في مساء بلغت درجة الحرارة فيه ذروتها، من صيف عام 1983، كان الصمت وحده يجمعني بالشاعر حسب الشيخ جعفر. كان الصمت يمتد الي ساعات! وكل منا يقوم برحلته الخاصة..إلا أنني، ربما بدافع اللامبالاة، أو كسرا ً للضجر، أقترحت علي صديقي الصامت، وهو يحدق في الظلام، في ركن من حديقة اتحاد الادباء في بغداد، أن نجري حوارا ً من غير اسئلة مسبقة، ولا مبرمجة، وغير تقليدية. بالفعل، وبعد جلسات منتظمة وعفوية علي حد سواء، دوّنت هذا الحوار، علي آمل ان لا ينشر … إلا في وقت آخر…
– أعتقد انك كنت تحب الرسم؟
ـ بكل جوارحي.
– ولكنك تركت الرسم؟
ـ لأنني لم أرسم في حياتي أية صورة عدا صور المدرسة.
– لماذا أخترت الشعر إذا ً..؟
ـ هو أختارني.
– والآن ألا تحس بخيبة لأنك تركت الرسم؟
ـ لم أتركه…لأنني لم أكن أعرفه، أو أمارسه.
– إذا ً، الشعر، هو تصوير رمزي بالدرجة الاولي.؟
ـ هو لاشيء، وهو كل شيء عظيم في العالم.
– في كثير من قصائدك تحيلنا الي الطبيعة.. نخلة الله مثلا ً…؟
ـ “نخلة الله” رماد وليس طبيعة.
– نعود الي الطبيعة.. ماذا تحب فيها؟
ـ أحب الصخور العالية.. والرمال المحرقة.. والظلال.. الافاعي.. النمور.. الحرائق.. المقابر..ورامبرانت مثلا ً.. وتمثال فروديد… وقنينة فارغة.
– هل تحب نفسك كثيرا ً..؟
ـ أحب الطفولة.
– أغلب من عرفك يشكو من صمتك؟
ـ ليشرب من ماء البحر.
– أي بحر؟
ـ البحر الذي يختاره، وليكن أكثر ملوحة.
– إذا ً أنت ضد الثرثرة، لأنك مع الشعر؟
ـ لأنني أكبر الثرثارين مع نفسي.
– هذه كلمة لدستويفسكي.. أليس كذلك؟
ـ لا أعتقد.. وليكن .. لافرق.
– ما الفرق بين الثررة والشعر؟
ـ لا شيء.
– قبل أن تذهب الي النوم، بماذا تفكر، في الغالب..؟
ـ سؤال صعب! لا استطيع الاجابة عليه.
– عند الاستيقاظ ، بماذا تفكر؟
ـ بالاستيقاظ..أي بضرورة عدم الاستيقاظ.
– أنت تحلم؟
ـ آه … غالبا ً.
– وغالبا ً تحلم أن تستعيد الفرص الضائعة، كما قلت لي؟
ـ صحيح.
– ماذا ستستعيد، لو عدنا بالزمن الي الخلف؟
ـ أن يعود من جديد.
– يبدو لي أنك ضد الجدلية، وضد التطور؟
ـ الجدلية أو التطور أو أي قانون آخر، ليكن في مكانه ولأظل في مكاني.
– لم تجب عن السؤال؟
ـ لقد أجبت.
– أعتقد أنك بهذه الاجابة أقرب الي الفلسفة المثالية؟
ـ أو العكس.
– انك ظريف: شخص يمزح.. وربما يسخر.. وصمتك كأجابتك تخص اللامعقول، أو اللامتوقع؟
ـ بالضبط.
– لماذا تتكلم إذا ً..؟
ـ أنا لا أتكلم، بل أهذي!
– لماذا؟
ـ لماذا؟!
– أتحب المرأة، ماذا تحب فيها؟
ـ المرأة، أي الجمال، أي الجمال الذي فيها.
– المرأة، أعتقد إنها أصل الاسطورة؟
ـ لقد انسكب ماء الجنون!
– هل تعترف بانك شاعر؟
ـ أظن ان نعم.
– ما هو أبسط تعريف للشر من وجهة نظرك؟
ـ هو أصعب تعريف.
– صمتك، ضجرك، وثرثرتك الداخلية، وخبرتك في الحياة، هل لها انعكاس ما في شعرك؟
ـ رماد في رماد.. رماد في رماد..رماد في رماد!
– لكن هذا الرماد، في شعرك، يستحيل الي حياة؟
ـ ومن ادراك..ألا تبدو مبالغا ً هناأو مجاملا ً؟
– نحن نكتب للحياة..اي ننظر الي للخلود من منظور آخر؟
ـ الخلود والحياة فقط…
– هل ديك مشروع قصيدة جديدة؟
ـ هناك مشاريع، أو لا مشروع.
– لو قلنا لك: لسنا بحاجة الي الشعر.. ماذا ستفعل؟
ـ سأصمت.
– لكنك تميل الي الصمت أبدا ً؟
ـ ولكن …!
– أي الاصدقاء تحب؟
ـ الاصدقاء.
– أعتقد انك تحب الطبيعة.. الريف.. أو ذلك الجزء القديم المرتبط بطفولتك… مدينتك “العمارة” وهو الذي نراه منعكسا ً في العديد من قصائدك؟
ـ لقد ذهب مع الريح.
– لكن المستقبل لن يولد من العدم؟
ـ وقد يولد من الرماد.
