الدكتور عبد المالك أشهبون
الناقد الدكتور عبد المالك أشهبون، من أبرز النقاد العرب المعاصرين. وهو صديق القاسمي. ومما سمعته من الدكتور القاسمي أنه لما كان الدكتور أشهبون يسكن في فاس، فإن القاسمي كان بين آونة وأخرى، عندما يستبد به الشوق لرؤية أصدقائه في فاس مثل الدكتور أشهبون والأديب الشاعر الناقد الأستاذ إدريس الكريوي، والشاعر الأديب الدكتور عبد السلام المساوي، والناقد الأديب الدكتور عبد الرحيم وهابي، وغيرهم، فإنه يتصل بالدكتور أشهبون هاتفيا ليتكرم بجمع الأصدقاء الأدباء في أحدى المقاهي، ويقود القاسمي سيارته من الرباط إلى فاس، ليلتقي بهم مدة ساعة أو ساعتين ثم يعود إلى الرباط في اليوم نفسه، وقد أمضى حوالي ست ساعات في قيادة السيارة في ذلك الطريق البديع المناظر.
وقد كتب الدكتور أشهبون كثيراً عن أعمال القاسمي، وأصدر كتاباً كاملاً بعنوان “علي القاسمي: مختارات قصصية” نُشر في الرياض والجزائر والرباط وبيروت في آن واحد، وقد خصّ الدكتور أشهبون هذا الكتاب التكريمي بمقدمته لكتاب المختارات القصصية التالية:
“يلوذ القاص علي القاسمي بدوحة الإبداع الوارفة الظلال ليحط الرحال في عوالم “القصة القصيرة”، وهو الباحث الأكاديمي، المتخصص في مجالات المعجم والمصطلح والترجمة وقضايا التربية والتعليم وحقوق الإنسان والتنمية البشرية. ومما لا شك فيه، أن عالَمَ الإبداع عادة ما يعطي لهؤلاء الأكاديميين المتخصصين متنفسا آخر، ورئة أخرى، وهامشاً واسعاً للتعبير عن هموم الذات وهواجسها، أكثر مما تُتِيحُهُ لهم طرق البحث العلمي الدقيقة والصارمة التي ينتهجونها في أبحاثهم ودراساتهم.
فمن خلال عالم الإبداع الرحب يتمكن الباحثون المتخصصون من معانقة اللغة في أجمل مواقعها، حيث تتحرر هذه اللغة من قاموسية الكلمة المباشرة، وعِلْمِية الجملة المحاصرة بالفكرة المعقلنة، ومحيط النظرية الضيق والمحدود الأفق، ويأخذ القول امتداده من اللغة الموحية التي لم تعد في مجال الإبداع مؤشراً أو علامة أو وسيلة صماء.
فعلي القاسمي، الطائر البابلي، القادم من بلاد الرافدين إلى تخوم المحيط الأطلسي، مروراً بمجموعة من الربوع، مكَّنَتْه أسفاره وتنقلاته ورحلاته من امتلاك رصيد هائل من المعارف والرموز الثقافية والاجتماعية والحضارية. وبهذه الموسوعية التي قَلَّ نظيرها، يضاهي الطائر المسافر المحلق في علياء السماء، بل إنه طائر هائل بحجم سِرْبٍ بأكمله، ودليلنا على ذلك عدد الأجنحة المعرفية التي يحلِّق بها القاسمي في سماء المعرفة والإبداع والعلم. . .
وقد كتب القاسمي باكورة مجاميعه القصصية تحت عنوان: “رسالة إلى حبيبتي” (قصص قصيرة 2003)، ثم تناسلت بعدها مجموعاته القصصية تباعاً: “صمت البحر” (قصص قصيرة 2003)، و”عصفورة الأميرة” (قصة للفتيان والفتيات 2005(، و”دوائر الأحزان”(قصص قصيرة 2005)، و”أوان الرحيل” (قصص 2007)، و”حياة سابقة” (2008)، ناهيك عن انشغاله الدؤوب بترجمة روائع القصة القصيرة المعاصرة في أمريكا: “مرافئ على الشاطئ الآخر”(2003)، و”الوليمة المتنقلة” لإرنست همنجواي (2001) و”الشيخ والبحر” لهمنغواي نفسه. . .
وبهذا الرصيد القصصي الوازن ـ إبداعا وترجمة ـ يكون علي القاسمي قد انتقل من موقع الهواية العابرة إلى موقع الاحتراف، سيما أن قصصه القصيرة عادة ما تثير أسئلة كبيرة؛ أسئلة ترتبط بعلاقة الكتابة القصصية بالسيرة، وبالتاريخ، وبالواقع المعيش، وبمدى مساهمة تجربته القصصية في فتح آفاق جديدة في هذا الفن الأدبي. كل هذه الأسئلة وغيرها ستصاحبنا في تقديمنا لهذه المختارات القصصية التي نتمنى أن تكون في مستوى ما يتطلع إليه القارئ العربي.
