قصي الشيخ عسكر : ربيكا “بطاقة نعي” (قصة طويلة)

(3)
” كنا نشعر بالهدوء ، وكان الموت يغلي في لبنان.. يرسم بعض علاماته هناك فتتشوش الصورة أمام نواظرنا.. أحد شيوخ آل الداوود ممن أدمنوا السفر كل تموز إلى مصايف بيروت راح يدعو ليل نهار أن لا نصبح ذات يوم مثلهم..”
أما أنا فلم أكن أغادر البصرة إلى أي بلد…
سنوات الدراسة عشت في بغداد، وبعد التخرج أقصد – أيام العطل الرسمية أو عطلة نهاية الأسبوع – الكويت لكنّ رذاذ الحرب تساقط فوق رأسينا هنا في جامعة البصرة أنا والدكتور الدوغجي ،فهل تكون الكويت أول بلد أعيش فيه؟
يوم أمس وأنا في طريقي إلى دائرة الأمن حيث كان ظاهر الأمر يدل على أني لست موضع شبهة، وقتها ،باديء الأمر ظننت القضية تخصّ بعض الطلبة الذين يغادرون إلى لبنان إذ الحرب الأهلية ، قد يظل أحدهم شهرا أو أكثر . أحد هؤلاء عاد بعد شهرين من مشاركته مع جبهة التحرير العربية وقابل الدكتور الدوغجي الذي رفض فكرة الإجازة المرضية، في الوقت نفسه كان هناك توجس من أن الرفض يعني تحديا للمنظمة الحزبية نفسها، ربما خامرني خاطر أنهم سألوا الدكتور الدوغجي فألقى المسؤولية على عاتقي. فكرة متوحشة.. سوء ظن لست نادما عليه فنحن في زمن سوء الظن.. صباح اليوم التالي لزيارتي دائرة الأمن أرسل رئيس الجامعة في طلب الدوغجي..كنت أعرف جيدا خطورة الأمر،فالرئيس الذي اختارته الدولة ليخلف رئيس الجامعة الذي اغتيل من قبل رئيس الاتحاد الوطني ، هذا الشخص يمثل حرفيا تعليمات المنظمة الحزبية وما تمليه عليه بالتالي يصبح مايمليه علينا نحن الأطباء واجبا ننفذه ليس إلا.
– مثلما توقعت.
قلت ممازحا:
– أنا لم أتوقع شيئا.
قضية الإجازات المرضية للمتطوعين في حرب لبنان.
– هل هناك من أمر رسمي؟
– لا لكن علينا أن نمنح أي طالب شارك في حرب لبنان إجازة مدة غيابه.
– يا أخي هذه مسؤولية.
– لديك حل آخر؟
– هل بلغك ذلك رئيس الجامعة؟
قال كأنه يهمس:
– بالحرف الواحد تبليغ وكان كلامه بحضور ممثل المنظمة في الجامعة ومدير الأمن.
قلت قاطبا حاجبي:
– من تقول؟
– مدير الأمن نفسه مطلق.
حسنا مادام الأمر كذلك هم يتحملون المسؤولية. ” وأضفت بعد فترة صمت”
– تخيل طالبا في الطبية أو الهندسة يترك مدة شهرين ثم يعود كيف يستوعب مافاته من دروس !
– لاتفكر بهذا معظم المتطوعين من التربية والأداب !