– أعتقد انك تحب طرفة بن العبد، أكثر من عنترة، وتحب المعري أكثر من المتنبي… ماذا تقول؟
ـ أحب المتنبي أكثر من المعري.. وطرفة أكثر من عنترة كما قلت.
– السياب ..أتحبه..أليس كلك؟
ـ أرجو أن يكون الحديث بدون اسماء .. مع اجلالي للسياب العظيم.
– أتجب المدينة..وهل تراها رمزا ً للحضارة؟
ـ أحب القطب الجنوبي، أو الشمالي، أو روبنس كروزو..أو جزيرة كنز.
– اي انك لا تحب المدينة اصلا ً..؟
ـ أحب السحب الرائعة.. بودلير.
– هل تعرف بودليرجيدا ً..؟
ـ أظن.
– ما هي العلاقة بين طرفة و بودلير؟
ـ أتتذكر نسمات الفجر ..أتتذكرها؟
– في قصائدك عودة الي الماضي، ماذا تقصد بهذه العودة؟
ـ أقصد المستقبل.
– وماذا تقصد بالمستقبل؟
ـ الافق البعيد، أو إذا شئت هناك خط من معاج الماء علي طرفالهور.
– لو لم تكن شاعرا ً ماذا كنت ستكون؟
ـ أي إنسان.
– هل تحب شعرك؟
ـ الضجيج هو السكون الحقيقي.
– لكن الضوضاء مرعبة في الشعر أو في أي مجال آخر..؟
ـ الفلسفة هي الصمت.
– يبدو لي أنك تجب من سيتابعنا من القراء كثيرا ً بهذه الاجابات؟
ـ نم أو لا.
– إذا ً أنت تحب الحياة بدافع الشعر؟
ـ أو العكس.
– هل تخاف من الموت؟
ـ لا.
– هل تود أن تعيش ميتا ً؟
ـ لا.
– هل تحب العكس؟
ـ أي عكس؟
– أي أن تكون ميتا ً داخل الحياة؟
ـ لقد أجبت.
– إذا لم أسألك أي سؤال ماذا تقول؟
ـ دون كيخوت!
– الآن هل تحب الفلسفة؟
ـ الفلسفة؟
– إذا ً تحب الحياة؟
ـ أحب الندي.
– لنترك الشعر.. الموت..الحب.. الطفولة.. فانا يدور في رأسي السؤال التالي: هل كانت حياتك منسجمة مع شعرك؟
ـ تمام الانسجام.
– ولن تقول: واآسفاه؟
ـ ولكنك لم تفهمني كما يبدو ..
– آسف! إذا ً أنت تري في الشعر ما رآه البحتري أكثر من ابي نؤاس؟
ـ بل ما رآه ابو نؤاس.
– البحتري أمتلك التقنية، والاخر امتلك المخيال.. مع ذلك الشعر رؤية للعصر؟
ـ أختلف معك في الطرح.
– لماذا؟
ـ أحب النسيم!
– ألا تري أن القاريء لم يفهمك جيدا ً..؟
ـ ليكن.
– انك تذكرني بعزلة ماركيز؟
ـ لا أظن.
– لماذا كررت استعمال مفردة (أظن) أكثر من مرة، هل لديك شك في الامر؟
ـ لا أعلم والله!
– والآن ماذا تعد للنشر؟
ـ كل شيء!
الجلسة الثانية
– موت هاديء، موت لا نمتلك أن نعترض عليه. إنه لغتنا..وربما له مذاق بلا سر أو لغز! إن هذه العلامة الغامضة (!) تمثل حالة الخوف. هل فكر حسب الشيخ جعفر بالموت..؟ أسأله: هل أعددت عدتك للعالم الاخر؟
ـ لم أفهم السؤال نفسه.
– إذا ً لنعد الي الاساطير السومرية: أي رموز البعث؟
ـ دموزي البعث. الخصب المتجدد: أي الجمال وهو إنانا.
– لماذا هذا العشق للسومريين؟
ـ أظن انه العشق العراقي.. وإذا ما أردت فالتزر المتحف العراقي، لأنك ستري الملكة السومرية ذات التاج الذهبي.
– ما هو تعريفك للخصب شعريا ً؟
ـ الولادة.
– أقصد حرية الاضافة ابداعيا ً.
ـ الاضافة!
– منذ ملحمة (جلجامش)، حني اليوم، لدينا تراث يخص النمو..أي الولادة..كيف تنظر الي ولادة الشعر في مرحلة الظلمة؟
ـ أرجو أن تترك علامة بين جلجامش و (ما) عداه..
– ماذا تقصد بـ (ما) عداه؟
ـ اقصد الفراغ.
– إذا ً أنت، شعريا ً،منذ قصائدك الاولي وحتي اليوم 1983، تحيلنا الي الماضي؟
ـ بل أحيلك الي المستقبل.
