لله تحت ظلال الخوف والعزاء والحِداد على الدنيا من أجل الآخرة تَوهّمَاً.
■ ما الذي يغذي شعرَكَ بعد الخمرة يا عمدة الصعاليك ؟
_ الغناءُ العراقي ولمعانُ المنجل والشاكوج وحنجرةُ ثومه والرياح السموم .
■ ما الرابط ما بين هذا وذاك ،وذاك وهذا يا عمدة التشرد والصعلكة؟
_ الغناء العراقي هو حزب العراقيين الأول تاريخياً،لذلك يلزمهُ المنجل والشاكوج كرمز مُؤثر لقطع رأس الحزن الفاجع بالمنجلِ،ومن ثمة تثبيت الفرح والمسرات بالشاكوج .
■وفيما يخص أم كلثوم والرياح السموم ؟
_ أنا والسيدة ثومة اتحادٌ أبدي في الليل.لا أحب أن أقترب من صوتها نهاراً،لأنه يحولّني إلى مُسودّة سكير يسمع نسخة صوت فقط.إما الرياح السموم،فتلك ذكرياتي القاتمة،وهي تسدّ برمالها الرئتين والعينين وحفرة الغرام المفتوحة في الصدر ،تلك التي تئنُ فيها ((خرخاشتي)) المنسية منذ أيام الطفولة.
■ عاب عليك أحد الكتّاب قائلاً : (( لم يمارس احد العبث بنفسه وبشعره كما فعل عبد الأمير الحصيري،واتخذ هذا العبث نهجا للحياة والشعر أيضا، واغلب شعر الحصيري يهتم بالصورة الاستعارية، فهو لا يعتمد السياق السردي، ولا يعتمد البناء المقطعي او القصيدة القائمة على الرموز والأساطير، وإنما يعتمد على البناء الذي يجمع بين الأبيات في إطار الصورة الاستعارية ويجعل اغلب الأبيات قائمة على الصورة أيضا، وهو من الشعراء المعنيين بقوة العلاقة مع الحداثة والتراث، والصورة الاستعارية تحقق له ذلك، لأنها تعد من العناصر المهمة في الشعر العربي القديم، وتعد ذات أهمية فنية في الشعر الحديث الذي يميل الى التشخيص والتجسيم والعلاقة بين العناصر المتناقضة والمتباعدة والمتنافرة )) .ماذا يقرأ السيد الحصيري من وراء ذلك؟
_ هذا هو الكلام الصحيح بالتأكيد . فمنذ ولادتي وأنا أشعرُ ،وكأنني وحيدُ نفسي الذي تجتمع الدنيا عليه،فيحملها على كتفيه ،غير آبهٍ بألم أو فاقة أو جرح.
■ وكنت تشعر بأنكَ تحمل الأرض على ظهرك؟
_ أنا عبد الأمير الحصيري حاملُ الأرضِ ،وليس سيزيف حامل الصخرة.كلما تقدمتُ خطوةً في الزمن،أضفتُ إلى حمولتي شعباً ،ليتأرجح على ظهري دون تعب .
■ تقصد أنك منذ أن خُلِقتَ من الطين ،كنتَ أرضاً يا سيد حصيري ؟!
_ إذا كان الله ربُ تراب في صناعتنا،فليس هناك من يمنعني عن التصريح :
أنا الإله وندماني ملائكتي _ والحانةُ الكونُ والجلاس مَن خلقوا
■ قلت ذلك في بغداد لا النجف .هل جاءت ردود فعلك الشعرية صاخبةً وعنيفة ضد أرض المقابر التي ولدت عليها محاطاً بالجماجم والجثث ومغاسل الموتى والتوابيت الوارد للنجف من عموم دول العالم.
_ أجل.فلم تكن عندي ((دار السلام)) غير مقبرة للأرواح والقصائد والعاشقين.
■ وما علاقتك أنت بالعاشقين.فلقد عشت منعزلاً عن النساء،وصدوداً لهنّ .
_كنتُ أهربُ من النساء ،كما تهرب النعجة من الذئب.ولا أعرف سبباً لذلك حتى الآن.
■ أليس عجيباً أن لا يختلطُ الشعرُ بعطر النساء ،فتتكون القصيدة جسداً متعمقاً بالالتهابات ،نصفه من كلمات ،ونصفهُ الآخر من الشهوة التي لا تُبقي ولا تذر؟!!
