إنَّ القصيدة المشهورة ( جزيرة العرب ) هي نتاج قريحة الشاعر محمد حبيب العبيدي ، صاحب المواقف والاستجابات في السياسة ، وصاحب النظرة والتفسير لامتحان المجتمع العربي بالتردِّي وتفشِّي الفقر والجهل والمرض في دياراته كافة ، والساعي للتغيير والتجديد ومقارعة المستعمر لغاية أنْ آثر الإخلاد للراحة ، وأحلَّ نفسه من كلِّ واجبٍ بهذا الخصوص ، وكذلك في نصيبه من الشاعرية ، ومقداره من التجويد الفني الملازم ــ بطبيعة الحال ــ لما هو عليه من صدق في الإحساس والشعور ، وامتلاك الأداة اللغوية المُسعِفة في صوغ معانيه وخواطره ، وكان أيضا ً موضع عناية واهتمام الباحث المصنف روفائيل بطي ، أثناء تأليفه كتاب ( الأدب العصري في العراق العربي ) ، وضمَّنه شواهد وعيناتٍ كثيرةٍ من أشعاره ، ومنها هذه القصيدة السائرة .
وينتسب الشاعر محمد حبيب إلى عبيد الله بن خليل البصير ، ومن هذا الوجه اصطلح على تلقيبه بالعبيدي ! ، ولد بالموصل عام 1882م ، وتوفي فيها عام 1963م ، وطـُبـِعَ ديوانه عام 1966م ، بعناية المربِّي الراحل أحمد الفخري .
ولنا أنْ نستطرد في بعض الملابسات والوقائع التي تتصل بحياته من قريب أو بعيد ، تذكيرا ً بالمنسيينَ وتعريفا ً بريادتهم المضنية في طوري الإحياء والنهضة ، وكان من ثمارها أنْ صار المنشئون على هدي ٍ من أمرهم في ما يسطرونَ من عباراتٍ يقيمونها على الصحَّة والبهجة والتمام ، ولا يصدرونَ بها عن حذلقة وتكلفٍ ، وجاز لنا أنْ نعدَّ ما نتبجَّح به في يومنا الحالي من دعاوى التجديد والانفتاح ومراس الفنون الأدبية الجديدة ، هو في حقيقة حاله من محصلات جهود ذلك الرعيل المكافح ونتائجها ، وكان يحسُنُ أنْ نأخذ عنهم بعض تواضعهم حتى ما كانوا يتطلعونَ إلى أنْ تكتب عنهم الدراسات النقدية ، كما لم تكن الصحافة على عهدهم قد عرفتْ فنَّ المقابلات وفسح المجال للأديب المتمرِّس والناشئ الواعد معا ً ليفيض كلُّ منها في تجربته الشعرية والقصصية .
لا تخلو حياة هذا الشاعر من بعض المفارقات ، أبينها كونه من مشايعي الدولة العثمانية أيَّام الحرب العظمى ، ويعني هذا معاداته للإنجليز ، وتحفظه حيال الثورة العربية في الحجاز ، وجهره بانخداع قادتها بوعودهم ، وكذا فقد أقتيد من قبل الإنجليز أولاء إلى السجن بمصر ، حين عثروا به أو عليه مقيما ً في بيروت بعد الحرب وخروجهم منها منتصرينَ ، غير أنـَّهم أطلقوا سراحه فعاد إلى الوطن عام 1920م ، قبيل اندلاع الثورة الخالدة ، فكانَ موقفه المساند لها منسجما ً هو وموقفه السابق الرافض أصلا ً لوجود أيِّ شكل من أشكال التدخُّل والنفوذ الأجنبي بمتنوع المدَّعيات والمبرَّرات في أيِّ موطن ٍ وناحية من بلاد العرب .