وتوقفنا عن اضافة كلمة أخري. كنا نلهو، نسكر، كأننا نخشي واقعة الموت. إن معرفة افكار الشاعر لا تقل غموضا ً واستحالة عن معرفة اسرار البحر. دار حوار عن قصيدة اليوت (الارض اليباب) ترجمة د. عبد الواحد لؤلؤة. قال انها قصيدة عظيمة. وشربنا حتي الثمالة. كن قبل ذلك قد طلب مني ان لا أنشر المقطع الاول في مجلة “الف باء” قلت له: شرط ان نتابع الحوار. وافق. وبدا الامر لي الان اكثر جدية، فعليّ أن أعيد قراءة شعره، وأن يتحول هذا الحوار الي مناطق أعمق. انها، لتكن ـ اتفقنا ـ يوميات شاعر. أو ما يخص رؤيته. في اليوم التالي (الاربعاء) امضينا عدة ساعات من الثرثرة والصمت مع عدد من زملائنا الادباء، ثم هربنا منهم، وجلسنا وحيدين. كان عدد من صابغي الاحذية الصغار يتحدثون عن الشذوذ الجنسي كأمر عادي، يومي. وهناك، حانة (العراق الحديث) عدد كبير من المغمورين والمنغمرين في احتساء عرقهم. إنهم مع الابدية كأنهم تصالحوا مع القدر. كان حسب ينظر في مكان مجهول، كأنه كاهن سومري او بوذي. أمس كنا اتفقنا أن التراث هو تراث الانسان في كوكبنا، وكل البشر الذين يموتون سيذهبون الي مقبرة واحدة: مقبرة الابدية. إذاً: الابدية هي رمز التراث، وهي رمز المستقبل.
– أراك تخشي التلوث؟
ـ لا.
وأكتفي بالصمت. لن أسأله إذا ً. وسأنتظر اللحظة التي يسألني فيها. كانت لدينا تفاحة تقاسمناها. أنا لا أحب التفاح. لكن الشاعر يعاني من التلوث العام: فساد الهواء، والغبار. أتذكر أن صموئيل بيكت قد قال: هذا الغبار لن يهدأ في زماننا. إنه التلوث بمعناه الازلي وليس التلوث السياسي الذي يخص زمننا. من (كرفاجو) حتي (أرجون) هناك قسوة أسمها (التلوث): علي صعيد الروح أو علي صعيد الجسد. وهل يمكن أن نعد الصمت تلوثا ً من نوع ما …؟
ـ الشفافية.
الصمت هو شفافية. هو عزلة. والصمت ، قال: شفافية الروح في اوج صراخها. والصمت يحمينا من الصمت ذاته. يبدو لي اننا بحاجة الي الجدران الفلينية التي حمي بروست نفسه بها من ضجيج المدينة أليس كذلك…؟
ـ أود أن أحتمي من ضجيج القري، والعري المطلق.. أليس قريبا ً من الروح؟
– لكن قرانا ـ في لوحات فائق حسن أو خالد الجادر ـ أو كما هي عليه في الواقع، لا علاقة لها بالضوضاء؟
ـ أنا أعني الماضي. أعني الظل الابدي.
– هل تحب لوحات فائق حسن؟
ـ كلا.
– لماذا؟
ـ لا أعرف.
– كيف تنظر الي اللوحات الي صورت القري عند: الجادر، سعاد العطار، مثلا ً؟
ـ أحب شجرة فان كوخ المجنونة.
– هل تشكو من عصاب معين؟
ـ ربما.
– ولم تفكر قط بالانتحار؟
ـ كلا.
– ألا تري أن هذا ضرب من العصاب ايضا ً؟
ـ لا أدري بالضبط.
– أي شيء تحبه الآن؟
ـ عري امرأة رأيتها قبل أسبوع، كان من الممكن أن أراها اليوم. ربما اراها بعد أسبوع. لقد عرفتها قبل (14) سنة، انقطعت عن رؤيتها أكثر من سبع سنين.
– المرأة، في شعرك، أسطورة أم رمز؟
ـ الاثنان معا ً.
– لكني اراك غير متحمس للحياة، وفي هذه السنوات، أراك غير متحمس للشعر ايضا ً؟
ـ لا أري ذلك.
(جاء د. محسن اطيمش ولطيف ناصر، فجاة. لأن حسب الشيخ جعفر كان قد اخبرهما بمكاننا. لقد أفسدت الجلسة اليوم، وانتهي العمل. 13/9/1983)
الجلسة الثالثة
– الطفولة سر: ذاكرة تستيقظ فجأة، ماذا تبقي من طفولتك؟
ـ كل شيء، أو الظل من كل شيء. أتذكر الماء الازرق. تذكر الطفلة الغريقة في الرابعة من عمرها. أتذكر دموع منتصف الليل حيث الطيف الابيض الغريق يحّوم حول وجهي في ليلة الصيف المفضضة بالندي. ومن الغرائب أن الماء الازرق الجميل، ماء اطفولة، قد تحول الي ذلك الوحش الهائل: وحش الغرق! (بعد صمت) والمعادلة الرهيبة هنا هي الجمال يساوي الوحش.
– الغرق؟
ـ بل الموت.
– هل هذا مثال صوفي؟
ـ أبدا ً..إنما هي الطفولة الغريقة.
– والذاكرة؟
ـ مرآة أخري ، أي المرآة التي تنفتح امامك لتغوص فيها. ليس هناك من سطح، إنه الغوص عميقا ً، والحياة في تجدد آخر.. ولنكن قريبين هنا من نظرية نيتشه في العود الابدي.. إنها مجرد مقاربة.
– نظرية (نيتشه) كما أتذكر في كتابه (هكذا تكلم زاردشت) لا يمثل الرومانسية إلا بصفتها مأساة، اما العود الابدي ، فهي تجسيد لهذه المثالية علي صعيد الفلسفة اولا ً.. وإرادة القوة ثانيا ً.. أليس كذلك؟
ـ أختلف معك في هذا الامر. إن كتاب (هكذا تكلم زاردشت) هو قصيدة نيتشه في الانسان المتفوق. وما من رومانسية هنا، إنما هي الرومانسية، إن صح تعبيرنا، التي هي الظل حول أية قصيدة. اما (العود الابدي) فهي نظرية نيتشه في التاريخ بصفته وجودا ً وكونا ً، أو بمعني آخر ان زاردشت هو الذروة، اما العود الابدي فهو المدار أو الاطار.