_ تخطى الأمرَ يا صديقي،ولا تأتي على ذكر النساء.فلم يُبقِ الخمرُ في جسدي منزلاً للزوجية.فهذي بلادٌ لا زواج بها إلا مع الموت.
■ منْ الذي وسْوسَ لكَ بذلك يا ملك الحانات؟
_ قلبي. وقبل أن يكون من صفحات التاريخ العراقي الدموي الأسود بالجثث وبالحطام . بلادٌ كالتي ولِدنا بها ،ما الذي يسحرُها غير أن تقتلَ الحواسّ تباعاً،وتطردُ عن الرأس الكتفين،وتدفعُ بكَ نحو الهاوية؟؟
■ هل تعتقد بأن ثمة ريح داخلية في جسم الشاعر ؟
_ لا.ولكنني أظن بأن في جسم كل شاعر دونكيشوت مع تابعه سانشو .
■والطواحين ؟
_هي القصائد بالضبط.فلا شعراً ،ولا يطحنُ بمعلقاته البشرَ والصلصالَ والذهبَ والسحابَ .
■ وما موقع سانشو تابع دونكيشوت؟
_ موقعُ سِدادةِ اِلفلّين على رأس زجاجة النبيذ.
■ لا يمكنكُ التخلصَ من النزعة الخمرية في باطنك العميق،فكلما فتحنا باباً،وجدناك سكْراناً هناك!!
_ وهو أفضل من السياسي النهّاب.ومن الطائفي القاتل.ومن التكفيري الذي يحمل سيفهَ تحت دشداشتهٍ،ليأتمرَ بفتوى الأسلاف من أجل جعل الزمن الحاضر عالماً بلا رؤوس .وتحويل بحيرة البجع إلى بحيرة دم.
■ ألا يُصاب عبد الأمير الحصيري بالندم على ما فعله بنفسه في ساعات اليقظة؟
_ كنتُ آكلُ من لحمي على مفقوداتي الحياتية :المأوى والزوجة والأمان واللقمة الطيبة .لكنني وجدت في الندم قبراً أولياً يجب تركه حتى شوط الموت الإكلينيكي. وذلك ما حدث لي .
■ هل لأنك حاولت تقليد موجة ((الخنافس)) وغزو بغداد بفرسان من مقلدي( الهبيز ) واحتلال الأرصفة والساحات سكراً وتسكعاً ونوماً في الحدائق والمباني المهجورة وبارات نهر دجلة الصيفية ،فلم تنجح ؟
_ لم أخطط لأي نوع من المشاريع .كان همّي شعرياً بالضبط.وكانت موجة الخنافس هي دالتنا نحو التحرر من أنظمة العيش البائدة بقيودها الاجتماعية. ومع ذلك فلا يمكن للشعر أن يقارن إلا بسفينة نوح،يحاول أن يكون منقذاً ،فيما هو قائدُ لجحافل التمرد العدمي.
■ وبالاختصار الشديد .لماذا مزقت القانون الاجتماعي دون أنظمة الشعر القديمة التي أبقيت نفسك عليها دون أن تتزحزح قيد أنملة؟
_ أن تزحزحَ الفراهيدي،فأنت تحتاج إلى قوة الإمام علي في دحَي باب خيبر شعري آخر.
■ ربما أنت الأكثر وضوحاً بمناوئة التحول الشعري من الكلاسيكي إلى الحداثوي بمختلف أشكاله. ولكن لماذا ضرب صفعاً عن الدخول في مجرى الشعر الحر أو قصيدة النثر؟
_ حاولت وحاولت.ولكنني سرعان ما كنت أتعثر،فأقع علة وجهي،وكأن الطريق التي تحت قدميّ من صابون.كنتُ أحسُّ بأصوات الإيقاعات القديمة لبحور الشعر،وهي ترتفعُ في رأسي إلى حدود الانفجار، وهو ما حالتُْ دوني ودون أية إيقاعات في الكون.آنذاك ،حسمت أن لا انفكاك عن تعلقي الجنوني بإيقاعات الشعر التقليدي المخمور بـ (عرق زحلاوي) و (عرق مسيح) والخمور الرخيصة الأخرى التي عادةً ما تكون من صنع عائلي يُسمى (هبهب) .وأنا أضفتُ على كل أنواع الخمور البغدادية، طعمَ الشِعر ولذّته الفريدة.
