ناظم السعود، سلاماً لروحك الطيبة
هدية حسين
لطالما تساءلت: لماذا يترك الطيبون وراءهم كل هذا الوجع في نفوس من عرفوهم، وتصبح الذكريات مجامر القلوب تنثال ولا تنضب بفعل الزمن، بل تتجدد وتبرق مثل نجوم أزلية في سمائنا الملبدة بالغيوم؟
ناظم السعود، الإنسان الذي لم تبرح الابتسامة شفتيه برغم كل الآلام التي مر بها، هو الفقير الغني العفيف الودود الطيب، حيث عرفته أولاً حينما أجرى حواراً معي في بداياتي الأدبية في العام 1993 عندما صدرت مجموعتي الأولى (أعتذر نيابة عنك) وكتب عنها، وعن مجموعتي الثانية (قاب قوسين مني) وحاورني ثانية، ثم جمعنا العمل الصحفي في مجلة الشباب وكان حديث عهد بالزواج ويعاني من أزمة السكن ولم يجد غير غرفة بائسة في إحدى الدوائر عمل فيها حارساً.
وفي تلك الفترة التي عملنا فيها معاً اكتشفت أي معدن أصيل هذا الرجل، لقد كان كتلة من نشاط برغم الظروف الصعبة التي يعيشها، محتفظاً دوماً بابتسامته، وحتى عندما يطرح مشكلته الخاصة فإن الابتسامة لا تفارق شفتيه، لكنها ابتسامة مخلوطة بالمرارة.
ومن بين الانشطة التي أعددنا لها معاً كانت الأمسية الناجحة التي أقيمت في مقهى البيروتي باقتراح منه، والتي أدرتُ فيها الحوار مع الفنان الكبير طالب القره غولي، وحضرها عدد كبير من الفنانين والأدباء والجمهور، لقد كان ناظم السعود سبباً في نجاحها حيث تابع أدق التفاصيل بالتنسيق مع مسؤولي المجلة وأصحاب المقهى.
ناظم السعود، أنا لا أرثيك، فالرثاء لمن يخرجون من الدنيا بلا ذخيرة تُذكّر بهم، الذين هم عبء على من حولهم وعلى الحياة نفسها، أما الخالدون في القلوب من أمثالك فسيتركون لنا ذكرياتهم وحلاوة معشرهم ويصبحون أكثر حضوراً في الغياب وأشد وضوحاً ورسوخاً في الذاكرات.. لن أرثيك، فلقد ذهبت الى العالم الأقل قسوة، الأرحب سعة، الأكثر رحمة واطمئناناً.. لقد أزحت عن كاهلك عبء الحياة التي أعطيتها فكانت بخيلة عليك حد التوحش وجاحدة لنقاء سريرتك، ها قد انتهت حروبك معها واسترحت، تاركاً لنا صدى صوتك وإبداعك، ومُذكّراً بقوة صمودك في وجه الرياح التي لم تهادنها، وستبقى في الذاكرة ما بقينا على قيد الحياة، وسنقشّر الأيام حتى نلتقيك.

…………………………..
قبل مغادرتي العراق بخمسة أشهر أجرى ناظم السعود معي حواراً نُشر بجريدة الزوراء، في يوم الخميس السابع والعشرين من أيار 1999.. حين بدأت بالتحضير لكتابة هذه المقالة وإدراج الحوار ضمنها اكتشفت أنه ناقص، فبحثت في أوراقي عن الجزء الآخر ولم أجد، لعله بقي سهواً في إرشيفي الصحفي الذي فقدت الوصول إليه مع صديقة اختفت تماماً ولم تترك أي عنوان لها لكي أستعيد ثلاث مجلدات وأوراقاً كثيرة من ذلك الأرشيف، فعذراً صديقي ناظم السعود، وعذراً لقرائي، فليست الغاية أن أعيد حواراً مضى عليه وقت طويل لولا الرحيل الفاجع لشهاب سيظل مضيئاً في قلوب محبيه وأصدقائه.
………………………………………………………………………………..
الجزء الأول من الحوار
على الضد مما ينتهجه كثير من الأدباء فإن القاصة هدية حسين حرصت على أن تكون (كاتبة قصة قصيرة) فحسب من دون أي توصيف آخر.. من هنا لم يجذبها لقب (الروائي) أو (كاتبة المسرح) أو (شاعرة) .. إلخ.. فقد شاءت أن تكون مخلصة لفنها الأرحب، القصة.. وأعطت له من قدراتها وتشوقاتها الفنية والفكرية ما سيبقيها في ذاكرة القصة العراقية لأمد طويل.
هدية حسين في قصصها المنشورة ضمن مجموعتها الأولى (أعتذر نيابة عنك) 1993) و مجموعتها الجديدة (قاب قوسين مني 1998) قدمت نماذج فنية جلبت لها الأنظار بقوة وجعلت عدداً كبيراً من النقاد والكتاب يسعون للانتهال من هذه العوالم الجديدة التي خطتها ببراعة.. هنا نحاور هدية حسين القاصة والإذاعية والصحفية في هذه الوقفة.

*في مجموعتك الجديدة (قاب قوسين مني) تدفعين بكتل من الأسرار والأسئلة أمام قارىء قد لا يستطيع كشفها أو التوصل الى الكامن خلفها.. ترى ما هي طبيعة الموجهات الخارجية التي تساعدين القارىء من خلالها على الكشف عن تلك الأسرار أو الأسئلة الملغّزة؟
ـ ليست قصصي عوالم مغلقة الى هذا الحد، وليست أسئلتي ملغزة، إنها أسرار تتسلل الى القارىء الذي أعتمد على ذكائه في فهم ما أريد قوله خارج نطاق السطور، هكذا هو الفن كما أفهمه، أن تُبقي مساحة للقارىء يملؤها من أجل خلق ديمومة التواصل، ولهذا تجد معظم نهايات قصصي مفتوحة، ذلك لأنني أعمد في كثير من الأحيان الى ترك الباب موارباً للقارىء الذي أثق بمخيلته وذهنه المتقد لكي يغزل معي نسيج نهايات قصصي.
*في القصة الأولى (رجل في فنجان) أجدك تمررين بمهارة سردية فائقة لوناً محبباً يُصنف ضمن (الواقعية الإيهامية).. أسألك عن الدوافع التي دعتكِ الى انتهاج هذا المنهج الخاص بالسرد دون غيره؟ وهل أن لطبيعة المرحلة/التاريخ دوراً في إشاعة مثل هذا المنهج لدى القصاصين؟
ـ سأقول لك بصراحة تامة، عندما أكتب لا أفكر بمنهج محدد، ولا يعنيني غير تلك الشخوص التي بدأت تتحرك على الورق ثم تتجول في الأماكن التي أريد لها، وأحياناً قد تنجح تلك الشخوص فتحدد هي اتجاهاتها، وعند ذاك أتبعها وأشاركها نزواتها من دون أن أفقد خيوط اللعبة.. الإيهام، الحلم، الوهم، مع بعض الحقائق المتوارية، عوالم أصهرها وأعيش فيها هرباً من واقع يفرض عليّ اشتراطاته.. في القصة أصنع عالمي الذي أحب دون وصاية من أحد.. أمارس حريتي دون أن أشعر بأن هناك من يطاردني وهماً كان أو حقيقة.. ليس فقط في قصة (رجل في فنجان) وإنما في الكثير من قصصي، أنا أتبع ما يمليه عليّ الظرف النفسي الذي أعيشه لحظة الكتابة والذي يحدد طبيعة القصة واتجاهاتها.