– ألا تري أنك تمزج بين الشعر والفلسفة؟
ـ ربما.. الم ْ يكن نيتشه شاعرا ً، بمعني من المعاني، ألم ْ يكن الفلاسفة والاخرون شعراء في إتساع رؤاهم، أفلاطون مثلا ً في محاوراته، أو ماركس في حلمه الرائق.
– أي حلم؟
ـ مدينته الفاضلة.
– لنعد الي الطفولة، من زاوية أخري: هل تحدثنا عنها قليلا ً؟
ـ قد لا أضيف شيئا ً مهما ً الي ما أستطعت تذكره في قصائدي عن الطفولة.
– لكن الشعر ليس وثيقة؟
ـ أظنه في الاغلب وثيقة مهمة.
– طفولتك الخاصة أم طفولة ابناء الهور والانهار..؟
ـ لا فرق، ان طفولتي لا تختلف في شيء مهم عن طفولة ابناء القري الجنوبية: القري المتناثرة كالاعشاش عند حافة الهور: النخل، الماء الازرق الجميل، والقش، الذهاب الي المدرسة مبكرا ً مرتجفا ً من البرد في الثوب الهزيل وحده، حافي القدمين.
– أعتقد أنك عشت طفولة فقيرة، أو انك من هؤلاء الفقراء الذين يمتلكون سر حضارة سومر؟
ـ لكننا لم نعرف سومر إلا في الكتب والاثار، غير انني اظن معك انها جزء من النسغ الحضاري نفسه الذي يتمشي في عروقنا جميعا ً.
– كيف تصف لي والدك وأنت في الخامسة من العمر؟
ـ العمامة البيضاء، وطلع النخل، باختصار سأحدثك عن طفولتي: أكواخ من القصب والبردي، والجاموس سابحا ً في الغدران، والبقر نسوقه الي الحقول والمواقد المتوهجة في الشتاء. الجوع، والبلهارزيا، والملاريا، وحماها تزورك كل ليلة، ثم وقوفي مرة في ساحة المدرسة في التاسعة او العارة من عمري، ولم يكن معي من الدفاتر والكتب إلا اوراق ممزقة، وقد أوقفني المدير امام التلاميذ المصطفين بصفتي نموذجا ًللاهمال والجهل والخيبة!
– ماذا تكن من ذكري لهذا المدير؟
ـ كان قاسيا ًفي تلك اللحظة كالاب الحنون!
– لو لم تكن شاعرا ً، ازاء هذه الطفولة، ماذا كنت ستختار؟
ـ لقد تذكرت اجابتي الاولي عن سؤالك هذا.. وأظن انها كانت الشعر هو الذي اختارني.
– إذا ً، هنا، بالضرورة، نعود الي قرانا الاولي..؟
ـ “مريم الزنارية” و “المياسة والمقداد” ثم “غوركي” في السنة الاولي من المتوسطة. وبالطبع كان المنفلوطي وجبران وطه حسين وتوفيق الحكيم، وأظن ان القائمة ستطول كثيرا ً إذا ما حاولنا التعداد وفي القلب، من هذه الاسماء، الجواهري الذي قرأته قبل غيره من الشعراء. لقد جاء لي والدي بديوانه في اجزائه الثلاثة الاولي، وكنت في السنة الاولي من المتوسطة.
– الآن أود أن تحدثني عن أقدم ذكري تحملها عن والدك؟
ـ لا أستطيع، لأن الام بالنسبة لنا هي الام نفسها. ربما أتذكر بشكل ساطع أن والدتي كانت تساعدني في نقل أو كتابة الوظائف المدرسية، وأظنك تتذكر اننا كنا مطالبين، مثلا ً، بكتابة الخروف العنيد، أكثر من اربع مرات. ربما كان هذا عقابا ً ما، أو مجرد واجب.
– أنا حزين لأنني لم ابق طفلا ً، ما هو شعورك؟
ـ لا أود استعادة الطفولة ، إنما أود كثيرا ً أن أعود طالبا ًأجنبيا ً في موسكو.
– لكن طفولتك هي دمك الشعري، أو السحري؟
ـ ما الفائدة من استعادتها ثانية. لقد
اعطت ما شاءت أو شئت من الصور والتجربة، وقد أود أن أستعيد تلك لليلة المقمرة وأنا اجذف في زورقنا. الفضة تتألق علي النخل والماء، أو أن أستعيد تلكم المسافات الذهبية الشاسعة في ظهيرة ريح عالية: الرز في أوج نضجه، أو إذا شئت تلك الحفنة الفضية أو السمكة أصطادها بالشص، والصورة هنا من (نيرودا) كما أتذكر.
– الشعر يقود الي الانسان.. انه يعود بنا للسير فوق الغام الماضي، وأنت تفعل هذا في الغالب؟
ـ ما أن انتهينا منه لم يعد الغاما ً،إنما هي الذاكرة التي تتوهج في لحظات ما، عن ثراء هائل لم نكن نتصور انه كان رهن اشارة منا لكي ّ يتفتح عن كل مداه، أو هي الذاكرة وقد انفتحت عن أسرارها كلها في ساعة ما، ربما تتذكر هنا (بروست) ورائحة الكعكعة. وبالنسبة لنا نحن القرويين قد تكون صيحة (بطة) في منتصف ليل..! (يتابع بعد صمت) أتذكر أنني في فجر موسكو الجليدي كنت أسمع صوت المجرفة وهي تكتسح الثلوج فأتذكر أمي وهي تحلب البقرة، حيث يتعالي ارتطام الحليب بالانية النحاسية فافيق كأنني قد عدت طفلا ً، وسرعان ما تعيدني أشياء الي حقيقتها.