■ تقرير الطب العدلي ذكر أن سبب وفاتكَ المدون في مركز شرطة الكرخ بتاريخ 3/2 /1978 كان عجزاً في القلب .فما الذي أرهق قلب الشاعر،لينتهي ميتاً بأسماله في فندق رخيص؟
_الذين كتبوا التقرير بوفاتي ،تجنبوا الحقيقة كاملة،عندما لم يذكروا بأنني متُ قبل ذلك انتحاراً من فوق جسر الجمهورية ،إلا ان شرطة الحكومة السرية في بغداد،قاموا بمنعي من أنجاز ذلك الموت،قائلين:ممنوع أن تلقي بنفسك من على الجسر إلى مياه دجلة.الانتحار من هنا ممنوع.اذهب إلى الجرف،وانتحر من هناك.تصور أن لا يجد المرءُ حرية الانتحار في بلاه !!
■ وما الذي يمكنك أن تفعله هنا.أي بعد انتقالك إلى السماء؟
_ أن أتحول إلى شبيه جلجامش بالبحث عن الشاعر السعودي الأمير عبد الله الفيصل .
■ هل كان الأميرُ صديقك؟!!
_ لا .ولكنني أريد أن أردّ إليه أمواله من الريالات التي اشترى بها بعض قصائدي ،فأسترد شعري لروحي ثانية بعد مرحلة الانفراج التي أصبحت فيها بعد الموت.
■ وهل تعتقد بأن مخطوطة ديوانك ” أحلام بابل ” التي اختفت نسختها بعد وفاتك مباشرة ،قد وصلت إليه كما الكثير من القصائد ؟
_ ربما. لذلك أريد البحث عنه وطرح بعض الأسئلة التي تخص بيع الإماء والقصائد والإبل والسبايا والخناجر والخيام.
■ ألا تحاول أن تعيش اليوم طقوساً رومانطيقية ،تعويضاً عن أيام الحرمان والتشرد التي مررت بها على تلك الأرض ؟
_ وما أدراك بأنني سعيدٌ هنا .الجنة موحشة بكل هذا الهدوء المميت والأخلاق التي تحولت إلى ما يشبه البهائم النائمة في الشوارع وعلى أبواب الفردوس؟!!
■ أنت ترى التشردَ أفضل من الإقامة في الجنة؟
_ بالتأكيد.فإذا كانت الحرية في عوالم السموات هي المغزى من وجدودنا هنا،فأنا أريد أن ((مَغَثة)) تلك الحرية ،بقبول ما يناقضها .أتعلم لماذا.لأننا غير مهيئين للحرية بعد كل ذلك الطغيان الدموي للقمع والتنكيل والإرهاب النفسي.
■ كأنك تشير إلى أن حريةَ الشاعر الوجودية ،لا تكمنُ إلا بصعلكته؟
_ بالضبط.أنه الحاضنةُ التي تجري بعمقها كلُّ تحولات الشعر والشاعر.
■هل استقامة الشاعر خطٌ أحمر؟
_هذا القول يعجبني .بل وأجده يهزّني طرباً.فما من استقامة تستندُ على الخير والأخلاق في النظام الشعري،إلا وتحوّل القصيدة من بندقية صيد إلى سلحفاة.
■ في كلّ الأحوال،أصبحت خارج دائرة البؤس يا عبد الأمير.وهذا ما سيسعدُ الشاعر محمد مهدي الجواهري هنا.هل اجتمعت به؟
_ لا.قبل أيام رأيته يتجولُ مع المطرب حضيري أبو عزيز،وما أن شاهدني قادماً من بعيد،حتى طفق هارباً مني.حاولتُ اللحاق بالاثنين،إلا أن قوايّ لم تساعدني .
■ولماذا فعل بك الجواهري ذلك برأيك؟
_ربما لأنه لا يريد رؤيتي صعلوكاً من جديد؟ تركاني،ولاذا فراراً ،وكان صوت الأبوذيات يلعلعُ في دروب الجنة دون مكابح.
■ ألا تعتقد بأنهما سقطا في النار يا عبد الأمير ؟!!
_ ولكني لم أرَ ناراً هناك.
■ ولم تحسّ بمثلها بقلبك ؟
_أبداً. قلبي خالٍ من الحطب،فكيف لنار أن تشتعل في فراغ مُفرّغ من الهواء حتى؟!!
■ وإذاً .. فما عليك إلا أن تقوم برثاء قلبك !
_ حتى في السموات،ربما لا يلزمني قلبٌ للنساء .فأنا خارج أعمال الرحم ومنابع الطمث وبلاوي النساء.
■ ومن أين خرجتَ أنت بالضبط ؟
_ من شقٍ كان موجوداً بالأرض ،ثم اختفى.