وفي هذا السياق التقديمي، نشير ـ مسرعين ـ إلى أن مسؤولية انتخاب مختارات قصصية من مجموع الرصيد القصصي الذي يمتلكه علي القاسمي، شكَّلَتْ لنا مأزقا حقيقيا لم نُوضَع في لُجَّتِه من قبل؛ لأن هذا الأمر يمثل بالنسبة لنا امتحاناً عسيراً لمقروئنا القصصي عامة، ولقصص علي القاسمي على وجه الخصوص، في أفق اقتراح باقة القصص المختارة، ومغامرة عرضها على أنظار القراء الأعزاء، ليتقاسموا معنا لذة القراءة العاشقة التي كانت حافزنا في قطف هذه الورود البهية، ووضعها في هذه المزهرية/المختارات النفيسة والبديعة . . .
والأكيد، أن الاختيار في هذه الحالة هو قطعة من نار، خصوصاً إذا تعلق الأمر بفعل المفاضلة ـ الذي لا مفر منه ـ بين فُصُوص عقدٍ بديعٍ من الجٌمَانِ والمُرجانِ، من هنا نؤكد أن هذه المختارات القصصية المقترحة لم ولن تؤثر على قوة وتشويق باقي القصص المبثوثة في مجاميعه القصصية. . .
أولا: سؤال الكتابة القصصية عند علي القاسمي
يختار علي القاسمي أصعب فنون السرد: ألا وهو فن القصة القصيرة، ومكمن صعوبتها أن ظهرها مكشوف، لا تحتمل ترهّلاً قد يخفيه امتداد السرد في الرواية. أما سبب اختيار الكاتب لفن القصة القصيرة فتفرضه عدة اعتبارات أساسية أهمها:
ـ شعوره بكثير من الاطمئنان والارتياح لهذا الفن الأدبي بوجه خاص، وهذا ما يعني أن تشتبه بفن القصة هو مسألة “قصة” عشق نبيل لهذا الفن التعبيري قبل أي شيء آخر.
ـ اعتباره القصة القصيرة أنسب فنون السرد إلى أزمنتنا الحديثة، فهي كما يراها علي القاسمي مكثفةٌ سريعةٌ؛ ولأنها كذلك فقد أدرك القاص، بحسه المرهف، بأن حقيقة زمن القراءة, هو زمن مرتهن للحركة الدائبة, تماماً كما كانت عليه حركية شخصيات تشارلي شابلن في «الأزمنة الحديثة»، بسبب امتلاكها لزمن ضئيل، يحول دون قراءة السرود الطويلة.
ـ تسليمه بأن القصة القصيرة ضرورةٌ نفسية لا ترفاً فكرياً. فالكتابة القصصية لديه تنطلق من انفتاح جرح ما، من تجربة وجودية مريرة تحاصره وترهقه، وتملك عليه حواسه، وتضع على ناظره عصَّابة لا تجعله يرى غير اللجوء إلى عالم القصة لمواجهة أحزانه وأوجاعه بالكتابة عنها؛ فيحوّلها بالتالي إلى رموز سوداء على صحيفة بيضاء، مثله في ذلك كمثل حامل سرِّ لا يستطيع أن يتحمله وحده، فيبوح به إلى أقرب الناس إليه ليخفِّف عنه.

ثانيا: عوالم علي القاسمي القصصية
تهيمن على قصص هذه المختارات مجموعة من المحاور المأثورة في عوالم علي القاسمي الإبداعية، وأهم هذه المحاور التي تحضر بقوة في قصصه، نذكر ما يلي:
1 ـ قصص الطفولة المستعادة ومراتع الصبا الأثيرة:
إن المتأمل في هذه المختارات القصصية لا بد أن تثيره، وتستهوي مخيلته نبرة ألم عميقة مما هو كائن من جهة، وانخطاف لذيذ بلحظات هاربة ولَّتْ ومضتْ، وبأمكنة طفولية بهية مستعادة من الريف العراقي من جهة ثانية. وعلى هذا الأساس المكين، يعمل علي القاسمي على استرجاع ذكريات الصِّبَا التي يعتبرها الأجمل والأبهى؛ لأنها تنتمي لزمن آخر غير هذا الزمن الآني الغشوم، بكل ما يحمله هذا الريف من رموز البساطة، وعناصر الإثارة، وفضاء التَّشَكُّلِ الوجداني والعاطفي والروحي الطفولي.
هي، إذاً، استعادات حلوة عارمة لأشياء وأحداث وصور من الطفولة، وعهد المراهقة الأول، إلى لحظات الإحساس بالرجولة. ذكريات يغمرها التوثب الجامح للمعرفة والتحصيل الدراسي (“الدرس الأول”)، والارتباط الحميم بعناصر الطبيعة الأولى كالنهر والبطة (“وفاء”)، والانتشاء بأحلام اليقظة الوردية في أحضان الطبيعة الساحرة في عز فصل الربيع (“إنه الربيع”)، مروراً بلحظات الإحساس بالرجولة، حين ينقذ الأخ الأكبر أخاه الأصغر من غرق محقق (“السباح”).
فكلما ابتعد الكاتب عن مسقط رأسه، فَقَدَ هذا الاتصال والتواصل الحميم مع مراتع الصبا الأثيرة، بكل ما تحمله هذه الأماكن من حنين وشوق عارمين. ولهذا السبب الوجداني، نذر علي القاسمي نفسه كسادن وحارس لذاكرة هذا الفضاء الريفي الذي انغرس في وجدانه انغراساً، ليتحول بعد ذلك إلى ما يشبه الشجرة السامقة، جذورها تمتدُّ عميقا في هذا المكان/الهنا، وإن كانت فروعها تطول أرجاء أخرى من المعمور/الهناك.
إنها عبارة عن تذكرات يرويها الكاتب بعد سنوات من فراق الأهل والأحباب وتنائي الديار وشط المزار؛ تذكرات شاهدة على مراتع الطفولة وعناصر الإبصارات الأولى، وحالة توهج العشق في قمة فصل الربيع، معتمداً في هذه القصص على إعادة تجسيد عوالم عايشها الكاتب عن كثب؛ هضمها وتمثلها، ثم أعاد إنتاجها عبر مخيلة خلاقة في صياغة قصصية مشوقة، وكأنه يقرر لنا قاعدة أدبية وفلسفية مفادها: أن من لا يعيش طفولة العالم فيه، يستحيل أن يكون أو يستمر كاتباً. . مبدعاً!
2 ـ قصص الغربة والمنفى ودوائر الأحزان الأخرى
لا ترتهن الذاتُ في قصص القاسمي إلا برحلة الخروج نحو آفاق أوسع وأفسح في سبيل طلب العلم والتحصيل، حيث الانطلاق من وضعية تملُّك الوطن إلى الغربة عنه. فكما نعلم أن علي القاسمي لم يعُد إلى وطنه ـ مثل غيره من المثقفين العراقيين المنفيين والمهجرين ـ منذ أكثر من ثلاثين عاماً بسبب أجواء الحكم الشمولي الخانقة للفكر والإبداع والخلق، ثم الاحتلال الأمريكي بكل مواصفاته البغيضة؛ بالإضافة إلى إيمانه بأن التغيير والتقدّم يتمان من خلال نشر الثقافة، والتعليم الجيد، واحترام حقوق الإنسان . . . وهي الشروط المجتمعية التي تنتفي في بلاده في الأعوام الأخيرة مما دفعه إلى تأجيل عودته إلى بلده المحبوب.
فكل من يتفحص بتمعن هذه المنتخبات القصصية، سيلاحظ هيمنة تيمات الغربة والرحيل والمنفى، من جراء رحيل وفراق الكاتب وطنه الأم مكرهاً. غير أن حب علي القاسمي لوطنه الجريح، ومكابداته من جراء هذا المنفى الاضطراري، كان ولا يزال مصدر تعاسته، وجوهر ألمه الداخلي العميق، نتيجة صدمات الإقامة الاضطرارية في بلاد الغربة. وهنا تنصهر كل الرموز والمعارف في نسيج هذه القصص التي تروي مأساة أجيال من المنفيين والمهاجرين والمضطهدين، حيث يلتقط القاسمي ـ بالانخراط والمعايشة والمكابدةـ بعض لحظات انكساراتهم الكبيرة، ومكابداتهم الدائمة وينسجها في قالب قصصي بديع.
ويبدو أن ثمة عاملين أساسين يقفان وراء اهتمام علي القاسمي الاستثنائي بتيمة “الرحيل”، وهما كالتالي:
ـ أولاً: حالة الاغتراب التي عاشها/ويعيشها الكاتب خارج الوطن، خلالها نجد صورة ذلك الإنسان الجوَّال الدائم التنقل والارتحال، من مغادرة ووصول ووداع ومنفى وشوق وحنين إلى الوطن في نهاية المطاف. فكل واحد من الأمكنة التي عاش فيها الكاتب ـ في داخل العراق وخارجه ـ يملك شبكة كثيفة ومركبة من العناصر الجاذبة، تشكل في النهاية جزءاً عضوياً من عملية نموه الفكري، وتكوين وعيه النفسي، وتمكينه من التشبث بقوة بعناصر الانتماء الأولى للوطن الأم . . .

ـ ثانياً: انعكاس حالة الاغتراب هذه على نفسيته، مما ترتب عنها حنين عارم ـ لا يقاوم ـ إلى وطنه الأصلي عامة، وإلى الريف العراقي، حيث مسقط الرأس بصفة خاصة. وعليه، فإن الوطن يظل دائماً هو الملاذ الأفضل لرتق كينونة الذات المتشظية من كثرة الترحال القسري.
وحينما يكتب علي القاسمي عن موضوعات الرحيل والمنفى والغربة، وما حلَّ بالوطن من احتلال؛ فإنه يروم من خلال ذلك، الكتابة عن عالم آخر، بعيدا عن عالم الاستبداد الذي أكرهه في المرة الأولى على التنائي، عالم يتنفس فيه الإنسان العراقي نسمة الحرية الغالية، وبمنأى عن عالم الاحتلال الذي حال دون عودته للمرة الثانية، حيث أمْنُ الإنسان غير مُصانٍ، وكرامته مفتقدة.
ويظل حلم علي القاسمي قائما ومنتظرا مهما صال هذا الطائر المهاجر في الآفاق، وارتاد البلدان شرقا وغربا؛ لأن الجذور تظل راسخة في أرض العراق الذي يحلم الكاتب دائما بالعودة إليه، مهما نأت الديار وشط المزار وطال السفر.
وكأننا بالقاص يكتب، في هذا المضمار بالذات، دوائر أحزانه التي تكبر وتكبر، ومرثية المنفيين في زمن الحروب والصراعات والاقتتال، رافضاً أن يموت الإنسان في سلبية كما هو حاصل في بلده، وحالماً في الآن ذاته بأن شمس الحرية سوف تشرق من جديد، وأن الفجر آت لا ريب فيه، وأن إرادة العراقيين النشامى الصامدة قادرة على اجتراح المعجزات حتى في زمن النكسات والحرائق والمكابدات. وهنا يبدو علي القاسمي في قصصه محرضاً على رفض الاستعمار والاستبداد معاً، فهو يستصرخ إرادة الناس لمقاومة تنين الشر أينما كان، ومهما تعددت رؤوسه، ولكن ليس ذلك الرفض الذي يمتلئ نزعة خطابية متشنجة، وحماسة منفعلة.
يكتب الكاتب، إذاً، ما يشبه السيرة الأسيانة للمغترب البعيد عن وطنه. فما أن يغادر هذا المغترب أجواء بلده الساحرة، ويهبط إلى الأرض التي سيقيم فيها، يلفي نفسه عاجزاً عن التأقلم والاطمئنان، وتنفتح عوالم الحسرة والحزن والحنين في وجهه.
يحط المغترب رحاله في مدن تنسحق فيها الذات تحت وطأة انتشار الآلة في المجتمع الصناعي، حيث أفول الجوانب الروحانية، والإحباط أمام تزايد الحاجة مع مغريات استهلاكية وتضخم مادي لا يرحم، فهي بالتالي أمكنة لا تغنيه عن وطنه الأم، حتى ولو توفر لديه كل ما يرتضيه من رغد العيش(وهي حالة المنافي الأوربية).
فمهما حاول الكاتب إحداث قطيعة مع حياته القديمة والاندماج في الحياة الجديدة؛ فإنه يصطدم بالأمر الواقع، ويكشف أن ما تراكم في نفسيته من عادات وتقاليد يعيق انسلاخه عن هويته، وانتفاضته على مقومات شخصيته الأساس (Personnalité de base)، كما قد ينتهي به المطاف، تارة أخرى، إلى بلد عربي يظل دائما يعيش تحت وطأة معاناته بعدم الأمان، وهواجس المستقبل التي لا تسر المغترب. فكلا العالمين يتسببان في “اكتئاب الكاتب”، فتكون قصصه عبارة عن كلمات تنزف عن ذلك العراق الذي يتربع عرش قلبه. أما رؤية علي القاسمي لعراق اليوم والغد، فملؤها عينٌ تذرف الدموع حسرة على ما آلت إليه أوضاع بلده من جهة، وعينٌ تحدق في الشمس بإصرار وغضب، وكأنها تنشد مع الشابي أنشودته المؤثرة:
فلا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
صحيح أن الكاتب يكتب عن وطن محتل، واقع تحت فوضى عارمة، لكنه يكتب، أيضاً، عن وطن النشامى، ووطن الأجداد الذين لا تكسر شوكتهم محن الحاضر, كما لا تهز الرياح شموخ نخيل العراق الباسقة، ولا تقتلعها من جذورها، وهذا هو الدرس الأبقى من مرثية وطنه الجريح هذا. وهي الرسالة التي يبلغها العاشق حتى الثمالة لحبيبته العراق (“رسالة إلى حبيبتي”).
3 ـ قصص العشق المهدورة:
تغمر مجموعة من قصص هذه المختارات مشاهد حب رومانسية متنوعة ومتعددة، حيث استولت العاطفة الجامحة على بعض الشخصيات، لتحيل المشاهد القصصية إلى لحظات عاطفية شديدة التبتل والبراءة والشكوى، ورسائل عشق تطوي في طياتها قصص حبِّ، شبيهة بقاربٍ صغير بلا مجداف في بحر المجهول، تتقاذفه رياح الحرمان وأمواج اليأس، لينتهي به الرحيل محطماً فوق صخرة الأحزان في جزيرة الوحدة(“رسالة من فتاة غريرة”).
وهنا نشدد على أن العلاقات العاطفية في هذه القصص، تحضر وهي محكومة بخلفيات نفسية واجتماعية مانعة من الارتقاء بها إلى مداها الأقصى، لهذا السبب وغيره نجد كثيرا من هذه العلاقات لا تعدو أن تكون صداقات عاطفية وروحية، لا تتوج بعلاقات جسدية وجنسية.
فكثيرا ما نجد أن تلك التجارب العاطفية هي عبارة عن رد فعل أو تعويض أو مغامرة في المجهول، كما هو شأن قصتيه: “صمت البحر” و”اللقاء”، حيث تعيش النساء تجارب عشق ملتهبة، شبيهة بتلك التي دمرت أعصاب (فان كوخ) عندما أسقطه حظُّهُ العاثر في حب أرملة خرقاء، كلما حدثها عن حبه لها حدثته عن وفائها لزوجها الميت، وتكون النهاية صمتٌ مطبقٌ كـ(“صمت البحر”) بين العشيقين اللذين ينتهي بهما المطاف إلى الاستسلام للأمر الواقع، ما دام فاقد الشيء لا يعطيه، وما دام الموت هو العدم بعينه، فكيف يمكن أن يهبَ العدمُ الوجودَ للشيء؟
فالوفاء للزوج (قصة “صمت البحر”) الميت، يقابله في مثال الوفاء للزوجة الفقيدة (قصة “اللقاء”). فقد كان موت الزوجة ـ هو الآخر ـ سبباً كافياً وحاسماً لعزوف الزوج عن الزواج، وفاء لذكرى زوجته من جهة، وخشية أن يؤثر زواجه على ابنته ـ بشكل أو بآخرـ من جهة ثانية. حتى وهو يجد نفسه وجها لوجه مع محبوبته في فراش النوم، حيث ظهرتْ له فتنةُ جسدها، بكل أنوثته وشبابه وتضاريسه المثيرة؛ فإنه لم يتمكن من التقدم في اختراق الحصن، فقد تمثلت له ابنته وهي نائمة بوداعة في السرير، حيث تحلُّ العاشقة الصغيرة محل البنت، وهنا يعلو صوت الأبوة الحنون على صوت العشق الملتهب.
وها هي “ظلال الحب الملتهبة” تطارد فؤاداً أينما حلَّ وارتحل، بعدما انتهت قصته بحبيبته في سنوات الجامعة نهاية مأساوية. فقد لقيت وفاء مصرعها في حادث انفجار مخزن الوقود في حمام البيت. وبعد سنوات من ذلك، يرفض فؤاد العمل في كلية التربية نفسها التي آوت قصة حبهما، وحينما يقنعه الرجل الكبير ـ في النهاية ـ بضرورة استفادة طلبة كلية التربية من خبرته، وفي نهاية الدرس الأول، نفاجأ بفؤاد وهو ينهار أمام صورة الطالبة التي تتشابه مع صورة حبيبته وفاء. وفي النهاية، تستسمح الطالبة أستاذها المنهار، وتتأسف لما وقع له من جرائها، وتخبره بأنها الأخت الصغرى لوفاء/حبيبته.
هكذا ترتسم لوحة العذاب الرومانسي في نظير هذه القصص؛ العذاب المشبع بالأشجان والعواطف الجياشة، العذاب المنقاد إلى نهايات حزينة كل الانقياد، حتى يشارف صاحبه حالة الانهيار العصبي، كما حصل مع الأستاذ فؤاد.
تفضي بنا المعطيات السابقة، إلى أن نموذج النساء اللواتي يردن في قصص هذه المختارات هن مخلوقات جميلات ومحبوبات، ولكنهن يعانين قهراً نفسياً وجسدياً مسكوتاً عنهما. نساء تكبلهن الأصفاد النفسية والاجتماعية، يجدن أنفسهن في لحظة لقاء حار بهيج غريزي مع الرجل الذي يثير إعجابهن، لكن مسار هذه العلاقات العاطفية، سرعان ما يتحول إلى لقاء بين مخلوقين غريبين، في رحلة هروبهما من حياة يومية رتيبة وكئيبة، تشبه فضاء السجن الخانق.
بهذه النهايات التعيسة، تجفلُ الذات العاشقة من خساراتها، ولا يتبقى لها شيء تمني النفس به غير ظلال حب ملتهبة تظهر وتختفي. وبتعبير آخر نقول: إن آفة التجارب العاطفية المبثوثة في هذه القصص، تبتدئ ملتهبة وجياشة وتواقة نحو التوحد والانصهار، غير أنها تنتهي مطفأة وخامدة، لتصير مشاهد رومانسية حزينة، تحز في نياط القلوب، وتستثير المدامع لرقتها، ونهاياتها المأساوية.
4 ـ قصص التخاطر والاستبصار:
في هذه المختارات، يجد القارئ نماذج من النصوص القصصية التي تندرج في نطاق ما يسمى بـ”علم النفس الموازي” (Parapsychology)، وهو العلم الذي يدرس عادة الظواهر النفسية الخارقة كالتخاطر (télépathie) والاستبصار (Clairvoyance)، وهو القدرة على رؤية ما يقع وراء نطاق البصر، وغيرهما . . .
وتشكل هذه الموضوعات تيمة متميزة في قصص علي القاسمي، بحيث تختلط فيها مظاهر التخاطر بالرؤيات المتباعدة في الزمان والمكان، التي تتحقق في جغرافية هذه النصوص القصصية الطريفة، كل ذلك ينصهر في إهاب من الخيال المجنّح؛عبر التحليق في سماوات الخيال التي لا حدود لها.
ففي قصة “التخاطر”، تنتفي الحدود بين الأزمنة والأمكنة، بين الشخصيات المستحضرة. وهذا هو شأن رابحة المصرية التي التقى بها سليم ذات يوم من سنة 1978 أثناء دورة دراسيَّة صيفيّة كان يشارك فيها أستاذاً وكانت تشارك فيها طالبة، هناك في جامعة الإسكندرية. يعدها الدكتور سليم بالزواج، وما إن غادر أجواء الإسكندرية الساحرة، وهبط إلى الأرض التي يقيم عليها بعيداً عن أرض مصر، ألفى نفسه عاجزاً عن الوفاء بوعده.
وبعد مضي ثلاثين عاماً، يلفي رابحة فجأة تخطر بمشيتها متمهِّلةً نحو جهاز الجري الكهربائيّ في قاعة الرياضة التي تعود سليم ارتيادها، تماماً بنفس الطريقة التي كانت رابحة المصرية تسير بها إلى صالة الدرس في جامعة الإسكندريّة.
وها هو طيف رابحة يعود بقوة إلى حياته، إنها رابحة بلحمها ودمها. تأتي رابحة من بعيد، تعبر الحدود والسدود والأزمنة، لتنتصب أمامه على جهاز الجري الكهربائيّ في صالة الألعاب الرياضيّة، مصرّة على مواصلة تعذيبه، دون أن تترك له فرصةً للنسيان، مهما كانت ضئيلة.
وما يزيد من تأجيج عذاباته، هو مكالماتها التليفونية المفاجئة لسليم طوال تلك الأيام ولم تكن تهاتفه من قبل؛ فأخذت تبارك له العيد وتهنئه بعيد الميلاد، وتطمئن على صحته وسلامته . . . يومها سألته الفتاة التي تشبه رابحة في صالة الرياضة عن سبب تركيز نظره عليها طوال الأيام الماضية، اعتذر إليها سليم، وصرح لها أنه أحب فتاة تشبهها في شبابه إلى حدٍّ غريب عجيب. هكذا أغتنم سليم هذه الفرصة ليقدم نفسه إليها، وما أن طلب منها اسمها حتى ذهل مما سمعه فقد كان اسمها هي الأخرى: رابحة!
وفي قصة “النداء”، تعيش الشخصية صراعا حادّاً بين شرطها الإنساني القاسي، حيث الإحساس بالوحدة والغربة، وبين موت سيدي محمد الذي كان ملاذا آمنا له متى شاء، يستطيع أن يفضي له بمكنون قلبه ويكاشفه بآلامه وبآماله، وما يثقل روحه، خلاله يشعر الكاتب بالارتياح، كما لو كان ذلك الإحباط الذي أثقل روحه قد انزاح شيئا فشيئا، حتى غدا قلبه خفيفاً يسابق الريح. . .
وفي تلك الليلة ألم بالكاتب حلم جميل، وهو يدخل قصرا بديعا يشبه جنة في الأرض، سيجد هناك صديقه سي محمد، وفي لحظة عناق يطلب منه أن يجمع مقالاته المتفرقة التي كتبها عن المغرب ويرجو منه نشرها في كتاب.
كان جرس الهاتف يرن، حينها نهض الكاتب من نومه، وأجابه المتكلم أنه وبعض زملائه من قدامى طلاب الأستاذ سيدي محمد، قاموا بجمع مقالاته التي كتبها بالإنجليزية عن المغرب، وترجموها إلى العربية بقصد نشرها في كتاب إكراما لذكراه، ويرجون منه مساعدتهم في مراجعة الترجمة . . فها هي الأحلام مرة أخرى تصبح حقيقة، ولا يظل هناك فرق بين حياة الحلم وحياة الواقع في مجال التخاطر بعوالمه الغريبة والعجيبة.
أما في قصة “حياة سابقة”، فنجد نموذج الأطفال الذين يتذكرون حياة حقيقية، سابقة، عاشوها في عالمنا المادي هذا قبل أن يولدوا. ويقدم لنا علي القاسمي في هذه المختارات أربع حالات تثبت ذلك:
ـ حالة الطفل الذي ولد وثلاث أصابع من يده اليسرى مقطوعة.
ـ حالة الطفل الذي كان يصرخ رعبا كلما دخل والداه بسيارتهما إلى محطة الوقود.
ـ حالة الطفل الأمريكي الصغير الذي لا يعرف أي من أبويه أو جيرانه لغة غير الإنجليزية، أخذ يتكلم باللغة الألمانية بطلاقة.
ـ وأخيرا حالة الطفل الإسباني الذي يتذكر حياة سابقة.
وكل طفل من هؤلاء يعيش قصة طريفة وعجيبة وغريبة، تجعل القارئ مذهولا ومشدوها أمام مجريات الأحداث، وأطوارها، مما تحمله تلك القصص بين طياتها من مفاجآت وما تكشفه من أسرار.
أما في قصة “موعد في كراتشي”، فنجد أمارات التخاطر في مبادرة البروفيسور أنور ديل بتخمين اسم مرافقه في السفر ولم يسبق لهما أن التقيا من قبل، حيث يذكر أنه استيقظ في الصباح وقال لنفسه أنه سيلتقي بشخص يحبه اليوم اسمه خالد أو علي، وتحقق له ما أراد.
وبعد توطد صداقته بالبروفيسور المشهور، سيهدي لعلي مزهرية صغيرة من المرمر، ويطلب منه أن يضعها على مكتبه في منزله، فهو يحتفظ بمثيلتها على مكتبه في منزله في مدينة سانتا بربارة في كاليفورنيا، فعندما ينظر علي إلى هذه المزهرية، وينظر البروفيسور إلى أختها في الوقت نفسه، سيتواصل الطرفان روحياً، رغم المسافات البعيدة التي تفصل بينهما.
وسيتأكد علي من صحة ما يدعيه البروفيسور حينما سيخبره أنه سيصاحبه إلى كراتشي، سواء أراد أم لم يرد. وذلك ما حصل بالفعل، إذ أخبرته المضيفة أن رحلته قد تأجلت حتى يوم غد لأسباب تقنية، وأضافت أنها تستطيع تحويل تذكرته إلى خط آخر هو: دكا ـ كراتشي ـ لندن ـ الدار البيضاء. حتى وهو يمتطي الطائرة، يفاجئ بالبروفيسور أنور ديل جالسا في المقعد المجاور. . .
فهذه القصص الطريفة لا تضع حدودا بين الموت والحياة، بين الحلم واليقظة، بين المعقول واللامعقول، وهذا الإلغاء لتلك الحدود أعطاها نكهة خاصة، وميسماً لا تخطئه بصيرة القارئ الذي يجد نفسه في عوالم تثير الغرابة والذهول والتعجب، بحيث ينتهي هذا القارئ إلى ضيق المسافة أو انعدامها بين هذين العالمين، ليتحول العالمان في النهاية إلى عالم واحد، يسكنه الأحياء والأموات، السابقون واللاحقون. . .
5 ـ الموت في قصص علي القاسمي:
يستعيد علي القاسمي ذكرياته مع من سكنوا الديار من أهل وأحباب، أولئك الذين كانت لهم منازل في القلب والروح، مع حنين عارم إلى لُقْياهم عندما عزَّ اللقاءُ. يتذكرهم بطباعهم ومميزاتهم وأمزجتهم التي كانت تشكل عنصر تفردهم . . . ففي قصته “ليلة وفاة جدي”، يلتقط القاص ميسما فريدا من نوعه كان يتسم به الجد، بحيث استحق هذا الميسم أن يكون محور تذكرات الكاتب . . . فقد كان الجد يولي أهمية قصوى لأصابع اليدين والقدمين، أكثر من أي عضو آخر من أعضاء الجسد.
فالأصابع، في رأيه، هي عنوان الصحة والعافية؛ لأن نبضها يتصل مباشرة بالقلب، وعصبها يمتد رأسا إلى الدماغ، ألا ترون أن الطبيب يجس الرسغ، قاعدة الكف التي تحمل الأصابع، وجمال المرأة، في نظره، يكمن في شكل أصابعها وتناسقها ونعومتها ونظافة أظافرها.
أما في قصته المؤثرة “الساعة”، فإهداؤها يشي بجلاء أنها عبارة عن مرثية لرفيق درب الكاتب، وأحد أخلص أصفيائه، وهو الأستاذ الجامعي بكلية الآداب بتطوان محمد أبو طالب. فالقصة ـ في مجملها ـ لحظة بوح عميقة وشجية، وزفرة ألم حرَّى من تساقط هذه الطينة الغريبة والعجيبة من الرجال. فكلما كانت تضيق بالكاتب نفسه، وشعر بالغربة تهبط على روحه أسرع إلى شقة صاحبه سي محمد دون موعد سابق، فكان نعم الصديق والمؤنس في لحظات الغمة التي كانت تنتاب حياة الكاتب بين الفينة، من جراء وطأة الغربة التي يعيشها.
كما أن تيمة الموت تحاصر شخصيات الكاتب أينما حلوا وارتحلوا. ففي قصة “الغزالة”، يكون السارد أمام تحدي القتل من أجل أن يظل على قيد الحياة؛ لأنه لم يذق طعاما ولا شرابا طيلة ثلاثة أيام في تلك الصحراء الشاسعة، الخالية من أي نبات أو حيوان أو أي شيء آخر. . . إلا أن من مصادفات القدر، جعلت في طريقه غزالة انتصبت أمامه، فكانت أمله الوحيد للارتواء بدمائها، ريثما تصل نجدة ما، أو تمر قافلة تنقذه من الموت المحقق. . .
خلال تلك اللحظات كان الصراع النفسي رهيبا في دواخل الشخصية؛ صراع مرير ما بين قتل الغزالة، وهي التي تنظر وفي عينيها الجميلتين كل معاني المحبة والرقة والاستعطاف، وغريزة تشبث الظمآن بالحياة، ولو على حساب كائن جميل رقيق كالغزالة. في اللحظة المفصلية والفارقة في حياة السارد الذي كان يقترب من الغزالة شيئا فشيئا، ليغرس خنجره في صدرها، ليفاجأ بذئب شرس ينقض عليه، في تلك اللحظة بالذات يستل السارد خنجره من غمده، ويغرزه في موضع قلب الذئب، لينبجس الدم الحار منه، فيغطي وجهه كله، ويندلق في فمه ويطفئ ظمأه. . .
غير أن أطرف قصة أثارت انتباهنا هي قصة “النهاية”، ففيها يعمد الكاتب إلى طرح فكرة غريبة الأطوار، بمقتضاها تستعجل الشخصية المحورية أوان الرحيل، تحت وطأة ضربات القدر الموجعة والزمن الغشوم. فقد تعددت أسباب استعجال الشخصية الرحيل عن هذا العالم المقرف وتنوعت. فمنذ الصرخة الأولى التي كانت مدوية عند الولادة، احتجاجا على فراق الوليد عالم الرحم الساكن الآمن، مرورا بما عانته الشخصية من آلام في هذا العالم المضطرب الغريب والقاسي، حتى تقاعده، خلال كل تلك الفترات والشخصية تعيش حياة هدوء تام، وسكون كامل، أقرب إلى الخمول في شقتها الصغيرة الحقيرة، التي يعمها صمت شبيه بصمت المقابر.
ولأن هذه الشخصية لم ترغب أن تجد نفسها في حالة جارها الذي لفظ أنفاسه بدون أن يجد من يدفع له ثمن الكفن والقبر، فقد استبقت هذه اللحظة التراجيدية، واتفقت مع شركة دفن الموتى على كل التفاصيل التي بموجبها تتكفل الشركة بمراسم الجنازة، وبكل ما يتصل بذلك، يبقى أن ما ينقص العقد هو شيء واحد فقط، هو تاريخ الوفاة، وهي مسألة وقت لا أقل ولا أكثر حسب تعبير الشخصية نفسها. . .
هكذا يباغتنا القاص بفكرة حرص الشخصية على استعجال أوان الرحيل، وذلك تعبير عن شوق الشخصية إلى المطلق واللامتناهي من جهة، وحنين ـ في العمق ـ إلى موطن الشخصية الأول، إذ يعدُّ الموت في هذه الحالة بمثابة بداية رحلة العودة إلى ذلك الموطن الذي يخلو من آلام القلق الوجودي، الاغتراب المكاني. . .
ثالثا: أسلوب الكتابة القصصية عند علي القاسمي
عندما تقرأ قصص علي القاسمي، وتتأمل هذا الكون الذي بناه كلمة، وجملة، وأسلوبا، وصورة، وتيمة، وطريقته في الحكي، تذهل من هذه البناء المعماري المتماسك، الذي صنعه فنان ماهر، وكاتب متمرس، أضاع بريق عينيه في بناء صرح هذه العوالم القصصية التي استوت شامخة، فجاءت على هذا الشكل القصصي الرائع والبديع والمشوق.
وعلى هذا الأساس، نُلفي بناء الجملة في هذه المختارات القصصية، هي بمثابة العتيد الذي تنبني عليه قوة القصص وشاعريتها، لذلك يتفرغ لها الكاتب، ويعيد صقلها، وصياغة جاذبيتها بقلم الصانع الماهر لا المتحذلق المتصنع، معتمدا على جمالية اللغة القصصية في بعدها المجازي، وانزياحها التعبيري, وتركيبها المحتشد بالترميز والتورية والسخرية، بدءاً من العنوان، وانتهاء بالآخر جملة يسطرها في القصة.
والجدير بالذكر في هذا المقام الفني، أن علي القاسمي ظل محافظاً على المسافة بين الشعريّ والسرديّ. فعلى الرغم من الطاقة الشعريّة المختزنة في نصوصه القصصية، لكنه يظل ممتلكاً ناصية السرد بقوة، مما أعطى قصصه ذلك الطابع التشويقي الجذاب.
كما تمكن علي القاسمي من المزج بصورة بديعة بين الثابت والمتغير في فن القصة القصيرة. فقد حافظ على القواعد الأساسية للقصة القصيرة من جهة، واجترح آفاقاً إبداعية جديدة من جهة أخرى، مبتكراً بذلك قصصاً تتسم بسهولة القراءة, والتشويق, والبساطة, والتكثيف, والجرأة، كل هذا وغيره هو ما جعل قصص علي القاسمي مقروءة ومتداولة على نطاق واسع في عالمنا العربي.
في الختام:
لن نضيف جديداً إذا ذهبنا إلى أن علي القاسمي بدأ الكتابة القصصية كبيراً، فقصصه بلغت الذروة الفنّية التي بلغتها نصوص غيره من كتاب القصة المتمرسين، وذلك بشهادة الكثير من المبدعين أنفسهم قبل النقاد. ولا نبالغ القول: إن علي القاسمي أدركته حرفة الكتابة القصصية متأخرا، ولكنه أبدع فيها، بالأسلوب الذي يرتضيه، وفي المواضيع الطريفة التي يغترفها من مخزون فائض التجارب الحافلة في حياته الشخصية. كل هذه المقومات وغيرها، كانت بمثابة أسس بانية لهذا الصرح الإبداعي الشامخ الذي يمثله القاص علي القاسمي في مجاميعه القصصية ككل.