– الماء، أليس كذلك؟
ـ الماء ذكري طويلة، غير إنما يهزني من الماء هو بلوره الرائق في الكوز، وبالطبع أحب من الماء امتداده الازرق في الانهار العريقة الكبيرة. لقد قال ت. أس، أليوت ذات مرة (ولم أعد أتذكرالنص إنما ظله): لقد كانت الانهار الكبيرة تعني بالنسبة له أهمية خاصة في تجربة الشاعر، والذي يهمني من هذا هو الزرقة الابدية وطائر الشطوط الابيض.
– أنا تجاسرت علي الصمت طوال هذا الوقت ولم أسألك: لماذا زرقة الماء؟
ـ ربما هي الطفلة الغرقي، أو الطفل الذي عثرت عليه مخنوقا ً بحبل وردي في يومه الثاني أو الثالث من عمره وقد حملته مياه نهرنا مفتوح العينين الخضراويتين، فأسرعت بانباء الفلاحين عنه.
– انك تتحدث عن مقبرة، وهي مقبرة الطفولة؟
ـ دع عنك هذه المرارة الشنعيعة رجاء ً. الا تذكر (إيفان) وعذابه في الاخوة كرمازوف؟
– ولكن لكاذا ايفان؟
ـ لأنني لم أقرأ نشيدا ً عن الطفولة في مثل لوعة وصدق دستويفسكي في روايته تلك.
– وماذا عن طفولتك واثرها في تجربتك الشعرية؟
ـ أعتقد أنني تحدثت عن الطفولة بالطريقة التي اراها وافية. اما عن الشعر والبراءة أو انحياز (هيغل) لفلسفة الروح فهي أمور تتطلب تركيزا ً آخر، مثلا ً: بودلير والشر، لقد كان بودلير في (ازهاره الشريرة) أكثر براءة من شعراء جيله مجتمعين، ولست أقول هذا الا تلميحا ً، أي أنني قد تحدثت عن الجانب الذي اعرفه من جيل بودلير (بعد صمت): لم اجد في شعر بودلير، الذي قرأته مترجما ً صورة واحدة بعيدة عن البراءة، كما تفهمها أو أفهمها أنا، أي أن براءة الشعر ليست في شكله أو مادته وإنما هي النبض الدافيء الذي يلمس الافئدة لمسا ً عنيفا ً فيذكرنا بالجمال المطلق، أي البراءة، ولسنا هنا بعيدين عن دستويفسكي خاصة في رواية (الابله) اما في ما يخص فلسفة (هيغل) أي فلسفة الروح أو المطلق: فما أظن أن ثمة صلة بين الشعر البرييء وهذه الفلسفة. الشعر ليس هو التاريخ. الشعر ليس هو التبرير. الشعر هو التوق الابدي الي الجمال المطلق. اما الفلسفة عند هيغل مثلا ً فهي التبرير لكل منعطفات التاريخ بربرية أو إيجابية. الشعر لا يعرف الضرورة. وفلسفة هيغل هي التاريخ بكل ضرورياته حسب نهجه المثالي.
– نعود الي طفولة الماء؟
ـ أما تجد علاقة بين الماء والحلم، أليس الحلم شكلا ً من السباحة في ظلام النوم او الجسد في ظلام المادة. أي الحلم هو مياه المادة، أعني مياه الروح.
– ولكن ماذا، آخيرا ً، تعني أو أعني بطفولة الماء؛ أو براعة ذلك الماضي المحمل شفافية الذكريات الاولي: تلك التي تحمل نبض جمال الماء، التجدد، أو الافق علي نحو خاص؟
ـ الافق اولا ً، أي الرحيل، وهو السر الاول من أسرار المياه. ومن الغريب اننا نجد المياه واحدة في كل تنقلها وتغيرها، أي أنني لا أستطيع فهم تلك العبارة التي قالها الاغريقي: إنك لا تدخل الماء مرتين. فأنا أتصّور أنني أدخل الاء نفسه وفي أية مرة من المرات. أي أنني لا امتلك إلا طفولة واحدة. فالماء بالنسبة لي يبقي ماء ً واحدا ً.. هو الماء الذي سبحت فيه لأول مرة علي يديذ أبي، وكنت طفلا ً في الرابعة او الخامسة من عمري. لست هنا أتحدث فلسفيا ً، إنما أتحدث عن الذكري التي هي باب من أبواب الروح، وليست روحي هي غير ما تمتلك الذاكرة، والماء في طفولتي هو الطريق الذي يكاد أن كون وحيدا ً الي حقيقتي كأنسان. الماء ـ وبالرغم من الغرق ـ هو الجمال الابدي أو الروح في زوحها الي التجسد مادة وشكلا ً. أليست الزنبقة الاولي، زنبقة الماء، هي الجسد الانثوي الاول، الازلي، الذي خضنا غمار اندفاعه وليونته وجبروته؟ أليس الماء المرأة الاولي في حياة كل منا، وأعني اؤلئك الاطفال: أطفال القري.
(21/9/1983)
الجلسة الرابعة
– لماذا هذا الشغف بالتدخين…؟
ـ يذكرني بقصص الصيد.
– هل كان والدك يدخن ايضا ً؟
ـ أبدا ً، لم يكن يدخن.
– لماذا هذا الشغف غير الصحي؟
ـ ألا تجد علاقة بين التدخين والقراءة، أليس التدخين بابا ً من الابواب العديدة المفضية الي الحلم أو التركيز، أو الذهول.
– أي الموت المستعار؟
ـ لا .. إنما هو تأجيل الموت.
– أي اننا داخل مملكة القدر؟
ـ أو داخل مملكة الانسان. فالانسان هو مجموعة أقدار يصبه بعضها ويخطئها البعض الاخر.
– كم سيكارا ً تدخن في اليوم الواحد؟
ـ يختلف الامر من حالة الي أخري. حين أكتب أجد صعوبة بالغة في الاستغناء عن السكائر. ويهمني كثيرا ً أن أواصل التدخين اثناء الكتابة. في القراءة لا، وقد لا أفكر في السكائر إلا بعد مرور وقت طويل. حين أشرب تأخذ السيكارة مكانها الجميل بجانب القدح. قد يمر النهر أيام العطل دون أن أشعر برغبة في التدخين وذلك حين تكون الكتابة مشروعا ً مؤجلا ً.
– هل فكرت، جديا ً، أن تكتب قصيدة ضد التدخين؟
ـ لا أظن أن يخطر في ذهني هذا السؤال. أليس من الافضل أن نكر بقصيدة ضد الكذب، ألا تري أن الكذب عادة أكثر شيوعا ً من التدخين.
– ولكنك مع الحرية؟
ـ لا أؤمن بالحرية! الحرية هي المستحيل. ولماذا نخدع النفس بقصور السراب، وحدائقه؟
– إذا ً نحن ننتحر بشكل أعتيادي؟
ـ أظن اننا بعيدون عن مشكة الانتحار في كل ما طرحنا من اسئلة وأجوبة. قد تكون مشكلة الانتحار هي المسألة الفلسفية الوحيدة عند (كامو)، ون هنا فان الرجوع الي أسطورة (سيزيف) له معناه، خاصة ونحن نعلم ان كامو، الي جانب البحر والمس، أي انه مع الحياة برغم عبثيتها، كما يتصّور الرجل.
– أنا أتذكر رجال الهور الآن، عندما كانوا يعانون من الامراض المهلكة…
ـ المستقبل هو الضمان.
– لكن غذاء الفقراء هو السكائر والشاي، أليس كذلك؟
ـ لقد تحدثنا عن السكائر. أما الشاي فهو شراب الصالحين كما تقول السيدة وداد سكاكيني في (كؤوس الصالحين) كما أتذكر.
– هل تحب الفقراء؟
ـ أنا واحد منهم.
– هل تحب أن تكون ملكا ًأو أميرا ً أو …؟
ـ أحب أن أمتلك منزلا ً متواضعا ً فحسب.
– إذا ً أنت تحس بالخسران..؟
ـ أحس بالخسران في كل لحظة من حياتي!
– وحتي في هذه اللحظة التي نتحدث فيها عن هذا الجانب؟
ـ بل أزيد فأقول أن كوني شاعرا ً هو أنني خاسر..! كان من الممكن أن أتجه الي الطب أو الهندسة، وقد كنت أمتلك في الدراسة المتوسطة معدلات عالية جدا ً كانت تؤهلني لأن أتجه صوب اتجاهات أخري، غير أنني كنت في حلم من هذه الاحلام الذهبية الطائشة التيتلكت (دون كيخوت) والرهط الصالح من أقرانه جعلني أخسر حياتي دفعة واحدة في كتابة الشعر. لقد اخترت صليبي دون محاكمة أو اتهام!
– لكنك تدمر نفسك بنفسك؟
ـ ولقد دمرتها، غير أنني أتذكر أوقاتا ً كنت فيها أسعد إنسان علي الارض، تلك ليالٍ أو أصائل و صباحات كنت فيها كما قال لوركا: أتجول فوق الهضاب الفضية، أو كنت ممتطيا ًأكثر المهور جموحا ً وفتنة، غير أنك لم تعد تمتلك من هذا كله إلا ظلال الذكري وغسقها الاخذة بالتلاشي. الزبد الابيض وطيف النوارس فقط!
– ماذا يعني الموت لديك؟
ـ لا شيء. لقد خلقنا لكي نموت.
– والشعر؟
ـ ربما يكون هو الموت، علي مراحل، أو أن الشعر أو الكلمة شأنها شأن المغامرات الانسانية المتعددة: هو جزء ـ الشعر ـ من الاسلحة يرفعها الانسان في وجه الموت. وهنا أتذكر (دون كيخوت) مرة ثانية: انك تتحدي الموت وتعرف جيدا ً انه هو القهر غير انك في لحظة من اللحظات أو في وهم من الاوهام تشعر انك المنتصر. ولنتذكر هنا قول السياب: كان موتي إنتصاراً. هل تسمح بان أطرح عليك هذا السؤال: لماذا ترهق نفسك في العمل غير المجدي الذي هو عملنا جميعا ً، أعني الكتابة؟
ـ ربما كي لا أسأل نفسي هذا السؤال، أي أنني ارهق نفسي كي لا أعرف أنني أفعل ذلك، أو ربما بسبب هذا الخوف الذي ولدنا فيه، أو ربما لاستئناف ومضات طفولتنا، بدل أن نرغم ـ تحت ثقل الخوف ـ أن نتحول الي أوثان!
(1/10/1983)
الجلسة الخامسة
– الشعر، لديك، عذاب: هل هذا ما أردت أن تقوله في شعرك؟
ـ لم يكن الشعر يوما ً ما عذابا ً، إنما كان في أغلب حالاته نتيجة عذاب هائل: أقصد عذابا ً روحيا ً. غير أنه أي الشعر ـ كلما أتفق الشاعر معه كان شيئا ً كالسعادة أو كالتعب بعد عمل ٍ مضن ٍ. إنما هو في الاحوال كلها عمل الشجرة في ازدهارها وإثمارها، عمل الحقل في نضوجه.
– الشعر ثمرة اجيال، أي ثمرة زمن..؟
ـ أستطيع أن اجيبك بكلمة واحدة هي القمح أو حبة القمح.. أليست حبة القمح خالدة، أليست حبة القمح الواحدة بداية حقل كبير؟
– أنت تتحدث هنا عن خلود النوع، وأنا لا أقد الانواع، وإنما اقصد الشعر…؟
ـ ألم ْ يعش الشعر مع نشوء الحضارات وكسوفها، ألم ْ يعش القمح مع الحقل في اخضراره واصفراره، والاصفرار هنا هو عطاء وطريق الي ولادة جديدة؟ إذا ً لأكن واضحا ً فانا أعني بهذا المثل سيرورة الشعر.
– البذرة تموت، لكن الشاعر يلامس الخلود؟
ـ البذرة الرديئة لا تنتج سنبلة، أي لا تمتلك اتصالا ً بعملية الحياة الخالدة.
– هل تفكر البذرة؟
ـ مادامت حية، ومادامت تمتلك الطاقة علي أن تتحول الي سنبلة فهي إذا ً تفكر بعصارة الحياة فيها.
– لكني أعرف انك لست شاعرا ً من شعراء الطبيعة؟
ـ هل تتصور أو تعتقد بان الطبيعة هي المنظر الطبيعي أيها الناقد الفني؟ أليست الطبيعة في جلستنا هذه تكاد أن تدخل الينا عبر هذا الزجاج؟ ألم ْ يكن قلبك أو روحك مترعين في ليلة ما، أو في يوم ما، بهذه الطبيعة كلها…؟
– الشعر إذا ً إبن الروح: الطبيعة التي هي خارج الانسان وداخله؟
ـ أتفق معك في الكلمات الاخيرة، أي أن حقيقة الطبية في الشعر أو الفن عامة هو ما تحيا به الروح، أي خضرتها. إذا ً أنا هنا في هذا الركنمن المقهي، غير أنني انطوي علي كل ما أستطعت أن أمتصه من تقلبات الطبيعة في الازمنة والامكنة التي عشتها. أنا هنا الطبيعة التي عشت بكاملها، وحين أكتب عن يوم ما وعبر عشر سنين أو عشرين سنة فانني ممتليء تماما ً بطبيعة ذلك اليوم: أي بتحوله الخاص.
– لكن الطبيعة قاسية، فهل الشعر قاس ٍ ايضا ً؟
ـ الشعر صعب.
– لكن الطبيعة جميلة ايضا ً؟
ـ أتذكر لوحة لـ (انجر)، أي الوجه..
– تقصد لوحة الحمام التركي؟
ـ ابدا ً.. إنما هي لوحة امرأة فاتنة كانت أشبه بالايقونة.
– لم ْ أفهم شيئا ً من هذا الكلام ..؟
ـ ان طريقي الي جلجامش قد يكون عبر الملكة السومرية، عبر التاج، أو القيثارة الذهية، كما ان طريقي الي فن العالم قد يكون لوحة لماتس أو كويا.
– حسنا ً إذا افترضنا أن هناك حرية في الاختيار، فلماذا أخترت الشعر؟
ـ قلت في جواب سابق، وكما أستطيع أن أتذكر: ان الشعر هو الذي اختارني. أي كما أتذكر لم اتعمد اختيار الشعر. لقد وجدت نفسي مكبلا ً وحرا ً في الوقت نفسه الي هذه اللعنة.
– إذا ً أنت تتفق معي بان مهنتنا هي صياغة عذابات الانسان، بشكل ما من الاشكال؟
ـ ليس فقط التجسيد الشعري أو الفني في العذاب الانساني، إنما الانطلاق من خلال العذاب الي تصّور الفرح أو السعادة الممكنة، غير انها في الفن عامة هي المستحيلة، إنما في هذا التجسيد الفني يكمن التقريب بين الروح العذبة التائهة وحلمها.
– أنا أحب الشعراء لأنهم يقولون أن معادلة حسابية بسيطة كـ 1+1 = 2 هي معادلة يمكن النظر إليها جماليا ً، أي أن الشعراء يعلمون البشر كيف يكتشفون الحواس التي لم تكتشف طاقاتها بعد ..؟
ـ ليست لدي ّ الشعر إلا حساسة واحدة: هي الحساسية الجمالية إن أمكن القول. ومن خلال هذه الحساسية تبدأ حواس الشعر الاخري؛ التاريخية والاجتماعية والسياسية وغيرها. انني اكره الثياب الزائفة والوجوه الزائفة والاسماء الزائفة، أنني مع الطفولة. مع طفولتي، مع شراع رامبو الورقي في خندق اوروبي مظلم، لأن كل حقيقة رامبو، كما أتصّورها تكمن في هذا الشراع الورقي الذي تذكره رامبو في آخر قصيدة (المركب السكران).
– ما هي ـ هنا ـ وظيفة الشعر؟
ـ ضد القبح، ألم ْ يكن هذا القول وخلاصة الشعر في العالم كله..؟
– لماذا الحروب إذا ً…..؟
ـ الدفاع عن الارض هي الحقيقة الوحيدة التي تتطلب اشتعال الارض، أما ما عدا هذا فهي أحلام شياطين!
– لكن الأرض للانسان؟
ـ لأنسانها، أي أنت أو أنا عراقيان، فليس بروحينا أي معني في التخلي عن أرضنا. الارض هي نحن، والدفاع عنها هو الدفاع عنها أي أن الروح هي الوقود الحقيقي أو الطاقة الحقيقية في الدفاع عن الارض. فالارض اولا ً، وكل ما عدا الارض ينبغي أن يشتعل نارا ً ضد اعداء الارض.
– كانت ملحمة جلجامش قد أعطت حلا ً لمشكلة الخلود أو مشكلة الموت ..؟
ـ لم تضع ملحمة جلجامش أي حل لأسطورة الخلود، أو لمسألة الموت، إنما طرحت الموت كمشكلة فلسفية. وهنا يكمن النبوغ العراقي القديم. فلم تزل مشكلة الموت، فلسفيا ً، كسؤال يستحيل الجواب امام العبقرية والفلسفة، وأنا هنا اعني مشكلة الوجود نفسها، أي أن شاعر ملحمة جلجامش كان قد استطاع أن يضع يده علي المشلة الفلسفية التي ستصبح آخر مشكلة فلسفية أو علمية في التطور البشري. ولنتذكر هنا رحلات الفضاء أو البرامج الفضائية واتجاهاتها، فالنضف الي ذلك: أليس عمر الشمس قصير قياسا ً الي المجرات الاخذة بالنشوء..؟
– لدي ّ أولا ً التعقيب الذي يخص ملحمة جلجامش: أنا أعتقد انها، كما اشار الاستاذ طه باقر اي ذلك: ان العمل ـ البناء/ التعمير/ أو التنمية بالمفهوم المعاصر ـ هو الخلود المتاح للانسان، أن قيمة اعتراضات الانسان تكمن في كفاحه ضد القبح، والرداءة، والكذب..؟
ـ من الممكن القول بهذا التصور: أي أن خلود الانسان هو عمله الحقيقي، غير أن الملحمة لم ْ تكن تقف عند هذا الحد، إنما ان بحث جلجامش في الملحمة شاقا ً ورهيبا ً من أجل الخلود، غير ام جلجامش هو ليس شاعر الملحمة، إنما كان جلجامش موضوعها. وأنا اظن اننا في هذه الاجابة، كما قلتم، بان العمل الفني هو الخلود نفسه. وكما فهمت من سؤالكم اننا في هذه الحالة نستطيع أن نضع الحلول السهلة والمباشرة لكثير من الاسئلة التاريخية أو الانسانية أو الوجودية المعقدة. أتساءل: هل من الممكن أن أجيب عن مسألة الحياة والموت بمثل هذه السهولة؟
– كلا .. ولكن لنعد الي هوميروس: لقد كان الشعر عنده تدوينا ً للحرب، والشعر عنده، كما لدينا في المعلقات وغيرها، مع الحرب: كيف تفسر مفهوم البعد الجمالي لكفاح الشاعر إذا ً..؟
ـ قال (ليسنك): كان تأكيده علي الجمال الاسطوري لـ (هيلين) بانها ذات الحزام الضيق ـ أو الحزام الفضي الضيق ـ أي أن وميروس، كما قال ليسنك، استطاع بهذه الصورة، أو بهذا القول الوجيز أن يظهر الجمال الاغريقي. وبالرغم من أن (الالياذة) كانت ملحمة رهيبة غير ان الجمال الانساني كان متوهجا ً في العديد من مشاهدها، ومن خلال هذا الجمال المتوهج ألم ْ يكن هوميروس الي انب هذا الجمال، والي جانب الحياة؟ أقول أن من الصحيح التوقف هنا عند المشاهد البطولية الاخري: بطولي (فكتور) وبطولة ( أخيل)، غير أن الجمال الانثوي، أي الجمال الابدي هو المتألق فوق هذه الصور كلها. وأنتهت (طروادة) وأنتهي (الاغريق) ولكن التاريخ لم يزل في مسيرته الاعتيادية مستمرا ً ..غير أن (هيلين)، أي الجمال، ألم ْ يعد هو الذروة في هذا الخيال التاريخي كله ..؟
– لكن هذا الشعر مع الحرب، وليس مع السلام…؟
ـ لقد كان شعر هوميروس مع الجمال اولا ً، والجمال هو البطولة مثلما هو الحلم.
– مع ذلك ـ وأنا أتفق معك تماما ً ـ عندما نناضل من أجل الجمال فلماذا لا نجد مفهوما ً جديدا ً للشعر؟
ـ الشعر في الدفاع عن الوطن هو الشعر في الدفاع عن الحرية، أي الدفاع عن الجمال.
– هل يتغير الشعر، أو مفهومه بين عصر جلجامش ومفهوم عصر الفضاء…؟
ـ أظن أنه لم يزل واحدا ً.
– لكن العالم يتطور؟
ـ والشعر يتطور.
– إذا ً المفهوم هنا يلخص فلسفة الشعر..؟
ـ هو الماء المقطر!
– وما هي مسؤوليات الشاعر ازاء هذه الحالات او ازاء العصر…؟
ـ الشاعر امام خيارين: ان يكتب أو يقتل نفسه!
– هل قتلت نفسك؟
ـ حين لا أكتب ، وأتردد بقتل نفسي، أجد نفسي بين حالتين: الخيانة الشعرية أو المصالحة.
# عن جريدة “الزمان” الدولية