ربما – ولعلني أكون مخطئا- وجدت الدكتور محمد الدوغجي ساذجا في بعض المواقف.طبيب كفوء لكنني أتحفظ على تقديراته. كان قد غادر العراق عام 1963 إلى ألمانيا الشرقية وبقي بعد التخرج يمارس الطب في برلين ثم عاد عام 1968 إلى العراق ليعمل في الجامعة طبيبا في كلية الطب .كنت أباشر عملي في جامعة البصرة في التنومة أسبوعا وأسبوعا آخر في باب الزبير بكلية الطب حيث الدكتور الدوغجي. في البداية خضت معه أكثر من نقاش. قال لي إنه في سنوات الغربة كان يحن إلى العراق، حتى إنه تلهف إلى كل شيء أيّ شيء كان. شغف بأغاني داخل حسن التي لم أنف من سماعها وهو في البلد . واشتهى أكلة الباميا والكباب…ورأس الخروف..والآن يرى أن الجماعة لديهم منجزات كبيرة مع ذلك هناك أخطاء يمكن أن نغض النظر عنها. أخطاء يمكن أن تكون غير ذات قيمة، كما يحدث في أمر الطلبة المتطوعين في الحرب الأهلية اللبنانية. لاينكر أن الناس لديهم أخطاء ورأيته يتحمس وهو يذكر الحنطة المسمومة التي أودت بحياة بعض الفلاحين. هل هو خطأ الدولة التي سلمتهم بذورا للزراعة وحذرتهم أم خطأ الناس الذين أكلوها بدلا من أن يزرعوها..
حقّا كنت أغفر للدكتور الدوغجي كل ليونته معللا ذلك بسنوات طويلة عاشها خارج العراق جعلته يتشبث في البلد بأية طريقة كانت حتى وإن وجد الغلط صحيحا سوى أنّي في نلك اللحظة أعرضت عن النقاش معه في المستقبل. أعني إن اعتراضني أمام الدوغجي سوف يصبح عائقا يحول بيني والسفر إلى الكويت.إنه سوء الظنّ الذي يجعلني أتخيل نفسي أمام رجل أمن لا طبيب مثلي فكل شيء جائز هذه الأيام زمن الحنطة المسمومة والكوليرا ولعل هناك أمراضا أخرى تندلع عما قريب فأعايشها من جديد.
مساء اليوم نفسه عندما هممت بالخروج من عيادتي دخل علي مدير الأمن نفسه . كان بصحبة شاب في الثلاثين من عمره، فبسطت يدي لهما وقلت:
– تفضلا أهلا ومرحبا.
قلتها وقد خطرببالي نقاشنا هذا الصباح حول الطلاب العائدين من لبنان. أم تراهم يعرضون عليّ أن أفحص المرضى الموقوفين..قال وهو يشير إلى مرافقه:
– أنا المريض أما هو فلا.
راودني خاطر في أن المرافق بقي في المكتب حتى يتأكد من أن عبد الكريم لايسترق السمع:
– زارتنا البركة!
ارتمى على الكرسي، وراحت عيناه تجولان في رسم على باطني على الحائط ثم تنتقلان باتجاه هيكل عظمي صغير خلف درج المكتب وملفات المرضى:
كيف حال الشغل إن شاء الله ممتاز.
– مستورة والحمد لله لكن تعرف أنا شخصيا مع ذلك أرتاح وأشعر بالسعادة كلما قلّ المرضى!
– أنت طبيب ناجح وذو سمعة ممتازة الله ينفعنا بك!
وبحثت عن عبارة أخرى أهرب إليها منه:
– سلامتك؟
فأكّد وهو يهز رأسه:
– القضية مرضا وليست كذلك!
قال عبارته بابتسامة غليظة يكاد ينتزعها من شفتيه.. الابتسامة الباردة نفسها التي بقيت تراوح مكانها ..لزم الصمت لحظات وعيناه تجولان في المكتب تحطان بين الخارطة على الحائط والهيكل العظمي،فاستدركت:
– في هذا العصر كثرت الامراض إنها الحضارة ومشاكلها. وأعباء العمل والإرهاق…
عقّبت وذهني مشغول بفك لغز جديد استبقت الزمن لفك سرّه فابتسم المدير ابتسامة غامضة هذه المرة وعقب:
– فعلا لكن القضية لاتخصني.
أنا المريض ليس هو.. المرض لايخصني خبر جديد أم ماذا؟استنطاق غير مباشر:
– خير سيادة النقيب؟!