ووجه المفارقة هذه المرَّة أنـَّه قرن توجُّهه وعزمهُ على مجافاة السياسة البريطانية والمطالبة بالاستقلال الناجز ، نقول قرن ذينك التوجُّه والعزم بالدعوة إلى الوحدة العربية ، أو عبَّر في أدبياته ــ في أدنى حال ــ أنَّ قضايا العرب وآمالهم ومشكلاتهم واحدة على تنائي المسافات وتباعُدِ الديار ، أي أنـَّه صار أميل هذه المرَّة إلى التعاطف مع طموحات قادة الثورة الحجازية وأهدافهم ، منه إلى الاستمرار في انتقاد مسالكهم ومواقفهم التي انساقوا فيها بمحض النيَّات الحسنة والذمم التي لا تستهدي بغير الحق محجَّة ودليلا ً ، إنْ لمْ يُخرِّج لهم من نفسه مثل العذر والتبرير لما استتبع وقوعهم في أسر المكر والخداع والغدر وسرعة التصديق بالوعود الجوفاء ، من محن ٍ ونوازل جرَّاء استحواذ الإنجليز والفرنسيينَ وإحكام هيمنتهم على مرافق العراق والشام ، فأنشد في هذا المعرض مشاطرا ً الحجازيينَ تذمُّرهم ووقوفهم في السابق من تعنت الأتراك وإهمالهم شؤون البلاد وتوانيهم عن القيام بالإصلاحات التي تحدُّ بطبيعة الحال من دواعي الاستياء والسخط :
فِـي سَبيل ِ استقلالِـنا قـد نكـثنا عَهْـدَ إخـوَان ِ دِينِـنا يَوْمَ ثرْنا
كـَمْ دِمَـاءٍ مِـنـَّا وَمِنهُمُ سَـفـَكـنا غيْرَ نجم استقلالِنا مَا رَصَدْنا
فـَـلـِـمـَـاذا تكونُ فِـيْـنا وَصِـيَّـا
…………….
ومن كتاباته النثرية كتابه ( جنايات الإنجليز على البشر وعلى المسلمينَ خاصة ) طـُبـِعَ في بيروت عام 1916م ، و ( النواة في حقول الحياة ) طـُبـِعَ في دمشق عام 1930م .
ونخاله أنهى اتصاله بالحياة العامة ، وألغى حضوره في الوسط السياسي والاجتماعي أواخر ثلاثينيات القرن العشرين ، بعد أنْ كان عضوا ً بمجلس النواب عام 1936م .
ولا مندوحة للدارس الأكاديمي وغير الأكاديمي لشعر ما بينَ الحربين ِ من الإسهاب في مواقفهِ الوطنية ومنطلقاته القومية والنص على اتسام شعره بقدر غير قليل ولا ضئيل من الفنِّ والصدق والصحَّة اللغوية ، مثلما عُنِي به الدكتور يوسف عز الدين ، والدكتور رؤوف الواعظ ، في أطروحتيهما للدكتوراه ، ومثلما شمله به أنيس الخوري المقدسي في تناوله للاتجاهات الأدبية في العالم العرب الحديث ، واحتفظ له به من دالةٍ مشكورةٍ ــ في غير مَن ٍ ولا ازدهاء ــ على فكرة النهوض القومي ، ومعها الدعوة إلى الحرية والتقدُّم باستلهام ماضي العرب الزاهر ، مع الأخذ من الغرب ما يتلاءم هو وحاجتنا ، دونما انسياق في تقليده ، وتغلـُّب مظاهر حياته وبهارجها على بيئتنا في عشوائيةٍ وتخبُّط .
وفي ذاكرة مواطنه الموصلي اللغوي محمد شيت صالح حياوي الكثير من الوقائع والحكايات الطريفة عن أمياله وأطواره في سنيِّه المتأخِّرة ، وما إذا كان عازفا ً إبَّانها عن التمتع بمباهج الحياة ، أو كان لشدَّة حرصه لا يرى كفايته في ما يجده بمتناوله من الطيبات ، إذا راق للحياوي أنْ يسترسل فيها في مجلس ٍ أدبي ٍ بمناسبة تذكره والاستدلال بدور ٍ له في واقعة تاريخية أو معارضة سياسية ، أو سبق ٍ أدبي ٍ إلى المناداة عبر لقياته الشعرية بأماني الشعب وحقوقه المشروعة في غير تسطيح ونزول على مشارب العامة ومراعاة مستوياتهم الذهنية لدرجةٍ مخلةٍ بمقوِّمات الأداء الفني وقواعده ، نقول إذا عنَّ للحياوي أنْ يفرغ لهذا الضرب من الحديث فإنـَّه يضع مجالسيه وسط جو ٍ كلـُّه أنسٌ وبهجة ، لكن لا يعفيك من الإشفاق على ذوي السابقة حين تتطلع على أخطائهم وهناتهم ، بقدر ما يعفيك من المكابرة ويقعد بك عن تنزيه نفسك ، أسفا ً لم أنصتْ بكليتي لحديث الحياوي عن العبيدي ذات يوم ، كان أثناءَه منسجما ً معه ومع نفسه غاية الانسجام ، مشيعا ً في ما حوله من المرح والظرف والاغتباط بالحياة ما لا يظفر به المرء إلا عند الإيفاء بمطالبه وحاجاته .
[1] . مجلة المورد ، العدد ( 3 ) 1976م ، إحياء التراث الشعري في العراق ــ بقلم صباح نوري المرزوك