– موظف عندي!
– لم أفهم ماتعني سيادتك.
ازداد استغرابي:فأية سكة جديدة تشبه المتاهة فتح دروبها أمامي مريض مصاب بالجرب يتلوى من ألم الزائدة :
– أهو السيد الجالس في المكتب ينتظرك؟
– كلا كلا ” قالها بشيء من الضيق وكنت أود ألا ينساق عبد الكريم مع موظف الأمن في أي حديث”:
– إذن هل هناك مانع من حضور المريض.
عاد تلك اللحطات بابتسامته الباردة الجامدة :
– هو ليس مريضا.
لاكوليرا، ولا زائدة أو حنطة مسمومة.. مرض نفسي. لغز:كانت الكوليرا هذا العام. وقبلها حادث الحنطة المسمومة..عصر أمس،قبل دعوة الأمن لي،شخصتُ في العيادة حالة كوليرا، كانت الإذاعة تعلن عن إصابات في المحافظات وتستثني البصرة. فهل يكفي هذا لئلا يرغب الناس عن شراء تمرنا، أيها العالم لا تخشوا لا كوليرا في البصرة .. التمر نقيّ ،وأنا ثاني يوم أنصت لرجل أمن وهو يحدثني عن مرض مزعوم:
– هلا بيَّنت لي سبب امتناعه عن الحضور؟
– سيحضر بالتأكيد لكني لخطورة وحساسية القضية احببت أن أعطيك فكرة عن الموضوع.
– تفضل أنا مصغ إليك!
– يادكتور الموظف المعني في دائرتي هو في الحقيقة قريبي ..
– أسلوب آخر من أساليب الجماعة في دائرة الأمن أم لغز جديد ..كيف أعالج مريضا غائبا .أي شيء غير أن أنصت وأسمع:
– يعني الاستشارة لأحد غيرك؟!
– شاب طائش على علاقة مع فتاة.
وتعجلت كأني أروم أن ينهي الحكاية:
– تقصد أصيب بمرض ما سيلان مثلا؟
فهز رأسه مضيفا:
– ليت الأمر كذلك إنها ابنة عشيرة معروفة من عندنا من عائلة محافظة لنقل وقعت هي في غرامه فارتكبا ذلك الفعل الحرام.
– حمل؟
– لا فقط الفتاة فقدت عذريتها.
بعد فترة صمت قلت:
هل هناك مانع من أن يتزوجا.
– ليت ..لكن ذلك محال.
– إسمح لي أنتم بمركز ممتاز يحسدكم عليه الكثيرون حتى نفوذكم وسمعتكم…
– طبعا لا . زوجته من عائلة لها وزن . تعرف لها وزن . يمكن أن تنتقم .قد تقع كارثة، ولا أظنها تقبل بحل آخر.
ربما مر خاطر ما في ذهني فتجاهلته وسألت:
– ما ذا ترى يمكن أن أفعل!
– عملية ترقيع بكارة!
هل يكون الأطباء في هذا الزمان قوادين ومخبرين؟ مخبر وقواد في الوقت نفسه..طبيب في الجامعة صباحا وبعد العمل عيادة خاصة..صديقي في العمل الدكتور الدوغجي يحاول أن يهون الأمر. لا أراه قط مصدوما بالقرار الجديد الظاهر الخفي عن الطلبة العائدين من حرب لبنان. أو بعضهم يقال ولست متاكدا فاته امتحان الشهادة الثانوية فدبرت الحكومه أمره في كلية التربية. مايزال صديقي الدوغجي يعيش حلم الاشتراكية.إما يرى الأمور بمنظار ساذج أو أكون أنا ، ربما لم يعرض عليه حد الآن أمراً كهذا.. أو قد يكون واجه عرضا فأخفاه مثلما علي أن أفعل.. ولعل زوجته الألمانية الشرقية التي عاشت ظروف الإشتراكية الصارمة ، وقسوة الحياة هناك رأت العراق جنة على الرغم مافيه من حر ،وانقلابات وأحداث، المهم أن تسافر كل سنة إلى بلدها أو أي بلد آخر. تأكل ماتشاء وتلبس ماتشاء.. رأت كل ذلك فهونت له العيش هنا.. لا أدري .. لا أقدر أمام هذا الضابط الذي ظننته جاء يطلبني لفحص سجناء أو للحديث عن الطلاب العائدين من حرب لبنان، وإذا بي أكتشف أنه يسألني عن ترقيع بكارة ولا مجال أمامي أن أستهزيء بي إلا في مكان آخر بعيد:
– تعرفني لست جراحا أنا طبيب عام ولا أظنني أعرف طبيبا أو طبيبة في البصرة تقوم بمثل هذه العملية اللهم إلا إذا استثنينا بغداد فهناك طبيبة مشهورة شهر عنها قيامها بمثل تلك العمليات الجراحية.
لكنها لست عملية جراحية معقدة يقال وفق ماعلمته إنها شبه عملية.
– فعلا ليست معقدة!
– هناك من يقول إنها عمل بسيط بإمكان أي طبيب أن يقوم به.
– صحيح هذا.
– إذان أملي بك ألا تتردد.
كيف أتردد وأنت تنظر إلي بعينين فيهما الرجاء مشوبا بالتحذير وتواصل:
– بدلا من بغداد والسفر وتوصية إلى طبيبة هناك تستطيع أنت إداء ذلك مقابل أي مبلغ تطلبه!
فقلت مبتسما ببعض القلق، وقد ساورني شكّ في أنّه هو وليس قريبا له:
– علاقة الطبيب بالمريض لاتعني النقود فلاتفكر بهذا قط.
– لكنها أتعابك وحقك.
فنفثت الهواء وقلت كمن يحاول أن يتلاعب بالوقت:
– على صاحبة الشان في هذه الحالة أن تؤدي تحليل الدم وبعض الفحوصات.
ستجهِّز لك كلّ شيء.
فهززت رأسي وفكري معلق بالدكتور نجم وكأن العمل معه نافذة أتنفس منها هواء نقيا:
– متى يأتيان؟
– سوف أبعثهما لك في أقرب وقت.
ونهض فمددت يدي مصافحا وتبعته إلى غرفة المكتب وأنا أردد:
– سيكون كل شيء على مايرام ليس هناك من داع للقلق.
وتنفست الصعداءحين غادر العيادة….
شيء ثقيل انزاح عن صدري ..
صخرة تفتت وتدحرجت كسرها فعلق منها شيء بي تحسه ضلوعي..
وددت أن أبقى هكذا جالسا خلف المنضدة لساعات من دون أن يقتحم عليّ عزلتي أحد.. بالأمس أرادوني جاسوسا من خلال مهنتي.. رجل أمن .. مخبرا..واليوم يعرضون علي فكرة الطبيب السمسار .أيقنت من غيرما تردد أني لابد أن اغادر إلى الخارج ،أي بلد كان بعيدا أم قريبا ..في هذه الحالة تختفي المسافات..على الأقل أرثي لنفسي أو أسخر منها وقتما أشاء لايقيدني مكان ولا زمان ما.. المهم إنه بلد آخر ، فحمدت الله على أننا نقدر أن نهرب.. رجلاي سليمتان على الرغم من أني لم أكن أعرف متى أرجع..
قد أرجع حيا أوميتا.
وقد لاأرجع..قط
لكن أن أكون ميتا حيا في الوقت نفسه فتلك مسألة غابت عن ذهني تماما!

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| كريم عبدالله : كلّما ناديتكِ تجرّحتْ حنجرتي.

مُذ أول هجرة إليكِ وأنا أفقدُ دموعي زخّةً إثرَ زخّة أيتُها القصيدة الخديجة الباهتة المشاعر …

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *